جريدة الغد

عمان - ليس بالضرورة أن يكون الخوف زئير أسد خلف الأشجار، أو دوي انفجار في شارع مزدحم. أحيانا، يتسلل الخوف بهدوء.. في رنة هاتف تقطع سكون الليل، في صوت نافذة ترتجف على وقع برق ورعد.

  لا يختلف الناس في وجوههم فقط، بل في أسباب خوفهم أيضا. منهم من يربكه صوت، ومنهم من ينهار عند ذكر حدث، ومنهم من يبتسم في العلن، فيما ينهشه الخوف في صمت، يصارع فوبيا لا يراها أحد.

ميساء، (34 عاما) موظفة في أحد البنوك، تصف كيف تحولت رنة هاتفها إلى "حالة طوارئ داخلية"، فحين رن هاتفها بعد منتصف الليل، لم يكن سوى إشعار بتحديث من أحد التطبيقات، لكن انتابها خوف لا يوصف، ظنا أن مكروها أصاب والدها المريض.

تقول، إن أي هاتف في الليل يجعلها مستيقظة حتى الفجر، تراجع في ذهنها كل السيناريوهات المخيفة. ورغم أن بعضهم قد يرى في هذه الاستجابة مبالغة، إلا أنها بالنسبة لها صدى لتجربة قديمة، مؤلمة، حملت معها خبرا مفجعا في ساعة متأخرة.

العشريني حسام ما يزال يحمل رجفة الطفولة في صوته كلما تحدث عن الرعد. يقول: "أذكر أننا كنا نلعب في ساحة المنزل حين دوى صوت رعد قوي فجأة، فانهارت قريبتي من الخوف أمامي.. ومنذ ذلك اليوم، بات صوت البرق والرعد يربكني ويشعرني بالعجز، حتى وإن كنت أعلم يقينا أنني في مكان آمن".

بالنسبة له، لم يعد الصوت مجرد ظاهرة طبيعية، بل أصبح ذاكرة خوف، ظلت عالقة رغم مرور السنوات.

أما هالة، وهي معلمة في الخمسينيات من عمرها، فتشعر برعب داخلي كلما سمعت بخبر وفاة، حتى لو لم تكن تعرف الشخص. تقول: "كأنني أتلقى خبرا شخصيا يمسني.. أشعر بوخز في صدري، وتنتابني كآبة حقيقية لا أستطيع تفسيرها. لكنه يحدث في كل مرة أسمع فيها كلمة (وفاة)".

ورغم أن هذه المشاعر قد تبدو غير منطقية لبعضهم، إلا أنها ليست نادرة كما يظن، بل تعبّر عن الطريقة التي يخزن بها العقل العاطفي التجارب، ويربط بينها دون وعي.

تؤكد التربوية والمرشدة النفسية رائدة الكيلاني أن مثل هذه المخاوف اليومية تعد طبيعية إلى حد ما، لكنها أحيانا تشير إلى وجود روابط نفسية، ناتجة عن تجارب سابقة لم تعالج بشكل كاف.

ووفق قولها، فإن الخوف من الهاتف في الليل، على سبيل المثال، قد يعود إلى لحظة سابقة تلقى فيها الشخص خبرا سيئا في نفس التوقيت. إذ يسجّل الدماغ الصوت والوقت والحدث، ويربط بينها لاحقا بطريقة لا واعية.

وصوت البرق والرعد من الأصوات التي تثير الخوف الفطري لدى الإنسان منذ القدم، لكن من المفترض أن تخف هذه الاستجابة مع النضج، إلا إذا ارتبطت بذكرى صادمة ترسّخت في الذاكرة.

وتشدد الكيلاني على أن الاعتراف بالخوف والتعبير عنه هو الخطوة الأولى لفهمه والتعامل معه، في حين أن إنكاره أو التقليل من شأنه قد يؤدي إلى مشكلات أعمق، كاضطرابات النوم أو نوبات القلق.

وتؤكد أن جميع مشاعر الإنسان مشروعة، والخوف ليس علامة ضعف، بل دلالة على تفاعل طبيعي مع المحيط.

من جانبه، يرى اختصاصي علم الاجتماع الدكتور حسين الخزاعي أن المجتمع العربي ما يزال يتعامل مع الخوف كمؤشر على الهشاشة، خصوصا إذا صدر عن الرجال أو كبار السن.

ويشير إلى وجود ضغط اجتماعي يدفع كثيرين إلى كتم مشاعرهم والتعامل مع مخاوفهم بصمت، ما يضاعف أثرها النفسي.

تسارع وتيرة الأخبار والكوارث على وسائل التواصل، وفق الخزاعي، جعل الناس يعيشون في حالة ترقب دائم، يفقدهم القدرة على التمييز بين القريب والبعيد، وحين يتلقى الشخص عشرات الأخبار السيئة خلال دقائق، يبدأ العقل في ربط الخطر به شخصيا، حتى دون وجود تهديد مباشر.

وبحسب الخزاعي، فالحل يبدأ من التربية المجتمعية، عبر تعزيز تقبل المشاعر، وفتح مساحات حوار حول المخاوف الفردية، خصوصا داخل الأسرة والمدرسة ومكان العمل.

ويقول، "علينا أن نعيد تعريف القوة.. فالقوي ليس من لا يخاف، بل من يعترف بخوفه ويعرف كيف يتعامل معه".

وتتفق الكيلاني مع هذا الطرح، وتضيف أن التعامل السليم مع الخوف يتطلب أولا وعيا ذاتيا، ثم تطبيق إستراتيجيات بسيطة مثل الحديث مع شخص موثوق، أو ممارسة تمارين التنفس العميق، أو التدرب على التعرض التدريجي للمواقف التي تثير القلق.

وفي الحالات التي يتحوّل فيها الخوف إلى قلق مزمن أو يعيق الحياة اليومية، توصي بالعلاج النفسي والسلوكي.

وأخيرا، يمكن القول إن الخوف وجه آخر للإنسانية، ينبغي ألا يخجل منه إلا من لم يتصالح مع ذاته. فكما أن لكل إنسان طيفه من الذكريات والأحلام، له أيضا خريطته الخاصة من المخاوف. وهي ليست دليل ضعف، بل هي برهان على أنه حي.. يشعر ويتفاعل.

JoomShaper