ديمة محبوبة
عمان - تجلس مريم (13 عاما) في إحدى زوايا مدرستها، تحدق في الأرض بعينين خائفتين حزينتين، إذ كانت هذه المرة الرابعة خلال أسبوع واحد التي تتلقى فيها تعليقات جارحة من زميلاتها حول شكل جسدها.
وتقول: "أنا أكره المدرسة، في كل مرة أمشي في الممرات أسمعهم يضحكون علي لأنني سمينة. كنت أضحك معهم، لكن فقط كي أخفي مشاعري، وأصمت... وأبقى أبكي طوال الوقت في البيت".
قصة مريم ليست حالة نادرة، بل هي وجه من وجوه ظاهرة اجتماعية تتزايد يوما بعد آخر. فالتنمر، رغم الحديث الكثير عنه في جميع مواقع التواصل الاجتماعي، وفي المدارس، ومن قبل تربويين وخبراء نفسيين في الإعلام، ما يزال مستمرا. وما يجعل الأمر أكثر إيذاء هو انتشار التنمر عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وينتقل التنمر من المدارس إلى الجامعات، وحتى في الفضاء الإلكتروني، ويعيش الكثير من الأطفال والمراهقين تحت وطأة كلمات جارحة، تهميش مستمر، أو استهزاء ممنهج، يدفعهم نحو العزلة والصمت وربما الأسوأ.
كثيرون ما يزالون يربطون التنمر بالضرب الجسدي، لكن الحقيقة أشد تعقيدا، بحسب التربوية والمرشدة النفسية رائدة الكيلاني، فتقول: "التنمر في أشكاله الجديدة أكثر خبثا، لأنه غير مرئي في الغالب، التعليقات، الإقصاء من المجموعات، السخرية من المظهر أو المستوى الاجتماعي، كلها تمارس عنفا نفسيا لا يقل قسوة عن أي اعتداء جسدي". وقد تتخذ الضحية قرارا بالصمت من دون الإفصاح عن مشاعر الأذى.
وتضيف أن الأطفال والمراهقين اليوم يعانون من ضغوط مضاعفة، ليس فقط في البيئة الواقعية، بل أيضا في البيئة الرقمية. موضحة "في الماضي، كان الطفل يعود إلى منزله ليجد بعض الأمان، اليوم، يعود ليطرد من خلال شاشة هاتفه".
وفي إحدى الجامعات، يتحدث عمر (19 عاما)، عن معاناته في أول عام دراسي له، فيقول: "كنت أتلعثم أحيانا وأنا أتكلم.. كلما أفتح فمي في المحاضرة، كانوا يضحكون، فواحد من الزملاء في المحاضرة سجل صوتي ونشره على مجموعة الدفعة، تمنيت يومها لو لم أكن موجودا أو مرئيا".
انسحب عمر من المشاركة في الأنشطة، وتراجع أداؤه الدراسي في المرحلة الجامعية، ودخل في دوامة من الاكتئاب قبل أن يطلب المساعدة.
تقول الكيلاني، إن آثار التنمر قد لا تظهر فورا، لكنها تتسلل ببطء إلى نفس الطفل أو المراهق، مؤكدة أنها تؤدي إلى العزلة، قلة النوم، اضطرابات الشهية، فقدان الثقة بالنفس، وفي بعض الحالات تظهر ميول انتحارية. والأسوأ أن الضحية غالبا لا تتكلم خوفا من الانتقام أو من أن ينظر إليها كضعيف.
اختصاصي علم الاجتماع الدكتور حسين خزاعي، يشدد على فكرة أن التنمر الإلكتروني ساحة جديدة لا تقل عنفا عبر تعليقات لاذعة، رسائل مجهولة، أو حتى صور محرفة يستهدف الضحايا من دون أن يستطيعوا ردع المعتدي.
وتعبر ليان (16 عاما) عن استيائها من سلوكيات صديقاتها، بقولها: "نشروا صورة لي وعدلوا عليها وجعلوني أبدو قبيحة، وصلتني رسائل تقول لي حرام تطلعي من بيتكم، شكلك يخوف.. بكيت أياما ولم أستطع أن أخبر عائلتي".
وهنا يبين خزاعي أن فقدان الحديث مع الأهل يعزز أثر التنمر ويعرض الأطفال والمراهقين لمخاطر نفسية واجتماعية كبيرة، مندهشا من غياب دور الأهل أو عندما يكون غير كاف في كثير من الحالات. ويوضح أن الكثير من الأهالي لا يصدقون أن أبناءهم متنمرون، أو يبررون الأمر بأنه مزاح بين الأطفال، وهذه العقلية تسهم في تفاقم الظاهرة.
ويضيف أن وجود سياسة واضحة داخل المدرسة، وتدريب المعلمين على التعامل مع التنمر، قد يسهمان في تقليل آثاره، لكن لا يمكن تجاهل أهمية الدور الأسري.
ويقول خزاعي "الأهل هم خط الدفاع الأول، وعليهم أن يعلموا أبناءهم احترام الآخر، وفي الوقت نفسه أن يصغوا لأبنائهم إذا بدؤوا في الانسحاب أو إظهار علامات الحزن".
التربوية الكيلاني تبين أن مواجهة التنمر تتطلب تضافر الجهود بين المدارس، الأسر، الجهات الرسمية ووسائل الإعلام. وتؤكد أهمية برامج التوعية داخل المدارس، والتشجيع على ثقافة الحوار بدلا من ثقافة الإقصاء.
"الطفل لا يولد متنمرا، بل يكتسب السلوك من بيئته حين يرى أن الكبار يسخرون من بعضهم بعضا أو يتهكمون على المختلف، فهو يقلدهم، أو يقلد زملاءه وعلينا أن نعيد صياغة ثقافتنا من الداخل"، بحسب الكيلاني.
وفي نهاية المطاف، لا يتعلق الأمر فقط بمواجهة مشكلة، بل بإنقاذ جيل كامل من التعود على الصمت، وربما تكون الخطوة الأولى في محاربة التنمر هي فتح الحوار والتقرب من الأبناء والاستماع إليهم.