حرزالله محمد لخضر

تلعب التربية دورًا مهمًا وخطيرًا في حياة الأمم، فهي أداة المجتمع للمحافظة على مقوماته الأساسية، وأساليب حياته وأنماط التفكير الخاصة به، كما تعمل على تشكيل وعي المواطنين، والكشف عن طاقاتهم ومواردهم واستثمارها.

وكثيرًا ما نسمع عن مواضيع عديدة يتم تداولها على نطاق واسع حول موضوع التربية وتحدياتها، حتى أصبحت تناقَش حولها الأطروحات على جميع المستويات، ومن هذه المواضيع:

    التكنولوجيا وصراع الأجيال.

    تحديات المراهَقة وخصوصياتها التربوية.

    تأثير البيئة الاجتماعية على ثقافة وسلوك الطفل.

    الإنترنت وتفكك نظام الأسرة.

    سوء استخدام التكنولوجيا وتداعيات العولمة على الطفل.

    التربية الأسرية والتوازن النفسي للطفل.

    العنف والإهمال الأسري والمستوى الدراسي.

إلى غير ذلك من المواضيع الأخرى ذات الأهمية والعلاقة بمسألة تربية وتنشئة الأجيال، التي تحتاج منا إلى وقفة صادقة وجادة، نبحث من خلالها عن إجابات وحلول نابعة من قيمنا وانتمائنا الوطني والأخلاقي، لنضع بعد ذلك مخططًا عمليًا شاملًا لأهم التحديات التربوية الموجودة في البيئة الاجتماعية التي ننتمي إليها، وسبل التعامل معها بما يحقق غايات التربية الحسنة والمتوازِنة.

    لا تربوا أبناءكم كما رباكم آباؤكم؛ فقد خُلقوا لزمان غير زمانكم

        علي بن أبي طالب رضي الله عنه

ومن هنا، ينبغى التنبيه إلى أهمية الدورات التأهيلية في الإرشاد الأسري ومهارات الحياة في تكوين الخلية الأولى للمجتمع (الأسرة)؛ وفق أسس منهجية سليمة قائمة على التكافل الأسري، والوعي الأبوي بأهمية التربية في تحقيق التوازن النفسي، ومحاربة الآفات الاجتماعية والمشكلات الدراسية.

وفي هذا السياق يطيب لي أن ألفت عناية القراء إلى توجيه نبوي كريم، قدّم من خلاله النبي- صلى الله عليه وسلم- نصيحةً ذهبيةً لذلك الصحابي الذي قدم هدية لأحد أبنائه دون البقية، فرفضت زوجته ذلك وطلبت منه أن يستفتي النبيَّ- عليه الصلاة والسلام- فذهب إليه فسأله، فقال له النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم-: "هل أعطيت سائر ولدِك مثل هذا؟"؛ قال له الأب: لا. فقال له النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم". [رواه البخاري ومسلم].

وهذه ملاحظة قد تبدو لدى كثير من الآباء بسيطة وهامشية، لكنها بالغة الأهمية في تحقيق التوازن السلوكي والنفسي للأبناء، وتنشئتهم على قيم العدل والمحبة والتعاون، وتحضيرهم لتحمل المسؤوليات المهنية والاجتماعية مستقبلًا، وجعلهم لبنة طيبة في بناء مجتمع صالح ومثمر، فغِراس الأمس هي حصاد الغد.

ومن الأدبيات التربوية التي يجب على الوالدين مراعاتها، خاصة في زمن التكنولوجيات والتواصل العالمي، الانتباه إلى مسألة الخصوصيات الثقافية لجيل اليوم، فليس من الحكمة أن نتعامل معه وفق الأساليب التربوية التي كانت صالحة في سياقات زمنية سابقة، فالوعي بتحديات الحاضر، والتحكم في مهارات التربية الحديثة، ذلك يجنبنا الوقوع في مشكلة "صراع الأجيال"، مع ما تحمله من مخاطر حقيقية تهدد أمن المجتمع وتنسف هويته، وتفصل الخلف عن السلف وجدانيًا ووجوديًا.

ومن هذه المخاطر: الجرائم الإلكترونية كالقرصنة والابتزاز الإلكتروني وتجنيد الأحداث (أي الأطفال دون سن الرشد) لأغراض إجرامية، والدخول للمواقع المشبوهة، وإدمان الألعاب الإلكترونية الخطيرة التي أودت بحياة كثير من أبنائنا، والتأثر بالمواقع التي تروِّج للإلحاد والانحلال الأخلاقي، أو استنزاف الأوقات الكثيرة في مواقع التواصل كالتيك توك، وقضاء أغلبها في تصفح المواضيع غير الجادة واستهلاك مادة التفاهة.

    يجب على المربي أن يستعمل أساليب تربوية ذكية، تقوم على المحبة والمودة والصحبة الصادقة والقدوة الحسنة، واعتماد الوالدين أسلوب القصص التربوية الهادفة

ومن هنا يتبين لنا مدى أهمية القاعدة التربوية التي تُنسب إلى الخليفة الراشد، سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، القائلة: "لا تربوا أبناءكم كما رباكم آباؤكم؛ فقد خُلقوا لزمان غير زمانكم". وهو لا يقصد التجرد من القيم الأخلاقية الصالحة التي ورثها الخلف عن السلف، بل يجب مراعاة متطلبات الواقع الحديث وتطوراته بما لا يتعارض مع مقاصد الشريعة السمحة والفطرة السليمة.

وفي هذا الصدد، يُعتبر أسلوب المرافقة الوالِدِيَّة من أهم الأساليب التربوية الحديثة لاحتواء الطفل، ومعرفة حاجاته، وتوجيهه بطريقة ذكية وحكيمة، وذلك من خلال مهارة الإصغاء والتفاعل والحوار، ومناقشة المظاهر الاجتماعية المختلفة بسلبياتها وإيجابياتها، بقصد إقناع الطفل بصفة طوعية، بعيدًا عن أساليب الإكراه والزجر والمنع التعسفي، فكما هو معلوم: "كل ممنوع مرغوب".

ففي عصر الانفتاح العالمي، لا يمكن ضبط سلوكات الطفل ومراقبته باستمرار في الشارع والمدرسة، ومع الرفاق، وفي الإنترنت والهاتف الذكي، بل يجب على المربي أن يستعمل أساليب تربوية ذكية، تقوم على المحبة والمودة والصحبة الصادقة والقدوة الحسنة، واعتماد الوالدين أسلوب القصص التربوية الهادفة، كما يجب ألا يقتصر اهتمامهم على الجوانب المادية فحسب، بل لا بد أن يتعداه إلى الجوانب الأخلاقية والمعرفية والفكرية.

    وفق الله الآباء لما فيه خير البلاد وصلاح العباد،

    وحفظ الله أبناءنا من كل سوء وفساد

ختامًا: ما زلت أُؤمن إيمانًا قاطعًا أن أكبر تحدٍّ يواجه الآباء في العصر الحالي هو صناعة جيل رسالي صالح، نافعٍ لأمته، مخلصٍ لوطنه، وَفِيٍّ لقيمه، بارٍّ بالوالدين في الدنيا والآخرة، مصداقًا لقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له" [رواه مسلم].

هكذا نبني الجيل القيادي القادم، الذي يسهم في تنمية بلده ومجتمعه وبناء حضارته.. الجيل الأمين الفهيم الرزين، الذي يحسن تقدير مواطن الخير فيسبق إليها، وتقدير مواطن الشر فيفر منها.

هو جيل يؤتمن على أمجاد الآباء، ويحافظ على رسالة الشهداء، ويواصل مسيرة التشييد والبناء، جيل متعلم يسابق في مضمار المعرفة فَيَبُزُّ أقرانه، ويسمو بأفكاره وأخلاقه فيرسم أبهى صور الإبداع والتميز.

جيل يحيا لهموم أمته، واعٍ بالتحديات التي تواجهها، والدسائس التي تحاك لها، جيل كيس فطن لا تخدعه المؤامرات، ولا ينساق وراء الإشاعات، ولا تلوث عقله الملهيات، جيل يَألم لألم فلسطين وغزة وبورما والصومال، ويشغل باله ما يكابده إخوانه في الدين والإنسانية من ظلم وأسى وحرمان، جيل حريص على تقديم الإضافة النوعية، ليترك من ورائه أثرًا طيبًا وفضيلة بهيَّة، يذكره بها أهل الأرض، ويسمو بها في السماء درجات عَلِيَّة.

    ورحم الله أحمد شوقي إذ يقول:

فعلِّم ما استطعتَ لعلَّ جيلًا .. سيأتي يُحدِث العَجَب العُجابا

وفق الله الآباء لما فيه خير البلاد وصلاح العباد، وحفظ الله أبناءنا من كل سوء وفساد.

JoomShaper