وحسن الاستماع هو أيضًا صفة أخلاقية رائعة علينا أن نتحلى بها ونربي أبناءنا عليها.. وتشتد حاجتنا نحن المربون إليها، تمامًا كما يفعل المحلل النفسي الذي يعتمد في عمله على الاستماع الجيد لا الحديث، فيسرّي مريضه بذلك عن نفسه، ويعرف هو من خلال الاستماع الجيد مشكلة مريضه؛ ومن ثم يتمكن من علاجها.
والصغار لا يحتاجون منّا إلى محادثة فكرية دقيقة، ولكنهم فقط في حاجة لأن يعرفوا أنك – عزيزي المربي- معهم وأنك مهتم بهم وبالاستماع إليهم.
معظم الناس يفضلون الطبيب الذي يستمع إليهم..!
لا شك أن الطبيب الناجح هو من يحسن الاستماع إلى شكوى المريض، ويسأله عن أعراض المرض تفصيلًا، فهذه أول خطوات التشخيص السليم؛ وإلا اشتبهت عليه حالته، وتداخلت الأعراض مع أخرى ليست له، وبالتالي سيخطئ في تقرير العلاج المناسب لمرضه..!
وهذا ما يحدث في بيوتنا غالبًا.. إننا نحرص على الكلام وإصدار الأوامر والتعليمات.. وإطلاق العبارات القاسية والشتائم عندما يخطئ الأبناء أكثر من حرصنا على الاستماع الجيد الهادئ لهم، ومحاولة تفهم حاجاتهم ودوافعهم نحو السلوكيات التي قد تكون طبيعية ولكنها لا تعجبنا أحيانًا، وقد تكون أخطاء حقيقية في أحيان أخرى...
إنّ الطفل إذا أراد أن يتحدث أو يسري عن نفسه فلن تفيده محاضرة وعظية في ضوابط الصواب والخطأ، بل يفيدك ويفيده أن تستمع إليه.. فكل ما يحتاجه الطفل في تلك اللحظة هو فتح الصمام حتى يفرغ ما بداخله من ضغوط وإلا فإن هذا الصمام سينغلق تمامًا ولهذا الكبت تداعياته الخطيرة على الطفل، أو سيفتحه مع أي أحد يبذل له الإنصات والاحتواء.. وهذا ما لا نريده.. بل يجب أن يظل الوالدان هما أقرب الناس وأكثرهم استماعًا واحتواءًا لطفلهما. [محمد سعيد مرسي: حتى لا نشتكي، ص:54 بتصرف].
عزيزي المربي:
أنصت إلى أبنائك، وانظر إليهم، وأشعرهم بأهمية ما يتحدثون فيه مهما كان..
أنصت إليهم بلا لوم أو إصدار أحكام، ولكن حاول دائمًا أن تسألهم وتستوضح منهم الأمر، واجعل الطريق مفتوحًا أمامهم للاستمرار في الحديث والتعبير عن مشكلاتهم ومشاعرهم.
وأنصت حتى لو بدا الكلام مملًا أو مكرورًا:
إذا وجدت أن ما تسمعه من ابنك مملًا أو مكررًا أو قليل الفائدة، أو حتى مستفزًا، فاحرص على ألا يدفعك ذلك إلى ذلك إلى الإعراض التام عنه، بل على العكس حاول أن تسأل نفسك: كيف يمكنني الاستفادة من حديثه؟ واعلم أنه من خلال هذا الحديث يمكنك التعرف على نمط تفكير الابن، كما يمكنك التعرف على القيم الاجتماعية التي صارت سائدة في المجتمع وهي تتسرب إليه، ومن خلال كل ذلك يمكنك استخلاص مغزى مفيد أو إخراج فكرة مفيدة.. فليس من المستبعد أن تعثر على فكرة عظيمة في سيل من اللغو..! [د.محمد بدري: اللمسة الإنسانية، ص:54- نقلًا عن: عصرنا والعيش في زمانه الصعب: د.عبد الكريم بكار].
ولهذه المهارة مفاتيح تجعلك تتقنها وتلج من خلالها إلى عقل طفلك ووجدانه، مثل:
- كن منصتًا لهم بكل جوارحك:
بمعنى أن تتعلم مهارة الاستماع الكامل.. نعم.. الاستماع الكامل للأبناء.. استمع لكل شيء.. استمع للغث والسمين.. لا تقاطع واستمع بأذني عطاء بن أبي رباح الذي كان يقول: "إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه قبل أن يولد فأريه أني لا أُحسن منه شيئًا".
- كن منتبهًا:
إنّ من أسرار تعديل السلوك أن تعطي انتباهك للطفل..
فاترك اهتماماتك جانبًا، اترك متعتك وأعمالك الخاصة، اترك كل هذا واستمع إليهم بعمق وبوعي وبتركيز.. لا تطلب من ابنك أن يسرع في إنهاء الموضوع، ولا تبتعد عنه جسمانيًا أثناء حديثكما.. انظر إليه بعينين ملؤها الاهتمام والتركيز فيما يقول.. انظر إليه وتحدث معه ولاعبه، فإنك إن لم تعطه انتباهك بإرادتك فسوف يضطرك بسوء سلوكه لأن تعطه انتباهك رغمًا عنك..!!
ونحن – عزيزي المربي- ننتبه دائمًا إلى ما نعتبره هامًا ولا ننتبه إلى ما نعتبره تافهًا؛ لذلك فحسن انتباهك لطفلك يعني أنك تهتم به، وأنه شخص مهم لديك..! [عاطف أبو العيد: كيف نربي أبناءنا بالحب؟، ص:73].
- اسمح لهم أن يكونوا في دائرة الضوء:
عندما تستمع لأبنائك.. اجعلهم في دائرة الضوء، وانتقل أنت - من فضلك - إلى الظل قليلًا لتقوم بدورك في الإنصات فقط، فلكي تصبح مستمعًا جيدًا تحتاج أول ما تحتاج أن تسمح لهذا الضوء أن يسقط على أبنائك فترة إنصاتك لهم، وأثناء ذلك.. لا تفكر من أنت؟ وما هي مكانتك؟ وماذا تريد من أبنائك؟
وإنما فكّر فقط فيما يريدون إخبارك به؟ وأي شيء يودّون أن يقولوه لك؟
إذن أنت تحتاج أن تتوقف عن التفكير في ذاتك لفترة تكفي لسماعهم!
- لابد لك من الصبر:
إذا كنت في عجلة من أمرك، فهل يمكنك حقًا أن تستمع لولدك؟
إنّ مهارة الاستماع الجيد تحتاج منك إلى التحلي بالصبر والانتظار والاستماع إلى أن يصل من يحدثك من أبنائك إلى تفريغ كل ما يريد قوله والبوح به، وخلال ذلك لا تنقد ما يقول ولا تُصدر أحكامًا متسرعًا من خلال نصف حكاية..! فإن ذلك الحكم المتسرع قد يدمر الحالة النفسية لولدك حيث تثير في نفسه شعورًا عميقًا بالظلم وعدم الإنصاف.
إنّ دقائق قليلة تنصت فيها بصبر لولدك قد تجعلك تتفادى تضييع ساعات طويلة في معالجة مشكلات ناجمة عن قلة التواصل وعدم الإصغاء الجيد. [محمد سعيد مرسي: أحسن مربي في العالم، ص:240 بتصرف].
- الاهتمام الحقيقي:
الاهتمام الحقيقي هو أساس كل العلاقات البشرية الباقية، أو هو ضمان القوة والاستمرار في العلاقات، وذلك بأن يكون هناك اهتمام حقيقي بالابن وما يريده وما يعانيه، وأن تنوى بالفعل توفير الراحة النفسية له بكل السبل ثم البدء في الاستماع إليه.. اطلب منه أن يحكي لك كل ما يريد من البداية إلى النهاية.. استمع إلى كل ما يقول دون مقاطعة بأيّ كلمة، واعلم أن هذا هو ما يحتاجه الابن على الحقيقة.. إنه في حاجة إلى من يستمع إليه.. في حاجة إلى من يمنحه أذنًا صاغية لكل ما يشكو منه.
- الإنصات الفعّال:
إن مفتاح الإنصات الفعّال يكمن في الرسائل الغير لفظية وفي الاتصال غير الشفوي الذي يرسله الأب لابنه.. من خلال الابتسامة ولغة الجسم وملامح الوجه ونبرات الصوت المعبرة عن الحنان والمتابعة والتفهم لما يقوله الابن، ولنتصور تلك الرسائل أثناء جلسة هادئة يستمع فيها الأب لولده كالآتي:
- اربط علاقة تواصل بين عينيك وعيني ابنك، وتفادى أن تشيح بوجهك عنه، فإنّ ذلك يعنى قلة اهتمامك به وقلة اعتبارك لشخصه.
- اجعل هناك ثمة اتصال جسدي بينك وبينه من خلال لمسة حنان وتشابك الأيدي ووضع يدك على كتفه.. إن ذلك من شأنه أن يدعم التواصل العاطفي بينكما وبالتالي يفتح عنده أجهزة الاستقبال للرسائل التربوية الصادرة منك إليه.
- علّق على ما يقوله – بين الحين والآخر – دون أن تسحب الكلام منه.. مبديًا تفهمك لما يقوله من خلال حركة الرأس أو الوشوشة الميمية وغير ذلك.
- ابتسم باستمرار وأبد ملامح الاطمئنان لما يقوله الابن، والانشراح بالإنصات له مع الحذر من إشعاره بأنك تتحمل كلامك على مضض أو أنه مضيع لوقتك.
- متى ما وضحت الفكرة وتفهمت الموقف، عبّر لابنك عن ذلك وأعد عليه باختصار وبتعبير أدق ما يريد إيصاله إليك.
وأخيرًا..عزيزي المربي:
إن الإصغاء الجيد للطفل هو المهارة الصامتة لكل مربي ماهر، وهو خطوة ضرورية في طريق التربية الإيجابية الرشيدة ولا غنى عنه لنجاحها.. وكما نخصص وقتًا للاهتمام بشراء ما يحتاجون إليه، ووقتًا آخر للعناية بصحتهم ونظافتها؛ فكذلك نحن نحتاج أن نخصص وقت للإنصات لهم مهما قل ذلك الوقت..!
المراجع:
- اللمسة الإنسانية: د.محمد محمد بدري.
- كيف نربي أبناءنا بالحب؟ عاطف أبو العيد.
- حتى لا نشتكي: محمد سعيد مرسي.
- أحسن مربي في العالم: محمد سعيد مرسي.