رشا كناكرية

عمان- مشاعر من الاستياء عاشتها سوسن (36 عاما) عندما وصلت إلى إحدى صالات لعب الأطفال، لتتفاجأ بأن معظم الألعاب المعروضة افتراضية، بينما لم تتجاوز الألعاب الحركية التقليدية الخمسة.

سوسن أوضحت أنها قصدت صالة الألعاب على أمل أن تجد فيها ألعابا تمكن طفلتها مريم (7 أعوام) من القفز والحركة والتفاعل مع الأطفال وتفريغ طاقتها، لكنها صدمت بغياب تلك الألعاب التقليدية.

"يعني بالبيت تلفون، وبرا ألعاب افتراضية.. متى الطفل بده يكتشف نفسه؟" بهذه الكلمات عبرت سوسن عن استيائها، مشيرة إلى أنها ترغب أن تلعب ابنتها مع الأطفال وتتفاعل معهم، لا أن ترتدي نظارة سوداء وتغوص في عالم خيالي.

وسوسن ليست الوحيدة؛ فكثير من أولياء الأمور يواجهون صعوبة في تقبل غياب الألعاب الحركية التقليدية التي تتيح للطفل أن يكتشف ذاته، وينمي مهاراته الحركية والنفسية والاجتماعية من خلال القفز والركض والمرجحة وغيرها من الأنشطة.

فاللعب، بالنسبة للأهل، ليس مجرد متعة، بل وسيلة لتكوين الصداقات والتعبير عن النفس والنمو الاجتماعي، وبناء الشخصية. هو ايضا مساحة لتفريغ الطاقة الكبيرة الكامنة داخل الطفل.

 ألعاب افتراضية تأخذ الطفل إلى عوالم خيالية

لكن اليوم، تغيرت الأحوال. فالتوجه نحو صالات الألعاب بات مختلفا، وغالبا ما تكون مليئة بالألعاب الافتراضية التي تأخذ الطفل إلى عوالم خيالية. وتعرف هذه الألعاب باسم ألعاب الواقع الافتراضي (VR)، وهي ألعاب فيديو تمارس باستخدام أجهزة مخصصة مثل نظارات VR وسماعات الرأس.

وتنشئ هذه الأجهزة بيئة ثلاثية الأبعاد غامرة، يشعر فيها اللاعب وكأنه داخل عالم اللعبة ويتفاعل معه بشكل مباشر.

والحقيقة أن اللعب ينمي قدرات الطفل النفسية والعقلية، فهو ليس مجرد وسيلة للتسلية، بل أداة أساسية لنموه وتطوره. وبين تنمية الخيال واختفاء الألعاب التقليدية، يبرز تساؤل مهم: كيف يمكن أن ينمو الطفل بشكل متوازن؟

توجه الأطفال نحو الألعاب الرقمية

المتخصصة في الإرشاد النفسي والتربوي في الجامعة الهاشمية الدكتورة سعاد غيث، توضح أن توجه الأطفال نحو الألعاب الرقمية ساهم في دفع سوق الألعاب إلى التوسع في هذا الاتجاه، على حساب الألعاب التقليدية، إذ تستجيب الشركات العالمية والمحلية لميول وتفضيلات المستخدمين.

وتشير غيث إلى ضرورة وعي الأهل بأهمية الألعاب التقليدية، التي تشمل الرياضات المختلفة، والفنون، والألعاب الاجتماعية، والتمثيل، والإبداع اليدوي، لما لها من دور أساسي في نمو الطفل الحركي والاجتماعي والعاطفي، إلى جانب تعليم قيم مهمة مثل التعاون واحترام الدور والتنظيم.

كما تبين أن الألعاب التقليدية لم تختف تماما، لا سيما في المدارس التي توفر مساحات للعب الحركي، لكن الخطورة تزداد في فترات الإجازات، وهنا تنصح الأهل بإشراك أطفالهم في أندية صيفية رياضية مثل الكاراتيه وكرة القدم وغيرها.

وتلفت غيث إلى ملاحظة انتشار توجه لدى بعض الآباء نحو تنمية المهارات التقنية والرقمية لأطفالهم، مثل الروبوتات والبرمجة. ورغم أن هذا التوجه ليس خاطئا، فإنه يجب أن يكون هناك توازن بينه وبين ممارسة الألعاب التقليدية.

وتحذر من أن غياب هذا التوازن قد يؤدي إلى ضعف في المهارات الحركية لدى الطفل، كما قد ينجم عنه عزلة اجتماعية وصعوبة في تكوين الصداقات والتواصل مع الآخرين.

في المقابل، تؤكد غيث أن الألعاب الرقمية تمتلك فوائد عقلية وفكرية، مثل تنمية التفكير الاستراتيجي، وحل المشكلات، والتعلم التفاعلي، بالإضافة إلى تعزيز مهارات التواصل عن بعد، وهنا تبرز أهمية دور الأهل في حماية أطفالهم، وتحقيق توازن صحي بين الألعاب التقليدية والرقمية.

الألعاب الحركية والتقليدية هل تتلاشى؟

وتشدد غيث على أهمية وجود "حدود رقمية"، أي ضرورة تنظيم ساعات اللعب على الشاشات وتقنينها، بما يحقق التوازن المطلوب. وتؤكد على أهمية تشجيع الأطفال على ممارسة الألعاب الحركية والاجتماعية بمشاركة الآباء.

فالمشاركة الأبوية ضرورية في كلا النوعين من اللعب، التقليدي والرقمي، إذ يتيح ذلك للآباء التفاعل مع أبنائهم، وملاحظة ما يحتاجونه من دعم وتوجيه في حياتهم اليومية.

وتحذر غيث من خطورة الألعاب العنيفة، مشيرة إلى أن كثيرا من الألعاب الإلكترونية تحتوي على مستويات من العنف وشد الأعصاب، ما يدفع بعض الأطفال لاستخدام ألفاظ نابية خلال اللعب. وتضيف أن هناك ثقافة آخذة بالانتشار بين الأطفال الذين يمارسون هذه الألعاب عبر الإنترنت، مما يتطلب التنبيه والرقابة المستمرة.

وتؤكد غيث أن الآباء يجب أن يكونوا قدوة عملية لأبنائهم، من خلال تقنين استخدامهم الشخصي للأجهزة الذكية، وتخصيص أوقات للعب والتفاعل مع الأطفال بعيدا عن الشاشات.

من جانبها، تشير استشارية النفس الأسرية والتربوية، حنين البطوش، إلى أن بعض الألعاب الرقمية قد تسهم في تنمية مهارات معرفية مثل حل المشكلات، سرعة البديهة، والتفكير الإستراتيجي، إلى جانب تحسين التنسيق بين العين واليد. لكنها تؤكد أن الإفراط في استخدامها يترك آثارا سلبية لا يمكن تجاهلها.

وتوضح البطوش أن الانغماس الزائد في هذا النوع من الألعاب يؤدي إلى العزلة الاجتماعية ويقلل من تفاعل الطفل مع محيطه الواقعي، مما يضعف مهاراته العاطفية والاجتماعية.

كما تشير إلى أن آثار الألعاب الرقمية قد تظهر على شكل تقلبات مزاجية، أو حتى بوادر إدمان، تنعكس على نوم الطفل، تحصيله الدراسي وعلاقاته الاجتماعية. وتؤكد أن الاعتماد المفرط على اللعب الرقمي يقيد فرص الطفل في استكشاف العالم الحقيقي وبناء تجارب حياتية متنوعة.

وهذا بدوره قد يؤثر على تكوين شخصيته ويضعف من قدرته على التكيف والمرونة في مواجهة التحديات الواقعية، لذا فإن تحقيق التوازن بين اللعب الرقمي والأنشطة التقليدية بات ضرورة تربوية لحماية سلامة الطفل النفسية والاجتماعية.

 الطفل يحتاج بيئة تتيح

له نموا نفسيا سليما

وتشدد البطوش على أن الطفل يحتاج إلى بيئة غنية تتيح له نموا نفسيا، اجتماعيا وجسديا متكاملا، وأي خلل في هذه المنظومة قد ينعكس سلبا على صحته النفسية وسلوكه العام، فعندما يغيب اللعب الحركي والاجتماعي من طفولة الطفل، يُحرم من فرص أساسية لتطوير مهاراته البدنية كالتوازن والقوة والمهارات الدقيقة، ومن تعلم التفاعل الاجتماعي، مثل التفاوض، التعاون، وتكوين الصداقات.

وهذا النقص قد يؤدي إلى مشاكل صحية كضعف البنية الجسدية أو السمنة، إضافة إلى صعوبات في فهم الإشارات الاجتماعية أو بناء العلاقات السليمة.

ومن الناحية النفسية تبين أنه قد يشعر الطفل بالإحباط أو الضجر نتيجة تراكم الطاقة غير المصروفة، مما ينعكس على سلوكه في صورة قلق، وتقلبات مزاجية أو انسحاب اجتماعي.

والأسوأ بحسب البطوش، حين ينشغل الطفل بشكل مفرط في جانب واحد فقط كالعالم الرقمي، على حساب الجوانب الحركية والعاطفية، فإن نموه يصبح غير متوازن مما يحدث فجوات واضحة في قدراته على التكيف، ويؤثر لاحقا على نجاحه وتواصله مع الحياة الواقعية.

معادلة ذكية تجمع بين

اللعب الرقمي والتقليدي

وتشير البطوش إلى أنه لحماية الأطفال وتعزيز نموهم المتوازن، يحتاج الأهل إلى إيجاد معادلة ذكية تجمع بين فوائد اللعب الرقمي وأهمية اللعب التقليدي، ويكمن المفتاح في تحقيق التوازن ووضع ضوابط واضحة تضمن للطفل بيئة صحية ومتكاملة.

تشجيع اللعب النشط والحركي

ومنهم تحديد وقت الشاشة اليومي وفقا لعمر الطفل، وينبغي تشجيع اللعب النشط والحركي، سواء في الهواء الطلق أو من خلال الرياضات الجماعية، لما له من دور في تفريغ الطاقة وتعزيز المهارات البدنية والاجتماعية، كما أن تنويع الألعاب التقليدية داخل المنزل مثل المكعبات، الألغاز، والقصص، ما يحفز الإبداع والتفكير.

وتؤكد البطوش أن اللعب العائلي والتفاعل مع الأقران من أهم عوامل دعم الطفل نفسيا واجتماعيا، فإن تخصيص وقت للأنشطة المشتركة يعزز روابط الحب والأمان. ومن جهة أخرى من المهم أيضا مراقبة نوعية المحتوى الرقمي والتحدث مع الطفل حول ما يشاهده أو يتعلمه بحسب البطوش، ليتعلم التمييز بين المفيد والمضر، فلا يكتمل الدور التربوي دون أن يكون الأهل قدوة حسنة في استخدام الشاشات وممارسة الأنشطة المتنوعة، فإن توعية الطفل بأهمية هذا التوازن ستجعله أكثر وعيا بجسده وعقله وعلاقاته، مما يؤهّله لنمو صحي وحياة أكثر ازدهارًا.

وكما أن الإفراط في اللعب الرقمي قد يعيق تطور المهارات التنفيذية لدى الطفل بحسب البطوش، وهي مجموعة من المهارات العقلية العليا الضرورية للحياة اليومية مثل التنظيم الذاتي، اتخاذ القرار، التخطيط، وتأجيل الإشباع.  وتبين أن الألعاب الرقمية، خاصة تلك التي تكافئ الفعل الفوري وتشبع الرغبة بشكل لحظي، لا تتيح للطفل فرصة التدرب على الصبر، أو التفكير المسبق أو تقييم الخيارات، وهي مهارات تتطور في بيئات أكثر واقعية وهدوءًا، كالتفاعل الاجتماعي، اللعب الجماعي، أو تنفيذ المهام المنزلية والتعليمية، فغياب هذه المهارات قد ينعكس على سلوك الطفل داخل المدرسة والبيت، فيبدو مشتتا، متسرعا أو غير قادر على إدارة وقته ومشاعره بشكل سليم.

 الإثارة البصرية والصوتية المتواصلة

وتضيف البطوش أن الانخراط الطويل في الألعاب الرقمية خاصة تلك التي تتميز بالإثارة البصرية والصوتية المتواصلة قد تؤدي إلى ما يعرف بـ"التحفيز الزائد للمخ"، حيث يغمر الجهاز العصبي للطفل بمؤثرات سريعة ومكثفة تفوق قدرته الطبيعية على المعالجة، مما ينتج حالة من التوتر الداخلي وعدم القدرة على الاسترخاء.

وهذا يفسر لماذا يشعر بعض الأطفال بالعصبية أو الملل الشديد عند الابتعاد عن الشاشة، ويواجهون صعوبة في الاستمتاع بالأنشطة الهادئة كالرسم أو القراءة أو حتى الجلوس العائلي، فالدماغ بعد الاعتياد على وتيرة الألعاب السريعة، قد يفقد حساسيته تجاه المحفزات البسيطة، وهو ما يهدد التوازن العصبي والسلوكي للطفل على المدى الطويل.

مع انفتاح الأطفال على منصات الألعاب والتواصل، تصبح مسألة السلامة الرقمية ضرورة تربوية لا تقل أهمية عن أي جانب آخر، فالكثير من الألعاب تتضمن غرف دردشة، أو محتوى غير خاضع للرقابة، مما قد يعرض الطفل للتنمر، أو الإغراءات، أو التواصل مع غرباء، حيث قد يكتسب الطفل مفاهيم سلبية حول الخصوصية، أو ينخرط في مشاركة معلومات أو صور دون وعي بعواقب ذلك، وينبغي أن يرافق اللعب الرقمي توجيه مستمر من الأهل حول كيفية الاستخدام الآمن والمسؤول للتقنية، وغرس مبادئ الاحترام، الحذر، و"الأخلاقيات الرقمية"، كي لا يتحول العالم الافتراضي إلى مساحة تهديد لقيم الطفل وهويته.

اضطرابات سلوكية ونفسية لدى الأطفال

أشارت دراسات نفسية حديثة إلى وجود علاقة متزايدة بين الاستخدام المفرط للشاشات وبين ظهور اضطرابات سلوكية ونفسية لدى الأطفال، أبرزها اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD)، القلق الاجتماعي، واضطرابات النوم المزمنة، فالتعرض الطويل للمؤثرات الرقمية، إلى جانب قلة الحركة والنوم المتقطع، يخلق بيئة خصبة لتطوّر أنماط سلوكية غير متزنة، مثل التشتت المستمر، صعوبة التنظيم، والميل إلى القلق أو الانسحاب الاجتماعي.

 وفي كثير من الحالات، قد لا ينتبه الأهل إلى هذه الأعراض إلا بعد أن تُؤثر على الأداء الدراسي والعلاقات اليومية، مما يجعل الوقاية والتوازن الرقمي ضرورة أساسية في حياة الطفل مجرد خيار.

لا تقتصر آثار الألعاب الرقمية على الجانب النفسي والمعرفي فقط، بل تمتد لتشمل صحة الطفل الجسدية على المدى الطويل، فالتحديق المستمر في الشاشات لفترات طويلة قد يؤدي إلى إجهاد العين وضعف البصر، وتؤدي الوضعيات غير السليمة أثناء اللعب إلى آلام في الرقبة والظهر.

وتضيف البطوش أن استخدام الأجهزة في ساعات متأخرة من الليل أو قبل النوم مباشرة، يؤثر على إفراز الميلاتونين، وهو الهرمون المسؤول عن تنظيم النوم، مما يؤدي إلى اضطرابات في النوم قد تنعكس على المزاج والتركيز خلال النهار.

لا تقع مسؤولية حماية الأطفال من الآثار السلبية للّعب الرقمي على عاتق الأسرة وحدها، بل تمتد لتشمل المدرسة والمؤسسات التربوية التي تُشارك في تشكيل وعي الطفل وسلوكياته، ومن المهم أن تُدمج مفاهيم "التوازن الرقمي" و"الثقافة التقنية الواعية" ضمن المناهج الدراسية والأنشطة اللاصفية، بشكل لا يشيطن التقنية، بل يعلم الطفل كيف يدير وقته الرقمي بوعي ومسؤولية.

 كما ينبغي تدريب المعلمين على رصد السلوكيات المرتبطة بالإفراط في استخدام الأجهزة، وتقديم الإرشاد والدعم النفسي والتربوي عند الحاجة، فالمؤسسات التربوية يمكن أن تكون مساحة وقائية وبديلة، تعيد للطفل علاقاته الواقعية، وتحفزه على اللعب الجماعي، والتفكير النقدي، وبناء الهوايات خارج العالم الافتراضي.

 الوقاية الرقمية تبدأ من وعي الأهل

وتؤكد البطوش ان الوقاية الرقمية تبدأ من وعي الأهل، لكنها لا تكتمل دون حوار مستمر وبناء مع الطفل، يشعره بالثقة والمسؤولية دون ترهيب أو مبالغة.

وتختم البطوش حديثها مؤكدة أنه لا يمكننا أن نحجب أطفالنا عن التكنولوجيا، لكن يمكننا أن نعلّمهم كيف يتعاملون معها بوعي واتزان، فالخطر لا يكمن في الألعاب الرقمية ذاتها، بل في غياب التوجيه، والتوازن، والبدائل الصحية.

وتقول "كل دقيقة يقضيها الطفل في عالم افتراضي يجب أن يقابلها زمن واقعي يملؤه تفاعل، وحركة ودفء بشري، فإن بناء إنسان متزن يبدأ من بيت يدرك أن التربية ليست في منعه من اللعب، بل في مساعدته على أن يلعب دون أن يفقد نفسه، لنكن على قدر المرحلة، نرافقهم لا لنراقبهم فقط، نلعب معهم لا لنبعدهم، ونعطيهم فرصة ليكبروا في عالم يعرف كيف يحتضن التقنية دون أن يتخلّى عن إنسانيته".

JoomShaper