دعاء الشامي
في لقاء على مقهى صغير جلسنا، مجموعة من الأصدقاء نتذكر معا أيام طفولتنا ونضحك على سذاجة مطالبنا وطرقنا في الهروب مما كان يميله علينا آباؤنا.
قال أحدهم إنه طُرد من البيت وكان في الـ15، لأنه كان يستخدم "كريم مثبت الشعر" عند تصفيفه قبل المدرسة، فيما ذكر آخر أن سبب غضبة أبيه الكبرى عليه كانت لارتدائه سروالا من الجينز الضيق، وذكرت ثالثة أنها لن تنسى أبدًا تعرضها للضرب المبرح من والدتها لتأخرها عن موعد مغيب الشمس في طريق عودتها من درس اللغة الفرنسية.
تعجبت ابنتي من ذلك فيما كنا نضحك من قلوبنا وندرك مدى خطورة تلك الأفعال وقتها، أعطتنا هي محاضرة في تخطي هذه التصرفات للحرية الشخصية، واعتبارها إساءة ضد الأطفال وطريقة غير مقبولة في التربية وكيف أن هذه الطريقة ستؤثر على الصحة النفسية والعقلية للأطفال. واصلنا الضحك، ولكن هذه المرة لأن أيا منا لم يدرك كثيرا من هذه المعاني قبل الثلاثينيات من عمره.


توقفت كثيرًا عند هذه الجلسة، لم أشعر فيها بالخجل من ابنتي بل أدركت حجم التغيير، حاولت فهم كيف يفكر هذا الجيل، ومن أين أتى بكل هذه الأفكار الكبيرة، وكيف لنا أن نربيهم على الأخلاق والقيم التي تحكم منظومتنا الاجتماعية من دون كسرهم أو عزلهم عن محيطهم الواسع جدًا والمتغير بسرعة.
طوال الأيام التالية تعمدت الحديث معها عما تراه وتعتقده وتريده، وكانت الجملة المكررة في كل حواراتنا "ماما.. نحن جيل زد، جيل مختلف ومميز جدا ولدينا طريقتنا الخاصة".
لم تشغلني فكرة الأجيال هذه من قبل إلا بشكلها البسيط في مخيلتنا كالخلاف بيننا وآبائنا على المذاكرة ونوع الدراسة والأصدقاء وطول مدة اللعب خارج المنزل.
كغيره من الأجيال السابقة يحدد الجيل زد "Z" مواليد الفترة ما بين منتصف التسعينيات وصولا إلى عام 2012، إذن تقريبًا هم أطفال وشباب هذه الأيام الذين تتراوح أعمارهم بين 9 سنوات إلى 25 عامًا، ويمثلون نحو 2.5 مليار شخص أي حوالي ثلث سكان العالم، ليس هذا فقط بل لديهم الدخل الأسرع نموًا، والأكثر استهلاكًا للمنتجات خاصة تلك التي تباع عبر الإنترنت.
استمع إليهم وتحدث معهم
"في يوم من الأيام دخلت عليّ ابنتي لتخبرني أنها بحاجة إلى طبيب نفسي للحديث معه، هزتني الفكرة لأنها تبدو في غاية السعادة يوميا تضحك وتمارس السباحة بانتظام وتعزف البيانو، وهي مسؤولة اتحاد الطلاب في مدرستها، صَمَتُّ قليلا ثم سألتها لماذا؟ لتبدأ في البكاء معربة عن تعرضها لنوبات شديدة من الأرق والبكاء والتشنج ليلا، إضافة إلى تفكيرها في أمور سوداوية وبعد شكواها لصديقاتها نصحوها بطلب المساعدة مني.
واصلت حديثها فيما تدور رأسي وأكملت: لكنني كنت خائفة من رد فعلك واتهامي بأنني طفلة مدللة وتوقعت أنك لن تهتمي بما أقول ولكن اليوم قررت الحديث معك لأن تلك النوبات بدأت تراودني في المدرسة.
هكذا حكت منى عما مرت به مع طفلتها ذات الـ13 ربيعًا، معربة عن أسفها الشديد للفكرة التي كوّنتها ابنتها عنها رغم أن مشاعرها عكس ذلك تمامًا لكنها أدركت أن كلماتها تقول غير ذلك.
ربما تكون قد مررت أو سمعت شكوى مماثلة، لذا الخطوة الأولى لفهم ما يريده ويشعر به أطفالنا هي الحديث معهم، والوقوف إلى جانبهم وإشعارهم بأننا نراهم، فمن المؤكد أن الأبناء يحتلون الأولوية القصوى لدى الأهل لكن ربما يفوتهم ترجمة ذلك، اجلس معهم وناقشهم فيما يحدث معك في العمل، أخبرهم كم أنت مهتم بجعلهم في أولوياتك، اسألهم عن يومهم في المدرسة، تعرف على أصدقائهم وشاركهم مجالسهم، شاركهم قراءة كتاب واستمع معهم للأغاني التي يفضلونها.
أعطهم فرصة للتعبير عند زيارة الأصدقاء ولا تقلل من شأن آرائهم، وامنحهم التشجيع لخوض تجاربهم ولا تفرض رأيك عليهم دومًا، واجعلهم يختارون معك أبسط الأشياء وصولا إلى خطط المستقبل والتقاعد. ثم أخبرهم أنك تقدر آراءهم وإن اختلفت معها، وإذا شعرت أن أحدهم ليس بخير اعرضه على طبيب نفسي أو سلوكي إذا دعت الحاجة لذلك.
ادمج التكنولوجيا في حياتهم
في أحد الأيام بينما أقوم بحل الكلمات المتقاطعة عبر الهاتف طلبت ابنتي ذات الـ9 أعوام مشاركتي. وقد أحببت الفكرة واتفقنا أن نقوم بذلك التمرين معًا كل يوم، لم أتوقع أن تعجبها ولكنها اكتسبت من خلالها كثيرا من كلمات اللغة العربية وتحسنت لديها مهارات التركيز عبر عدة ألعاب مصممة للحفاظ على الذاكرة.
معظم أنشطة هذا الجيل على شبكة الإنترنت، وتشير الأبحاث إلى أنهم يشترون أغلب طلباتهم من هناك ويتعرفون على أصدقائهم ويمارسون ألعابهم ويجمعون أفكارهم عن العالم من ذات المكان، لذا ربما علينا الاستفادة من تلك الفكرة.
فبدلًا من اللعب على الهاتف من دون هدف واضح أو تصفح مواقع التواصل اشترك لهم في دورة للبرمجة أو قم بتنزيل تطبيق لتعلم لغة جديدة. أرسل لهم مقاطع مصورة عما تريدهم أن يتعلموه من أفكار، اطلب منهم البحث عن موضوع محدد والحديث عنه في جلسة العائلة، وإذا كان طفلك من محبي التصوير بالهاتف مثلًا اطلب منه إعداد فيلم بالهاتف وادع الأصدقاء بالمنزل لعرض الفيلم وشجعه على تكرار ذلك.
الأنشطة قصيرة الأمد
إذا رجعنا لطفولتنا سنجد أننا نفتقر الصبر مقارنة بالأجيال السابقة، فبينما كان آباؤنا يستمعون إلى أغنية مطولة تمتد لساعتين بكل سعادة، كنا لا نستطيع تحمل الفكرة، ونفضل الأغاني القصيرة التي لا تزيد على 5 دقائق، وفي وقت كنا ننتظر المسلسل التلفزيوني في ساعة محددة يوميا وعلى قناة واحدة هي كل ما نشاهده، تتاح لأبنائنا اليوم عشرات الخيارات القائمة على اختيار ما يشاهدونه، وليس ذلك فقط بل في الوقت الذي يفضلون من دون انتظار لحلقات بل بضغطة واحدة ينهون كل الحلقات عبر منصات المشاهدة العديدة اليوم.
بالعودة إلى طريقة نشأة هؤلاء الأطفال في ظل عالم الإنترنت المتسارع في كل تفاصيله فليست لديهم القدرة على الانتظار طويلا في أي حوار أو نشاط، لذا علينا التخطيط لجعل الأنشطة قصيرة ومفيدة، وهنا قد تكون الألعاب المنزلية والأحجية الرياضية حلا، والمشاركة في طبخ وجبات سريعة للعشاء عبر وصفات خاصة بهم.
ويبقى اقتراح جلسة عائلية من دون هواتف ذكية تجربة ضرورية لتقنين استخدام الهاتف بالتجربة العملية من الجميع، ويمكن تحديد ربع ساعة أو نصف ساعة للحديث عما دار في يوم كل فرد فأغلبهم لا يتبرعون بحكاية تفاصيل يومهم وتحتاج إلى جعل الأمر يبدو عاديا وليس استجوابًا.
أعطهم الفرص لتعلم مهارات مالية
تشتكي زميلتي في العمل دومًا من ولع أطفالها باستهلاك كل الأشياء سريعًا والانتهاء من ذلك الشغف بسرعة مهما كانت قيمة تلك المنتجات كالمطالبة بآخر صيحات الهواتف واختيار الأحذية الرياضية من ماركات عالمية، وقد حكت لنا آخر معاركها قائلة إنه في غرفة ابنتي تقبع 4 آلات موسيقية متنوعة، كل بضعة أشهر تكتشف شغفها بآلة جديدة وتدخل نقاشًا طويلًا للحصول عليها، أول مرة جاءتها هدية "غيتار"، في العام التالي اشترت هي من ميزانيتها "كيبورد" وبعدها بأشهر كانت قد أقنعت عمتها بحاجتها إلى آلة "كمان" كهدية عيد مولدها وقبل أن ينتهي العام التالي جمعت أموالها مدة طويلة لتحصل على غيتار كهربائي.
ربما ننظر إلى الطلبات المتكررة بوصفها إسرافا ولكن إذا وضعنا في الاعتبار أن الاستهلاك المفرط أحد سمات هذا الجيل ربما نراه من زاوية أخرى، فوفقا للأبحاث هذا الجيل هو الأكثر استهلاكًا كما أنهم يقرؤون عن المنتجات التي يريدونها قبل الشراء، ويفضلون الماركات ويتأثرون أكثر بتجارب المستخدمين أكثر من الإعلانات وفقًا لشركة "ديوليت" للمحاسبة.
إذن، يمكننا أن نناقش احتياجاتهم ونشركهم في شرائها من ميزانيتهم الشخصية إلى جانب التدخل بالمساعدة إذا كان هناك داع لذلك، بالإضافة لدمجهم في أنشطة مدرسية يقدمون خلالها مشروعا صغيرا أو فكرة لكسب المال، وقد يكون منحهم هدايا عيد الميلاد نقدية بدلًا من الأشياء العينية حلًا لوضعهم في تجربة الاختيار بين الحاجة والرغبة وطبعا رفض الشراء في بعض الأحيان ضروري لمساعدتهم على تعلم فكرة كبح الاستهلاك.
إليك 9 طرق للتعامل مع المراهقين المزاجيين دون أن تفقد أعصابكمعظم أنشطة هذا الجيل على شبكة الإنترنت، حيث يتعرفون على أصدقائهم ويمارسون ألعابهم (غيتي)
أشركهم في الإصلاح
على شاطئ البحر بعدما ننهي جلستنا يسارع أطفالنا وأصدقاؤنا إلى جمع قوارير المياه البلاستيكية وما تركناه خلفنا من بقايا قبل أن نغادر، وفي محال القهوة تختار ابنتي دومًا كوبا صديقا للبيئة بل ويمثل وجود هذا الخيار أهم معاييرها عندما تقرر شراء مشروب أو وجبة غداء من الخارج.
ربما يتفوق جيل "زد" عن كل الأجيال السابقة في منح الأرض والتغييرات المناخية اهتمامهم ووقتهم، إذن هذه فرصة للاستفادة من تلك الفكرة في بقية تفاصيل الحياة كضرورة تقليل الهدر في الطعام وترتيب الغرف وتقليل استخدام الكهرباء من دون فائدة وإعادة تدوير الملابس القديمة والأدوات غير المستخدمة لتصير مفيدة كأن تصنع من إطارات السيارات إناء للزراعة مثلًا ومن الجيد إحالة كل تلك الأمور إلى حماية الأرض والاستدامة.
امنحهم الثقة والعاطفة
في جلسة أسرية سألت ابنتي عن طموحها وما تريد أن تحققه في المستقبل. ومن دون تفكير أخبرتني أنها تريد أن تكون سعيدة وأن تسافر حول العالم وتخبر الجميع بضرورة الحفاظ على البيئة.
توقفت طويلا عند ردها فكل كلمة مما قالته تعطي مفتاحًا لإدراك فهم طفلة الـ14 ما تريده، ورغم أنها قالتها بسرعة كضغطة على مفتاح هاتفها، فإنها توجز سنوات ربما أضعناها لنفهم ما نريد. فلم تذكر وظيفة أحلامها أو توجهها الجامعي، فقد وضعت السعادة محددًا لمسارها من دون الالتفات إلى ما يمليه الآخرون عليها، واختارت المعرفة من خلال السفر ولم تتعلق بقطعة أرض تتبدل، ثم كبقية جيلها أخذت على عاتقها محاولة إصلاح ما حل بالأرض من دمار.
ربما نجد أبناءنا أقل صبرًا وعاطفة وأكثر صراحة وفهما لاحتياجاتهم، ولكنهم بقدر كل ذلك يحتاجون إلى منحهم ثقة توازي توقعاتنا منهم ولهم، كما أنهم يحتاجون مزيدًا من التفهم والحب والدعم لنملأ هذه الفجوة بين أعمارهم الصغيرة وعالمهم الواسع

JoomShaper