ديمة محبوبة

لم تكن ليلى تتوقع أن القواعد التي وضعتها مع زوجها قبل إنجاب طفلهما الأول ستتهاوى تدريجيا، ليأخذ أسلوب تربيتهما منحى مختلفا، تحكمه سلسلة من التنازلات اليومية الصغيرة.

تقول: "كنت أرفض أن يشاهد طفلي الشاشات لأكثر من نصف ساعة، أما اليوم فنمنحه الآيباد لنتمكن من تناول الطعام بهدوء أو الرد على مكالمة عمل. كنا نصرّ على أن ينام في غرفته، لكننا الآن نستسلم لبكائه ونأخذه إلى سريرنا، فقط كي لا نزعج الجيران".

هذه التنازلات، التي تبدأ بحسن نية، تحولت في كثير من البيوت إلى مشهد مألوف ونهج غير معلن، تقدم فيه راحة الطفل على المبادئ التربوية، وتبرر فيه المرونة الزائدة بعبارات مثل: "كل الأطفال يتصرفون هكذا في هذا العمر".

يرى أستاذ علم الاجتماع الدكتور حسين خزاعي أن هذا "الاستسهال التربوي" أصبح سمة بارزة في سلوك العديد من الأسر، خصوصا في السنوات الأخيرة، حيث اختلطت مفاهيم الراحة والحرية بالمرونة الزائدة، ما أدى إلى نتائج سلوكية ونفسية عكسية لدى الأطفال.

ويضيف خزاعي: "عندما يربى الطفل على قاعدة: افعل ما تشاء فقط لا تزعجني، فنحن لا نعده ليكون إنسانا قادرا على فهم حدوده أو التفاعل الصحي مع الآخرين، بل نخرج إلى المجتمع شخصا لا يعترف بالقوانين، ولا يحتمل الرفض أو الفشل".

ويضيف أن كثيرا من الأهل يتراجعون عن المبادئ التي وضعوها قبل إنجاب أطفالهم، لا عن قناعة، بل لأن الالتزام بها يبدو مرهقا مقارنة بالراحة المؤقتة التي يمنحها التنازل، حتى وإن كان ذلك على حساب مصلحة الطفل.

 

 

التساهل المتكرر في التربية كما يوضح خزاعي؛ لا يأتي دائما عبر قرارات كبيرة وواضحة، بل يتسلل عبر تفاصيل صغيرة ومتراكمة: طفل يصرخ في السوق فيشترى له ما يريد فقط لتجنب الإحراج، وآخر يتلفظ بألفاظ غير لائقة فتقابل بالضحك لأن "الأطفال يكررون ما يسمعون"، أو يرفض الطعام الصحي فيستبدل له بالحلوى خشية الدخول في نوبة غضب.

وفي كل مرة يقدم فيها الهدوء اللحظي على التربية طويلة الأمد، تنتزع لبنة من لبنات بناء شخصية متوازنة قادرة على ضبط نفسها والتعامل مع حدود الواقع.

ووفق المرشدة النفسية والتربوية رائدة الكيلاني فإن النية الحسنة وحدها لا تكفي لبناء تربية سليمة، مشيرة إلى أن كثيرا من الأهل يخلطون بين الحب والتنازل، ويظنون أن رفض طلبات الطفل أو منعه من بعض الأمور هو نوع من القسوة.

تقول الكيلاني: تأنيب الضمير بات السمة الغالبة في تربية جيل اليوم من الآباء والأمهات، إذ يخشى كثيرون أن يتركوا أثرا نفسيا سلبيا لدى أطفالهم إن فرضوا قاعدة أو قالوا "لا"، في حين أن الطفل يحتاج إلى القواعد أكثر من إشباع حاجته وقتما يريد.

وتلفت إلى أن التربية السليمة لا تكمن في تلبية كل طلب، بل في تعليم الطفل التمييز بين الرغبة والحاجة، وفهم أن سماع كلمة "لا" أمر طبيعي لا يعد ظلما أو رفضا.

في خلفية هذا الواقع، تؤدي وسائل التواصل الاجتماعي دورا خفيا لكنه بالغ التأثير. إذ تشير المرشدة الكيلاني إلى أن صور الآباء والأمهات وهم يتعاملون بلطف مفرط مع أطفالهم، دون أي توجيه أو حزم، تزرع في أذهان كثير من الأهل تصورا مثاليا ومشوها عن التربية، وتدفعهم للشعور بالتقصير أو الفشل إن تصرفوا بطريقة مختلفة.

وتوضح الكيلاني أن "ما يعرض على السوشال ميديا ليس تربية حقيقية، بل لحظات منتقاة بعناية، بينما التربية الواقعية تتطلب جهدا يوميا، ومواقف تحتاج إلى الحزم والوضوح، لا إلى المجاملة أو تجنب الصراع".

وتحذر من أن الطفل الذي لا يسمع كلمة "لا" في بيته، سيسمعها لاحقا في المدرسة، أو من المجتمع، أو من الحياة نفسها، لكن دون أن يكون مهيأ لها. وهنا تكمن الخطورة، كما يوضح خزاعي، قائلا: "حين لا ندرب أبناءنا على تقبل الرفض أو التأجيل أو الالتزام بالحدود، فإنهم يكبرون وهم عاجزون عن ضبط سلوكهم، ويواجهون الحياة بانفعال وغضب بدل التفاهم والتكيف".

ويتابع أن التربية ليست وسيلة لتهدئة الطفل في اللحظة، بل هي عملية مستمرة تهدف لبناء شخصيته على المدى البعيد، مشددا على أن الحرمان أحيانا ليس قسوة، بل ضرورة، ليفهم الطفل أن الأشياء لا تمنح دائما، وأن العالم لا يدار وفق رغباته فقط.

لكل أسرة نمطها الخاص في التربية، لكن ما يجمع بين التجارب الناجحة، كما ترى الكيلاني، هو وضوح القواعد وثباتها وتطبيقها بمحبة، من دون تردد أو خوف.

وتؤكد أن الطفل قادر على تقبّل الحدود حين يفهم سببها، وحين يشعر أن هناك من يهتم به بما يكفي ليضبط سلوكه لا ليرضيه بأي ثمن.

وتدعو الكيلاني إلى العودة إلى تربية متوازنة، تراعي خصوصية الطفل، لكنها لا تلغي دور الراشد في التوجيه والقيادة.

في نهاية المطاف، يحتاج الطفل إلى الحب، لكنه يحتاج أيضا إلى الحزم، إلى من يخبره أن العالم لا يدور حوله، وأن للحرية مسؤولية، وللرغبة حدودا.

فالتنازلات اليومية التي يقدمها الأهل بدافع الراحة، أو الخوف من الإزعاج، أو بحجة أن "جميع الأطفال يفعلون ذلك"، قد تصنع هدوء مؤقت، لكنها تزرع فوضى طويلة الأمد في داخل شخصيات لم تتعلم احترام الحدود، ولا مواجهة الحياة.

JoomShaper