ديمة محبوبة

لم يخطر في بال روان، الأم الثلاثينية، أن ابنها كريم يعاني من مشكلة صحية تؤثر على تركيزه في المدرسة. كانت تظن أن تراجعه في الدراسة نابع من كسل أو قلة رغبة في التعلم، فكانت تعاتبه على تراجع مستواه، وتوبخه حين يعود بنقاط متدنية، وتكرر أمام المعلمات: "ابني ما بحب الدراسة".

لم يخطر لها قط أن المشكلة قد تكون في عينيه؛ فعندما اصطحبت ابنتها الكبرى ذات يوم لفحص نظرها بسبب صداع متكرر، اقترح الأب أن يرافقوها جميعا للفحص من باب التشجيع. وكانت الصدمة حين تبين أن كريم هو فقط من يعاني من انحراف شديد في العينين وضعف في البصر.

تقول روان: "الدكتور شخص الحالة إن كريم لديه درجات انحراف مرتفعة، وضعف في الرؤية من سنوات، وهذا السبب أن يرى الدنيا بزوايا ضيقة ومعتمة.. وهي كل الوقت كانت تظنه متكاسلا عن فتح كتاب".

وعندما ارتدى كريم نظارته للمرة الأولى، سألته والدته بدهشة: "لماذا لم تخبرني يا ماما أنك لا ترى جيدا؟"، فكانت إجابته صدمة جديدة لم تستطع تجاوزها، حين قال لها ببساطة: "كنت اعتقد أن الجميع يرى كما أرى".

قصة كريم تتكرر بصور متعددة مع مئات الأطفال الذين يحملون في أجسادهم مشكلات صحية خفية، لا تظهر أعراضها بشكل واضح، وغالبا ما يساء فهمها أو تفسر خطأ على أنها كسل أو عصبية أو ضعف في القدرات الذهنية.

ورغم توصيات الأطباء المستمرة بأهمية إجراء الفحوصات الدورية للأطفال منذ أشهرهم الأولى، إلا أن كثيرا من الأهالي لا يرون ضرورة، لذلك ما لم يشكو الطفل من أعراض واضحة أو ألما مباشرا.

غير أن التأخر في اكتشاف بعض المشكلات الصحية قد ينعكس سلبا على نمو الطفل وسلوكه، وقد يحكم على سنوات من حياته بالتراجع الدراسي أو الانعزال، أو ضعف الثقة بالنفس.

ويؤكد طبيب الأسرة، الدكتور مخلص مزاهرة أن "الأطفال لا يعبرون دائما عن شعورهم بالألم أو الضعف بالطريقة التي يتوقعها الأهل، كما أن بعض الأعراض لا تظهر بشكل واضح، لا سيما في حالات مثل ضعف السمع، أو نقص الحديد، أو اضطرابات الغدة الدرقية".

ويضيف: "لذلك، يعد الفحص المبكر والدوري الضمان الحقيقي لتفادي هذه المشكلات قبل أن تترك أثرها على مستقبل الطفل".

ويرى الدكتور مزاهرة، أن كثيرا من الأهالي يقعون أحيانا في فخ الانتظار، معتقدين أن المشكلات الصحية ستظهر من تلقاء نفسها، أو أن الطبيب هو من يفترض به أن يبادر بطلب الفحوصات. في حين أن العديد من الفحوصات الوقائية تستلزم مبادرة من الأهل أنفسهم، خصوصا تلك التي تتعلق بنمو الطفل الجسدي والعقلي، وقدرته على التعلم والتفاعل الاجتماعي.

فرح، والدة الطفلة سارة، لاحظت أن ابنتها لا تستجيب سريعا عند مناداتها من غرفة مجاورة. كانت تظن أنها "شاردة الذهن" أو غارقة في أفكارها، كما تقول. لكنها لم تكن تتوقع أن السبب كان ضعفا متوسطا في السمع في الأذن اليسرى، ظل دون تشخيص حتى سن السادسة، حين بدأ معلم الموسيقى يلاحظ أن الطفلة تميل برأسها في كل مرة يُطلب منها الاستماع إلى نغمة معينة.

تقول فرح: "أشعر بالذنب كلما تذكرت أنني لم أُجرِ لها فحص السمع في وقت أبكر. ظننت أن المشكلات تظهر وحدها، لكن هناك أمور لا تكتشف إلا بالفحص. للأسف، تجاهلت الفحص الذي أوصت به المدرسة".

ولا تقتصر أهمية الفحوصات الوقائية على السمع والبصر فحسب، بل تشمل أيضًا فحوصات الدم التي تكشف عن حالات شائعة مثل نقص الحديد، أو انخفاض مستويات فيتامين D، أو اضطرابات الغدة الدرقية، وجميعها تؤثر بشكل مباشر على نشاط الطفل ونموه ومزاجه وسلوكه.

ويشير حسين جبر، وهو مسؤول سابق في أحد المختبرات، إلى أن نتائج فحوصات الدم الواردة من عيادات الأطفال تظهر، بشكل مقلق أن نسبة كبيرة من الأطفال يعانون من مشكلات غير مكتشفة مثل فقر الدم أو نقص الفيتامينات، أو حتى مؤشرات على التهابات مزمنة. ويؤكد أن "جميع هذه الحالات يمكن التعامل معها بسهولة إذا ما اكتُشفت في الوقت المناسب". ويضيف جبر أن فحص الدم الكامل (CBC)، ومستوى الحديد، وتحليل فيتامين D، ووظائف الكبد والكلى، هي من أكثر الفحوصات التي توضح الصورة الأولية لصحة الطفل، وتكشف عن أي خلل في نظامه الغذائي أو وجود التهابات أو حتى مشاكل مناعية، لكن المشكلة أن كثيرا من هذه الفحوصات لا تطلب إلا بعد ظهور الأعراض، ويكون أحيانا قد تأخر الوقت.

أما ليان وهي طفلة تبلغ من العمر عشرة أعوام تعاني من شحوب مزمن وعزوف عن اللعب، والدتها التي كانت تظن أن هذه طبيعة ابنتها، فوجئت عند إجراء فحص دم روتيني أن مستوى الحديد لدى الطفلة منخفض جدا، ما انعكس على نشاطها وتفاعلها مع من حولها.

وتقول والدتها "كلما أتابع أخبار الصحة الآن، ألوم نفسي لأنني لم أفحصها قبل ذلك كنت أرى الأعراض، لكنني لم أكن أعرف أن نقص الحديد يمكن أن يسبب كل هذا الخمول والتشتت".

وتعد فحوصات النمو والعظام من الفحوصات الأساسية التي تغفل أحيانا، خاصة لدى الأطفال الذين يعانون من تأخر في الطول أو في اكتساب المهارات الحركية، إذ يرجع الأهل هذه الأمور إلى "طباع الطفل" أو "الوراثة"، دون أن يعلموا أن الأمر قد يرتبط بنقص في هرمونات النمو أو أمراض العظام التي يمكن اكتشافها مبكرا ومعالجتها.

خبراء يؤكدون أن الفحوصات الدورية لا تهدف فقط لاكتشاف الأمراض، بل هي وسيلة لمراقبة نمو الطفل البدني والذهني، والتدخل في الوقت المناسب قبل أن تتفاقم المشكلات.

فحص النظر، السمع، فحص الدم، تقييم النمو والطول والوزن، كلها خطوات وقائية قد تغير مستقبل الطفل تماما وفيما تشدد منظمات الصحة العالمية على ضرورة إجراء هذه الفحوصات ضمن مراحل عمرية محددة، ما تزال كثير من الأسر تتعامل معها كخيار ثانوي، وتنتظر حتى يصرخ الألم أو تظهر الأعراض بوضوح.

في كثير من الحالات، لا يحتاج الأمر إلا إلى موعد سريع في عيادة أو مركز صحي لكن التأثير الذي يحدثه هذا الموعد قد يمتد لعمر كامل. فطفل يرى بوضوح، ويسمع بدقة، ويملك مستويات طبيعية من الحديد والنمو، هو طفل قادر على التعلم، واللعب، والتطور، أما أولئك الذين لا يفحصون، فيمضون سنوات من طفولتهم وهم يعانون بصمت، ويحاسبون على سلوك لا ذنب لهم فيه.

وأخيرا الفحص المبكر ليس رفاهية، بل ضرورة ومسؤولية وعلى الأهل أن يتذكروا دائما أن صمت الطفل لا يعني بالضرورة أنه بخير أحيانا، الصمت هو اللغة الوحيدة التي يستطيع أن يعبر بها عن أوجاع لا يراها أحد.

JoomShaper