محمود الفتيح
يسقط الأطفال في مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) ضحايا لانتهاكات متعدّدة، تتوزع بين الرصاص المباشر، والتجنيد القسري، والفلتان الأمني، من دون أن يجد ذووهم صوتاً قوياً يدافع عنهم أو جهة تُحاسب المسؤولين عن هذه الجرائم، فمنذ بداية عام 2025، شهدت مناطق الجزيرة السورية سلسلة من الجرائم المروعة، راح ضحيتها 12 طفلاً برصاص عناصر "قسد"، إلى جانب عشرات حالات الاختطاف والتجنيد الإجباري، في ظل غياب تام للمساءلة وصمت دولي لا يرقى إلى حجم الانتهاكات.
وسط واقع قاتم، يشعر الأهالي في الحسكة والرقة ومناطق الضفة الشمالية لنهر الفرات في ريف دير الزور بحالة من "الخذلان"، إذ لا يجدون من يناصر قضاياهم بالحجم الذي يرقى إلى مستوى الانتهاكات التي يتعرضون لها، سواء من قبل الحكومة السورية، أو عبر المنظمات الدولية، أو حتى على وسائل التواصل الاجتماعي. ورغم توقيع اتفاق رسمي في 10 من آذار الماضي بين الحكومة السورية و"قسد" لدمج مؤسسات الإدارة الذاتية ضمن مؤسسات الدولة، لم يُترجم ذلك إلى أي حماية فعلية للمدنيين، ما زاد من شعورهم بالعزلة والتخلي.
تصاعد ظاهرة استهداف الأطفال برصاص "قسد"
وبلغ عدد الضحايا من الأطفال 274 طفلاً، قضوا على يد "قسد" خلال الفترة الممتدة من آذار 2011 وحتى 20 من تشرين الثاني 2024، وفقاً لتوثيقات الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
وشهدت محافظتا دير الزور والرقة تصاعداً في الانتهاكات بحق المدنيين، تمثلت بوقوع ضحايا من الأطفال برصاص عناصر "قسد" خلال الأيام الماضية، ما أثار موجة استياء وغضب بين السكان المحليين.
وفي 26 من حزيران الماضي، قُتل الطفل فريد الهريش في دير الزور برصاص أحد عناصر "قسد" في بلدة أبو حردوب، بعدما رفض تنفيذ أوامر تتعلق بسرقة أحد الحقول الزراعية، في حين برّرت وسائل إعلام مقربة من "قسد" الحادثة بأن العنصر كان تحت تأثير الكحول. وبعد أيام، قضى الطفل علي عباس العوني (13 عاماً)، في 2 من تموز الجاري، برصاص حاجز يتبع لـ"قسد" شمالي مدينة الرقة، في أثناء جمعه لحبوب القمح قرب الحاجز، ما أدى إلى مقتله على الفور وسط استياء شعبي واسع.
الناشط الصحفي حسن الإبراهيم، وهو من أبناء الرقة، أكّد أن "قسد" أجبرت ذوي الطفل العوني على دفنه ليلاً تحت حراسة أمنية مشددة، في محاولة لتقليل حجم ردود الفعل المحلية ومنع أي تحركات احتجاجية.
وأوضح الإبراهيم أن "القتل على الحواجز بات ظاهرة متكررة"، مشيراً إلى حوادث مماثلة وقعت خلال حزيران، من بينها مقتل شاب قرب نقطة عسكرية في بلدة الجرنية غربي الرقة، وإصابة آخر في قرية القحطانية بعد مشادة كلامية مع عناصر أحد الحواجز.
وأرجع تصاعد هذه الحوادث إلى انتشار ظاهرة "التشليح" وفرض الإتاوات، ما يؤدي إلى احتكاكات متكررة بين السكان والعناصر الأمنية، سرعان ما تتحول إلى عنف مسلح في غياب أي نظام للمحاسبة.
شعور متزايد بالتخلي بين الأهالي
وحول موقف الأهالي، أشار الإبراهيم إلى أن "الخوف يمنع السكان من الاحتجاج"، لا سيما بعد تعرض مظاهرات سابقة لإطلاق نار مباشر. كما عبّر عن استياء واسع من صمت الإعلام المحلي والدولي، وغياب التغطية الكافية لحجم الانتهاكات، سواء من وسائل الإعلام الحكومية أو المستقلة.
وأشار إلى أن الحكومة السورية لم تصدر حتى الآن أي بيان رسمي يدين الانتهاكات، على الرغم من مسؤوليتها في حماية السكان وتوثيق الجرائم بحقهم، بما في ذلك في المناطق الخارجة عن سيطرتها، ما عزّز شعور الأهالي بأنهم تُركوا لمصيرهم دون دعم.
مطالباً "قسد" باستعادة طفلتيه المجندتين.. مواطن يهدد بحرق نفسه بريف الحسكة
توثيق الانتهاكات يصطدم بقمع "قسد"
فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أوضح أن "قيادة قسد تتحمل المسؤولية الرئيسية عن الانتهاكات الجارية"، لكن ذلك لا يُعفي الحكومة السورية من واجبها في حماية المدنيين.
وبيّن أن الشبكة تواظب على إرسال تقاريرها إلى الأمم المتحدة ولجان التحقيق التابعة لها، والتي تستند إلى هذه التقارير في تشكيل لجان خاصة وإصدار إدانات رسمية توثق الانتهاكات المرتكبة في سوريا.
وأكد أن لجان التحقيق الدولية تبذل جهوداً فاعلة في توثيق الانتهاكات على امتداد الجغرافيا السورية، غير أن ضعف توثيق الانتهاكات في مناطق سيطرة "قسد" لا يعود إلى تراجعها أو تقصير المنظمات، بل إلى غياب المعلومات الدقيقة نتيجة القمع الشديد الذي تمارسه "قسد" على الناشطين والحقوقيين.
مخيم روج
بينهم أطفال.."قسد" تواصل حملة الاعتقالات في مخيم "روج" بريف الحسكة لليوم الثاني
اتفاقيات بلا التزام.. استمرار الاختطاف والتجـنيد قسري
لا تقتصر انتهاكات "قسد" بحق الأطفال في شمال شرقي سوريا على جرائم القتل فقط، بل يُعد اختطاف القاصرين بهدف التجنيد القسري من أبرز المخاوف التي تؤرق الأهالي، وسط اتهامات متكررة توجَّه إلى "الشبيبة الثورية" (جوانن شورشكر)، الذراع الشبابي لـ"حزب العمال الكردستاني"PKK - ، بتنفيذ هذه العمليات من دون أن تتخذ "قسد" أي إجراءات فعلية لوقفها.
ورغم توقيع "قسد" اتفاقاً مع الأمم المتحدة ينص على إنهاء جميع أشكال تجنيد الأطفال، إلا أن الواقع الميداني يعكس استمرار هذه الانتهاكات، في ظل عجز فعلي عن احتوائها. ووفقاً لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، فإن الانخراط العلني لمجموعات مثل "الشبيبة الثورية"، والارتفاع المستمر في عدد الحالات، يكشفان عن "تقاعس خطير" من جانب "قسد".
روت إحدى الأمهات، وهي من ذوي الفتيات المختطفات، لموقع "تلفزيون سوريا"، أنها واجهت أحد كوادر "الشبيبة الثورية" مطالبةً بعودة ابنتها، مذكّرةً بالاتفاق الموقع بين مظلوم عبدي والأمم المتحدة. لكن القيادي ردّ عليها بسخرية قائلاً: "مظلوم عبدي كان قاصراً عندما انضم إلينا".
من جهته، طالب والد أحد الأطفال المختطفين الولايات المتحدة، بصفتها الحليف والداعم الأبرز لـ"قسد"، بالتدخل للضغط على الأخيرة لتنفيذ تعهداتها، مشدداً على ضرورة فرض عقوبات على "الشبيبة الثورية" بسبب دورها في تجنيد القاصرين.
ووثّقت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" ما لا يقل عن 701 من حالات تجنيد الأطفال على يد "قسد" منذ عام 2011 وحتى 20 من تشرين الثاني 2024. إلا أن ناشطاً حقوقياً من محافظة الحسكة ـ طلب عدم الكشف عن اسمه ـ أشار إلى أن الأرقام الحقيقية أعلى بكثير، موضحاً أن العديد من العائلات تتجنب التبليغ خوفاً من الانتقام، أو لأن بعض أفرادها يعملون ضمن "قسد" أو مؤسسات "الإدارة الذاتية".
تنظيم مستقل خارج رقابة "قسد"
وأشار الناشط الحقوقي لموقع "تلفزيون سوريا" إلى أن "قسد" لا تتولى عمليات التجنيد بشكل مباشر، بل تنفذها "الشبيبة الثورية"، وهي جهة تُدار فعلياً من كوادر في "حزب العمال الكردستاني"، وتتحرك خارج سلطة "قسد" ومؤسسات "الإدارة الذاتية".
وأضاف أن "مكتب حماية الطفل"، الذي أُنشئ سابقاً من قبل "قسد" أغلق بفعل ضغوط مارسها كوادر "حزب العمال الكردستاني"، ورأى أن هذه الانتهاكات تسببت بإحراج كبير لقيادات "قسد"، وعلى رأسهم القائد العام لـ"قسد" مظلوم عبدي، الذي يُعد أحد المتضررين من استمرار تجنيد القاصرين، خصوصاً أنه يواجه ضغوطاً من التيار المتشدد داخل "العمال الكردستاني".
واجهات متعددة لاستقطاب الأطفال
وينشط تنظيم "الشبيبة الثورية" تحت واجهات مدنية مختلفة، أبرزها "هيئة الشباب والرياضة"، حيث ينظم دورات حاسوب وفعاليات موسيقية ورياضية ومسابقات ثقافية، في محاولة لاستقطاب المراهقين ودمجهم تدريجياً ضمن منظومته، تمهيداً لدفعهم إلى المعسكرات، وضمان ولائهم لاحقاً عبر ضمهم إلى "وحدات حماية الشعب" أو "وحدات حماية المرأة".
وتشير الشهادات الحقوقية إلى أن التنظيم يستغل المساحات العامة، والمدارس، والحدائق، مركّزاً على استقطاب المراهقين الذين يمرّون بخلافات مع عائلاتهم. وقد تصاعدت هذه الظاهرة بشكل واضح منذ سقوط نظام بشار الأسد في محافظة الحسكة، وأحياء الشيخ مقصود والأشرفية في حلب، ومدينة عين العرب (كوباني)، وتراوحت وتيرة هذه الحالات بين حالتين إلى أربع أسبوعياً، وبلغت في بعض الفترات ثلاث حالات يومياً.
وغالباً ما يظل مصير الأطفال المجنّدين مجهولاً، إذ لا يعود معظمهم إلى عائلاتهم، بينما تُسجل حالات فرار قليلة فقط. أما الباقون، فيبقون عالقين داخل المنظومة الأمنية والعسكرية للتنظيم.
بعد توقيع اتفاق بين الحكومة السورية و"قسد"، بدت الآمال معلّقة على تحقيق تقدم في الملفات العالقة، إلا أن الوقائع على الأرض تشير إلى تعثر مستمر، وسط صمت رسمي حول مصير الاتفاق. في المقابل، تؤكد "قسد" تمسكها ببقاء قواتها ككيان مستقل، وتُصرّ على خيار "سوريا اللامركزية"، من دون اتخاذ أي خطوات عملية لدمج مؤسساتها ضمن أجهزة الدولة.
وعلى الرغم من عقد عدة جولات تفاوضية، كان آخرها نهاية حزيران الماضي، لم يخرج الطرفان بأي تفاهم سياسي أو إداري ملموس، واقتصر ما تحقق على تمديد اتفاق استجرار النفط والغاز من حقول شمال شرقي سوريا لثلاثة أشهر إضافية، مع زيادة الكميات الموردة.
وفي تطور لافت، أعلن محافظ دير الزور، غسان السيد أحمد، خلال لقائه ناشطين وصحفيين مطلع تموز الجاري، أن ثلاث فرق عسكرية جاهزة لدخول مناطق سيطرة "قسد" إذا فشلت المفاوضات، في مؤشر واضح على بلوغ العملية التفاوضية مرحلة بالغة الحساسية واحتمال الانزلاق نحو التصعيد.
وسط هذا المشهد، يعيش سكان الجزيرة السورية حالة من الترقب والضبابية، نتيجة غياب المعلومات الموثوقة واعتمادهم على الشائعات والتلميحات الرسمية المتناثرة، ما يزيد من مشاعر الخذلان، رغم وعيهم بصعوبة الملف وتشابك المصالح الإقليمية والدولية المرتبطة به.