رؤى أيمن دويري
يتجنب كثير من الشباب اتخاذ قرارات مصيرية طويلة الأمد، مثل الزواج، أو الاستقرار الوظيفي، أو الهجرة، أو حتى إطلاق مشاريعهم الخاصة، وغيرها من قرارات صغيرة قد تتزايد لتصبح مفصلية مع مضي الوقت.
تفرض حالة التردد المزمن نفسها على المشهد، وكأن هذا الجيل اختار أن يعيش في منطقة رمادية، بلا يقين ولا ملامح واضحة للمستقبل.


فهل يعكس هذا السلوك خوفا داخليا عميقا؟ أم أنه انعكاس لوعي جديد يعيد تعريف مفاهيم الاستقرار والنجاح؟
جيل يعيش حالة "انتظار"
اللافت أن هذه الحالة لا تقتصر على مجال واحد، بل تمتد إلى كل مفصل من مفاصل الحياة. البعض لا يستطيع اتخاذ قرار في حياته العاطفية، وآخرون يتنقلون بين وظائف مؤقتة دون نية للبقاء، وهناك من يحلم بالسفر لكنه لا يبدأ حتى بإجراءات بسيطة.
ما يجمع هؤلاء الشباب هو شعور داخلي مشترك: "لسا مش وقت القرار". وهو شعور يخفي في طياته خليطا معقدا من القلق، الضغط المجتمعي، الرغبة في الكمال، والخوف من الفشل أو الندم.
يرى المرشد التربوي سهيل شواقفة أن جزءا من هذا التردد يعود إلى غياب مهارة اتخاذ القرار، والتي كما يؤكد لا تولد مع الإنسان، بل تكتسب بالتدريب والتجربة منذ الطفولة. لكنه يشير إلى أن كثيرا من الأهل، بدافع الخوف والحماية الزائدة، يحرمون أطفالهم من أبسط فرص اتخاذ القرار بأنفسهم، كاختيار طعامهم أو أصدقائهم.
وهكذا، حين يصل الطفل إلى سن المراهقة والشباب، يجد نفسه غير قادر على اتخاذ قرارات مصيرية بثقة.
الشعور بالتأخير على كل شيء
عمر، (29 عاما) مهندس مقيم حاليا في الخليج، يقول؛ "من فترة سافرت واشتغلت بوظيفة كنت أعتبرها وظيفة أحلامي، بس مع الوقت اكتشفت إني مش لاقي حالي. كل يوم بسأل نفسي: هذا المكان مناسب إلي؟ هذا الشغل رح يخليني أبني الحياة اللي بدي إياها؟ ولحد اليوم، ما عندي جواب واضح".
ويضيف؛ "أنا بدي أستقر، جدّيا بفكر بالزواج وبحياة عائلية، بس كل ما أجي آخذ الخطوة، برجع أتراجع. بخاف أبلش وأندم، بخاف أربط مصيري بشيء وأنا لسا مش متأكد من نفسي".
وحتى في جانب إكمال دراسته، الطموح كبير لكن التحقيق على ارض الواقع كأنه ضرب من الخيال، يعتقد أن الفرص تضاءلت، يقف مكانه، وكأنه لا يسير إلا باتجاه واحد.
هل الخوف من الفشل هو السبب؟
يتربى الكثير من الشباب اليوم في بيئة لا تتسامح مع الخطأ، سواء في الأسرة أو في المجتمع. هذا يخلق داخلهم هاجسا من "القرار الخطأ"، فيفضلون البقاء في منطقة الانتظار بدلا من المخاطرة. وهنا، يصبح التردد ليس فقط سلوكا دفاعيا، بل خيارا بحد ذاته، وكأنه محاولة لتجميد الزمن.
يؤكد المرشد شواقفة، أن المجتمع يلعب دورا كبيرا في تعزيز هذا الخوف، من خلال ثقافة تطلق أحكاما قاسية على كل خطأ. في مثل هذا الجو، يرتبط اتخاذ القرار بإمكانية الفشل، ومع الفشل تأتي الوصمة الاجتماعية، فيفضل الشاب التردد على المغامرة.
اللا قرار كفلسفة حياة
في المقابل، يرى بعض المفكرين أن هذا "اللا قرار" ليس دائما سلوكا سلبيا، بل قد يكون تعبيرا عن وعي جديد.
جيل اليوم يدرك أن العالم متقلب، لذا يرفض فكرة الالتزام المطلق. وعلى سبيل المثال: لماذا أختار وظيفة واحدة مدى الحياة وأنا أعرف أن العالم يتغير كل سنتين؟
لماذا أرتبط بشريك قبل أن أختبر نفسي وأفهم احتياجاتي؟
اللا قرار هنا يصبح محاولة للحفاظ على المرونة، والعيش بتجارب متعددة قبل الاستقرار على شيء نهائي.
ليان، (30 عاما) تعمل في التصميم الجرافيكي، ترفض اتخاذ قرار الارتباط رغم وجود شخص مناسب في حياتها، وتقول: "أنا بحبه، وبشوف فيه صفات كثير كنت أتمناها، بس كل ما أفكر بخطوة جدية، بخاف".
ترجع هذا الخوف إلى نشأتها في بيئة أسرية غير مستقرة؛ "كبرت ببيت فيه توتر دائم، والدي ووالدتي ما كان بينهم أي تفاهم".
مرت ليان أيضا بتجارب عاطفية سابقة لم تنته بشكل جيد، ما عمق لديها الخوف من اتخاذ القرار الخطأ؛ "مشكلتي إني مش ضد الحب أو الزواج، بس ما عندي ثقة بخياراتي، وبحس دايما إنه ممكن أندم".
لكن، شواقفة لا يرى هذا الرفض للالتزام دليلا على وعي عميق بالضرورة، بل يعتبره انعكاسا لفجوة في الوعي الذاتي والاجتماعي. فجيل اليوم، من وجهة نظره، يمتلك كما هائلا من المعرفة وأدوات الوصول إليها، لكنه يفتقر أحيانا إلى فهم ذاته وقيمه الحقيقية، ما يجعله يتنقل بين الخيارات دون وضوح أو انتماء.
ضغط المجتمع لهذا الجيل
لا يمكن فصل هذا التردد عن الخيبات التي شهدها الجيل الحالي في محيطه. يرى كثير من الشباب آباءهم وأمهاتهم ممن التزموا بمسارات تقليدية (زواج مبكر، وظيفة ثابتة، بيت وأطفال)، وانتهى بهم الأمر بالإرهاق، أو الطلاق، أو العمل بوظائف لا يحبونها.
هذا يولد قناعة ضمنية أن "الطريق التقليدي لا يضمن الراحة، فلماذا أكرره؟"،
وجود الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي جعل خيارات الحياة تبدو لا نهائية، وكل خيار يبدو مغريا أكثر من الآخر. على سبيل المثال "تفتح هاتفك، ترى صديقك سافر ونجح، وآخر تزوج، وثالث أطلق مشروعه الخاص.
النتيجة؟ تشعر أن كل خيار جيد، لكنك لا تستطيع اختيار أي منها، خوفا من أن تفوت شيئا آخر. هنا تتحول كثرة الخيارات إلى عبء نفسي، بدلا من أن تكون فرصة.
ويحذر شواقفة من أن هذا الانفتاح على العالم، رغم فوائده، أدى إلى تغليب القيمة المادية على غيرها. فالكثير من الشباب اليوم باتوا يختارون تخصصاتهم الجامعية أو مساراتهم المهنية بناء على ما يدر دخلا أكبر، لا على أساس الشغف أو الميول الشخصية.
وهذا كما يرى شواقفه أحد الأسباب التي تجعل قراراتهم غير مستقرة، لأنهم يسيرون في طريق لا يشعرون بالانتماء إليه.
البحث عن "اللحظة المناسبة"
كثير من الشباب يعيشون وفق مبدأ: "لما أكون جاهز، بقرر"، لكن الجاهزية المطلقة وهم.
لا توجد لحظة مثالية، ومع ذلك ننتظرها.
فنعيش في دائرة مغلقة: ننتظر، لا نقرر، ثم نلوم أنفسنا على عدم التقدم.
وهنا يبرز غياب أدوات التوجيه المبكر، بحسب شواقفة، سواء من الأسرة أو من المؤسسات التعليمية. فرغم أن المناهج الحالية كما يقول تحتوي على مفاهيم تعزز التفكير الناقد والاختيار الواعي، إلا أن التطبيق العملي لهذه المهارات على أرض الواقع يبقى محدودا، مما يفقد الطالب الثقة بقدرته على اتخاذ قرارات حقيقية.
هل الحل في تقبل الخطأ؟
ربما يكون الحل في إعادة تعريف القرار أنه ليس دائما خطوة للأمام، بل أحيانا تجربة للتعلم.


ربما علينا كجيل أن نقبل أن نخطئ، ونتراجع، ونبدأ من جديد، بدلا من أن نحاول اتخاذ قرار مثالي مرة واحدة وإلى الأبد.


"اللا قرار" ليس علامة على الفشل، بل انعكاس لواقع مليء بالتحديات. جيل اليوم لا يتهرب من الحياة، بل يحاول أن يفهمها قبل أن يدخلها. لكن بين الفهم والتجربة، هناك شعرة دقيقة. فإن طال الانتظار، ضاعت التجربة، وبقي القرار معلقا.

JoomShaper