تحسين يقين
أليس من المفارقة أن طلبتنا بعد تلقيهم دروس اللغة والأدب والكتابة والقراءة لمدة 12 عاما، يكونون غير قادرين في مجملهم على إنتاج نص يودعون به المدرسة في يوم تخرجهم منها!
سؤال دوما أصفع به كلما شارف العام الدراسي على الانتهاء، وكلما وقع في يديّ نص لطلبتنا..وكلما وقع في يدي ورقة لطالب جامعي أو رسالة ماجستير..
ولا تقف المأساة عند هذا الحدّ، بل إن المدرسين أيضا يعانون في إنتاج النصوص، فيكتبون نصا يحاكي نصا قديما، لإضفاء المستوى اللغوي الرفيع!
أمران تتقن المدرسة التقليدية القيام بهما: تعليم الطلبة نسخ النصوص وحفظها!
ويبدأ هذان الأمران في رياض الأطفال، التي تبدأ عملية ممنهجة في شغل الطفل ابن 4 سنوات بكتابة الحروف والكلمات، وتحفيظهم النصوص!وفي المجمل لا الطفل عاش طفولته في الروضة قبل المدرسة، ولا خلالها خصوصا في السنوات الأولى؛ حيث ينشغل الطفل بالواجبات: النسخ والحفظ! لعلي أجد من يرفع الصوت عاليا: كفى تعليما يعيد إنتاجنا بما فينا من ماض لا يلائم مستقبل النهوض!
وحتى نقعّد لهذا المقال، أود أن أشير إلى أن المقصود بالكتابة هنا ليست الكتابة الإبداعية الأدبية، بل الكتابة بشكل عام، والتي أدعي أن طرق الوصول إليها يتطلب فهما فكريا، ويتجلى الفهم في تنظيم المعلومات والأفكار ضمن نسق واضح.

وأظن أن من طرق الوصول إلى الكتابة كما نطمح هو تعليم القراءة والفهم، فليست القراءة ضبط الحركات على الحروف، في مستواها الصوتي فقط، بل القراءة الواعية للنص المقروء والمسموع..

كيف نعلم القراءة، ربما يحتاج هذا مقالا منفصلا، حيث أن هناك مهارات تتعلق بالقراءة المفيدة، التي من خلالها يتعلم المتعلم ويطور نفسه، لا قراءة الحفظ كما هو سائد في المدرسة التقليدية.

إننا حين نعلم الأولاد والبنات، نعلمهم المعلومة، لكننا نعلمهم أسلوبنا في التعامل معها، ونعلمهم تفكيرنا، ثم نعلمهم طوعا وجبرا كيف يصبحون مثلنا، وهذا هو تقييمنا للعمل، إنه تقييم يرى أن اقتراب الطالب من معلمه كي يحاكيه هو التميز، أما المخالفة فهي التأخر.

إننا نصبغهم بصبغتنا النفسية والسلوكية والانفعالية، حيث ما إن يمرّ أحدهم بحادث ما، فإنه لا يفكر كيف يشعر به بحرية، بل يستدعي شكلا جاهزا مكن المشاعر والأفكار، فتراه يحكي الآخرين ويقلدهم، بل يمتد التقليد إلى تقليد التفاصيل الخاصة لمن يقلدون.

إن المعلمين/ات كمخرجات لغوية فكرية علمية هم مخرجات لنظام تربوي قديم، ولو نأخذ قطاع معلمي ودارسي اللغة العربية في عدد من المعاهد والجامعات لعدد من الدول العربية، سنجد أن هذا القطاع قد تعلم أصلا حتى يحاكي أساتذته، بل أنه لن يضمن المرور الآمن للتخرج إلا إذا أبدع في إعادة إنتاج مواقف وأحكام وردود فعل الأساتذة حيال القضايا المثارة.

ليس حفظ النصوص هو المشكلة فقط، ولا عدم توظيف المعلومات وصولا إلى إنتاج جديد، بل يطلب من الطلبة ما هو أفظع، يطلب منهم أن يفكروا على غرار ما يفكر الأساتذة، وأن يشعروا مثلهم، حيث أول ما نفجع به، هو أن الطلبة يضحون بفكرهم ومشاعرهم في سبيل إثبات أفكار الآخرين ومشاعرهم.

ويتقبل الطلبة هذه التضحية، بل نراهم يفخرون بها، ويقلدون ما هو شكلي من لغة وإشارات وكلمات وملابس وأسلوب تناول الطعام والمشي والتعجب وما إلى ذلك..

حين أطلب من طالب صغير رأيه، يفاجأ، وحين أحاول التعرف على ذائقته، يستدعي ذائقة القدامى من المعلمين، وهذا لا يكلفه اجتهادا، بل ينطق ويشعر بما هو جاهز. لكن حين نصبر معهم، نبدأ باكتشاف الانفصام، حيث يتراءى لنا كيف سلب الكبار صغارهم فكرهم وشعورهم، فصاروا خاويين، يتحدثوا من سطح الفكر والشعور، أما الكلام فجاهز.

إن سطحية الطلبة قادمة من سطحية التعامل معهم، فنحن سطحيون، نتعامل بسطحية، وننتج سطحيين مثلنا.

فحين يبدأ الولد أو البنت بالتفكير الذاتي نستطيع ملاحظة الإبداع والحيوية، ينطلق اللسان بما هو ليس جاهزا، كما ينطلق الشعور بما هو صادق، لا ما هو متكلف لإرضاء الآخرين.

فان نحرر الأبناء في البيت والطلبة في المدارس والجامعات من أنفسنا وسلطتنا ومشاعرنا وذائقتنا سيكون بداية الطريق.

فحين نطلب منه التعبير عن مشاعره بأسلوبنا سيكون كلامه معادا مكررا لا حياة فيه ولا يجذبنا، إلا من يحب صناعة البشر على مقاسه، بينما حين نشجعه هو أن يعبر بحرية عما يحس سنرى انطلاق لسانه وتحرره، فيغدو كلامه حيويا ممتعا صادقا، لأنه يعبر عن تجربة إنسانية فريدة.

سيكون تعبيره من داخله لا من سطحه، سطحه الذي يقلد به سطوح آخرين مسطحي التفكير والمشاعر، من الجاهزين والمنمقين لغة شعرا وخطابة وعبارات المجاملة، من النمطيين المنمطين لصغارهم وفق ما يهوون.

كذلك، حين نريد أن نعلمهم الإبداع، كوسيلة ننهض باللغة بها، ونزيد من فعاليتها وحضورها وأثرها، لا يجب أن نختار لهم مواضيعنا نحن، لأنها لن تكون جذابة لهم، بل ستثير مللهم ومعاناتهم، من خلال تشجيعنا لهم بأن يعيدوا إنتاج الماضي.

فالإبداع يتحقق في ظل تشجيع كل طالب وطالبة في مستويات التعليم المختلفة للتعبير عن نفسه هو، عن فكره وشعوره، عن خصوصيته التي يتميز بها ويختلف بها، والتي حين يعبر عنها يحس أنه قادر، فإذا استطاع ذلك شفويا ثم كتابيا بدون أن نعقده لغويا نكون قد وضعناه على سلم الإبداع، ومن ثم يقبل هو على الدرس اللغوي، فيجود كتابته، ثم يوظف معرفه اللغوية خلال ما يكتب لا أن تصبح القواعد والبلاغة محفوظات كما هو سائد في بلادنا العربية التي تعلم لغة الضاد، بما ينفر من الإقبال على هذه اللغة، وأزعم أنني صادق كوني كنت طالبا في المدرسة والجامعة ومعلما وتربويا ومعلما للإبداع.

ليس الماضي هو العيب، لأنه كان حاضرا وحيويا ضمن سياقات وقته، لكن السياقات الآن مختلفة، فلا بدّ من مراعاة الزمن والمحيط الثقافي والإنساني الذي يحيا فيه الطفل. ولم يعود من السهولة أن نعيد إنتاج الفكر الماضوي والشعور الماضوي بذات الطريقة، لأن ذلك سيجعل الإنسان ابنا للماضي لا للحاضر.

وليس هذا معناه تخطئة القديم، أو الانتقاص من القيم والفكر والأخلاق، بل المطلوب خلق حالة من التفكير بالحدث من منظور وسائل العصر وتقنياته وحاجاته. فمشكلات القدماء ليست مشكلاتنا، وحتى إن تشابهت فلا يمكن ولا ينبغي أن تحلّ بذات الطريقة.

كما أن مشاعرهم مختلفة عن مشاعرنا..

حياتهم تختلف عنا، وهم نجحوا حين عبروا عنها، ولو عاشوا كمبدين حتى الآن لعبروا كما نعبر!

القراءة والكتابة تكون ضمن بنية الحصة الصفية، وبشكل إبداعي، لا بشكل تشغيلي للطفل..كيف؟

في ورش تعليم الإبداع التي أشرف عليها كتربوي وكاتب، ألاحظ أن الطلبة يتقنون اللغة، وأن منهم من يملك القدرة على الكتابة..لكن عن أية لغة وأية كتابة؟

في البدء وخلال التحضير للنشاط، أحاول من خلال الحديث الشفوي أن أقيس مدى استخدامهم للغة، ومدى قدراتهم التفكيرية والإبداعية وحضور الشخصية، فألاحظ أنهم مصابون بالخوف والتلعثم، فهم لا يحسنون التعبير العادي عن أنفسهم، كما أن قدراتهم التفكيرية متعلقة بمهارة إعادة إنتاج ما حفظوه، وهم متشابهون في ذلك، كما أنهم يشكلون انعكاسا لآراء الكبار أهالي ومعلمين، فهم يرددون ما يسمعون، بل إنهم ينكرون ذائقتهم، بل واعتادوا نفيها في الوعي واللاوعي، في سبيل إثبات ذائقة هؤلاء الآخرين!

إننا في التعليم التقليدي، نسلك سلوك الوعظ والإرشاد، فنعيد إنتاج أنفسنا لا غير!

هناك من استسلم لفكرة أن نسبة التحاق أطفالنا في المدارس عالية..
ولأنه/هم من الذين يفهمون أن محو الأمية يقتصر على القراءة والكتابة والحساب..
ولأنهم كذلك، فهم يفهمون تعليم اللغة على أنها جهد عضلي يقوم به الطفل في غرفة الصف وغرف البيت!
حين تكون الكتابة والقراءة قادمتين من عالم الشغف، وقتها فقط سنبدأ بارتقاء سلّم النهوض الحقيقي..

JoomShaper