رشا كناكرية

شعور بالواجب والالتزام؛ هذا ما تعيشه هبة (32 عاما) في كل مناسبة تخص عائلتها أو أقاربها، الذين يلومونها باستمرار على عدم التعليق أو المشاركة في مناسباتهم عبر منصات التواصل الاجتماعي.

وتوضح هبة أنها تؤمن بأن المجاملة عبر السوشال ميديا لا تعبر عن مشاعرها الحقيقية، إذ تفضل التعبير وجها لوجه، لكنها مع ذلك تجد أن البعض لا يتفهم هذا الأسلوب، ويعتبر عدم تفاعلها على المنشورات نوعا من التقصير.

وتقول: "إذا ما علقت أو شاركت، بيصيروا يفكروا إني ما بتبادل معهم مشاعر الفرح أو إني غيرانة منهم، وهذا الشيء خلاني أعيش بتوتر وخوف إنهم يأخذوا عني فكرة مش صحيحة".

وللهروب من اللوم والعتب، اختارت هبة أن تجامل رقميا، حتى وإن لم تكن صادقة تماما، فقط لتتجنب ردود الفعل السلبية.

أما أمجد (38 عاما)، فيدرك تماما أنه من المتوقع منه أن يبادر ويجامل أصدقاءه عند مشاركتهم لأي حدث في حياتهم، لأنه يعلم أن البعض ينتظر منه التعليق أو التفاعل على منشوراتهم.

ويشير أمجد إلى أنه أدرك هذا الواقع بعد أن صارحه أحد أصدقائه بأن عليه مجاملة الآخرين، حتى أولئك الذين لا يعرفهم جيدا، ليحصل بدوره على التقدير والمجاملة منهم.

نعيش اليوم في عالم تتجذر فيه الرقمية في كل تفاصيله، إذ أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءا أساسيا من حياة الفرد، وأثرت في علاقاتنا الاجتماعية وعاداتنا، حتى باتت هذه العلاقات نفسها تدار رقميا، ما أضاف مزيدا من الضغط على علاقاتنا مع من حولنا.

المجاملة سلوك اجتماعي يمارس في الحياة اليومية، لكن اليوم أصبحت "مجاملة رقمية"، فقدت في كثير من الأحيان معناها الحقيقي، وأصبحت بلا مشاعر، وكأنها التزام يجب أداؤه. فـ"الشير" و"المنشن" ومشاركة التهاني بمناسبات مثل أعياد الميلاد أو النجاحات المهنية باتت جزءا ضروريا من حياتنا الرقمية.

اليوم، تبدو المجاملة الرقمية التزاما أكثر منها تعبيرا عن محبة، وعبئا على أكتاف كثيرين، ما يدفعنا للتساؤل: هل أصبحت المجاملة اليوم حملا ثقيلا على الفرد؟

يوضح اختصاصي علم الاجتماع د. محمد جريبيع أن المجاملة سلوك إنساني واجتماعي مارسه الإنسان منذ بداياته، وهي تتطور مع تطور المجتمع وتأخذ أشكالا مختلفة، معبرة عن طبيعة المجتمع، ثقافته، ومنظومة القيم التي تحكمه عبر التاريخ. وهي، برأيه عنصر أساسي في بناء وتقوية العلاقات الإنسانية.

وينوه جريبيع إلى أن المجتمعات العربية، تولي هذا السلوك أهمية كبيرة، وتعتبره مفتاحا أساسيا لبناء العلاقات. موضحا أن للمجاملة أبعادا إنسانية ودينية فهي ليست فقط للتودد، بل تحمل في طياتها معاني الاحترام والتقدير والالتزام القيمي.

ويضيف أن البعض بات ينظر إلى المجاملة كواجب مفروض يجب أداؤه، وهناك تفاوت بين الأفراد؛ فبعضهم يفرط في المجاملة، وآخرون يقللون منها.

ومع الانتقال من مجتمع حقيقي إلى آخر افتراضي، يرى جريبيع أن كثيرا من السلوكيات والممارسات التي كنا نقوم بها على أرض الواقع، انتقلت إلى العالم الرقمي. فالقيم والسلوكيات، كما يقول هي انعكاس للمجتمع، وحين تصبح العلاقات افتراضية، فإن السلوكيات والقيم تصبح أيضا افتراضية.

ويشير جريبيع إلى أن المجاملة أصبحت واقعا نعيشه بوضوح على منصات التواصل الاجتماعي، وهي، مع التحول التكنولوجي انعكاس لطبيعة المجتمع الافتراضي، حيث باتت تأخذ أشكالا مختلفة. فـ"اللايك باللايك"، و"الشير بالشير"، و"الكومنت بالكومنت" أصبحت أنماطا سائدة، تماما كما نتعامل في حياتنا اليومية. ويقول:

"اتيت لمناسبتك فتأت لمناسبتي، وإن لم تأت، فلن آتي"، وهذا ما يحدث كثيرا في المناسبات والجلسات الاجتماعية.

وانطلاقا من ذلك، أصبحت المجاملة وفقا لجريبيع، معيارا أساسيا في العلاقات الاجتماعية. فنحن انتقلنا من الواقع الفعلي القائم على اللقاء المباشر، إلى واقع رقمي تتحكم فيه التكنولوجيا، وهو تطور طبيعي يتماشى مع نمط حياتنا الحديثة واقترابنا أكثر من المجتمعات الافتراضية. لذا من الطبيعي أن تنتقل السلوكيات الاجتماعية ومنها المجاملة.

ويؤكد جريبيع أنه من المفترض تقبل هذا الشكل الجديد من المجاملة، طالما أننا نؤدي واجباتنا الاجتماعية أحيانا من خلال السوشال ميديا. ففي مناسبات العزاء أو الفرح، بات كثيرون يكتفون بالتعليق أو التفاعل الرقمي، والدليل على تقبل المجتمع لهذا الشكل هو ما نراه من شكر علني من أهل المتوفى أو أصحاب المناسبات السعيدة، حيث يكتب صراحة: "نشكر من قدم واجب العزاء أو التهنئة عبر وسائل التواصل الاجتماعي"، ما يعني أنها أصبحت واقعا معترفا به.

ويضيف جريبيع أن هناك تفاوتا في طريقة المجاملة بين الأفراد؛ فبعضهم يبالغ، وآخرون يختصرون، فيما يسعى البعض لإعطاء المجاملة حقها. وهذا يعكس طبيعة الشخص ذاته، وكذلك طبيعة العلاقة مع الطرف الذي يتم مجاملته.

ومع ذلك، لا شك، كما يوضح جريبيع، أن المجاملة الرقمية فقدت الكثير من إحساسها ومشاعرها الإنسانية، وابتعدت عن الحميمية، لتتحول إلى ممارسة شكلية في كثير من الأحيان. ففي كثير من الحالات، نجامل عبر وسائل التواصل أشخاصا لا نعرفهم، ولم نلتق بهم في حياتنا.

وهنا يظهر الفرق بين المجاملة كسلوك إنساني كنا نمارسه ضمن علاقاتنا الواقعية، والمجاملة الرقمية التي تفتقد غالبا إلى الصدق. فالسؤال يبقى: أيهما أصدق؟ والجواب، بحسب جريبيع، أن المجاملة في الواقع، بعيدا عن المجتمعات الافتراضية، تبقى الأصدق، لأنها تحمل مشاعر حقيقية وقيما واضحة، بعكس المجاملة من خلف الشاشات التي قد لا تعبر عن أي إحساس حقيقي.

أصبحت المجاملة الرقمية واقعا يفترض أن نتعامل معه، ويفسر جريبيع أن هنالك من لا يكتفي بالمجاملة مثل العزاء عن طريق السوشال ميديا ويعتبرها معيبة بحقه وبحق الآخرين بينما في مقابل ذلك هنالك أشخاص من فئات عمرية مختلفة يعتبرها كافية.

ويشير جريبيع إلى أن جيل الألفيات وما بعدها هم الأقرب إلى تبني هذه السلوكيات وهذه الثقافة أكثر من جيل كان يمارس هذا السلوك على أرض الواقع وجها لوجه.

بدوره، يبين الاستشاري النفسي والمحاضر الدولي المعتمد يزيد موسى، أن السوشال ميديا حولت "المجاملة" من سلوك اجتماعي تلقائي نابع من المشاعر إلى "تصرف رقمي متوقع"، يخضع لقوانين غير مكتوبة يفرضها ضغط المجتمع.

وأصبح الناس يشعروا إنهم مضطرين أن يباركوا أو يعلقوا، ليس لأنهم يريدون، ذلك، بل لأنه واجب عليهم.

ويوضح موسى أن هذا التحول جعل المجاملة تفقد معناها العاطفي، وتتحول لـ"بروتوكول رقمي"، هدفه ليس التعبير، بل تجنب التوتر أو اللوم، وهذا يخلق شعورا داخليا بالتصنع أو النفاق أحيانا، ويبعدنا عن النية الأصلية للمجاملة وهي "الاحتفاء الصادق".

ويذكر مرسى أنه عندما تصبح المجاملة واجبا، فإن الشخص يعيش حالة من الاستنزاف العاطفي، ويصبح لديه توتر داخلي بين "ما يشعر به فعلا" و"ما عليه أن يفعله"، وهذا يسمى علميًا الانفصال العاطفي (Emotional Dissonance) ويؤدي إلى الشعور بالإرهاق الاجتماعي وانخفاض الرغبة في التفاعل وأحيانا فقدان الشغف بالعلاقات نفسها، وكأن الشخص يعيش بعالم "يتطلب منه التمثيل العاطفي" أكثر من التواصل الحقيقي.

ويقول موسى "للأسف أصبح الفرد يحتاج نفسيا أن يحصل على المجاملة الرقمية ليشعر بقيمته، وهذا نابع من حاجة الإنسان الأساسية للتقدير والقبول الاجتماعي".

ووفق موسى، فإنه في عصر السوشال ميديا، أصبح التقدير يرتبط بعدد الـ"Mentions" و"Story shares"، وبالتالي تحوّل الاهتمام الرقمي إلى معيار لقيمة الذات (Self-worth indicator) وهذا يزيد من التعلق بالمظاهر والقلق من النسيان أو التهميش، وضعف الصورة الذاتية عند غياب هذا التقدير، إذ يصبح الفرد ليس فقط يريد المجاملة، بل هو بحاجتها، وكأنها جرعة تأكيد وجود.

JoomShaper