جريدة الغد

عمان - "ذاكرة الجسد"؛ ليس عنوانا لرواية الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي فحسب، فمن كان يقرأ صفحاتها يتأثر بمصير بطلها خالد، الذي كان يرسم بيده اليسرى بعد أن فقد اليمنى في الحرب، لكنه لم يفقد الإحساس بها، وكانت ذراعه المبتورة تؤلمه أحيانا وتشتاق إلى السلاح، وإلى الريشة، وإلى لمسة امرأة رحلت، لم يكن يعلم أن الجسد، حتى وإن صمت، فإنه لا ينسى ويتذكر.

 

"كل شيء يترك أثرا"؛ هكذا بدأت المرشدة النفسية والتربوية رائدة الكيلاني حديثها عما يعرف في علم النفس بـ"ذاكرة الجسد"، تقول: "الجراح النفسية لا تستقر في الروح فقط، بل تسكن العضلات، وتختبئ في نبض القلب، وتربك حركة المعدة، فلا غرابة أن يشتكي البعض من آلام متكررة في الظهر أو الصدر أو البطن، ثم تبين الفحوصات أنهم سليمون تماما، لأن الجسد ببساطة يتذكر ما نحاول نحن نسيانه".

 

أبحاث نفسية وجسدية عديدة تؤكد أن للجسد "ذاكرة" حقيقية، وأن الصدمة لا تختفي، بل تترك بصمات دقيقة في الجسد، وفي حركة الكتفين، وفي نمط التنفس، وفي ضربات القلب، وأحيانا في مرض عضوي لا يوجد تفسير طبي واضح له، ففكرة أن "الجسد يتذكر" ليست مجرد تعبير أدبي، بل حقيقة موثقة في علم النفس والعلوم العصبية.

ورسخ هذا المفهوم الطبيب النفسي الشهير د. بيسيل فان دير كولك في كتابه المعروف The Body Keeps the Score (2014)، الذي يستند إلى أكثر من (30 عاما) من البحث السريري في علاج الصدمة النفسية.

ويؤكد الكتاب أن التجارب الصادمة لا تخزن فقط في الذاكرة العقلية، بل تنطبع أيضا في الجهاز العصبي والعضلات ووظائف الجسم الحيوية، وهو ما يفسر الأعراض الجسدية التي يعاني منها كثيرون من دون سبب عضوي واضح.

أبحاث أخرى منشورة في مجلات علمية مرموقة، مثل Journal of Traumatic Stress، دعمت هذه المعلومات، وبينت أن تقنيات العلاج الجسدي (Somatic Experiencing) بمعنى الخبرة الجسدية، تظهر فعالية واضحة في مساعدة المرضى على التخلص من آثار الصدمة المخزنة جسديا وتحرير الجسد منها ومن التوترات المحبوسة في الجسم.

كما دعمت نظريات البروفيسور أنطونيو دامازيو، أستاذ علم الأعصاب في جامعة جنوب كاليفورنيا، هذا التوجه، من خلال أبحاثه حول الترابط بين العاطفة والوظائف الجسدية، خاصة في كتابه "Descartes Error".

وبالإضافة إلى ذلك، تؤكد نظرية "الذاكرة الضمنية" في علم النفس المعرفي، أن كثيرا من التجارب المؤلمة تخزن في الدماغ والجسم من دون وعي إدراكي، وتظهر لاحقا في شكل استجابات جسدية، مثل شد العضلات، الأرق، أو ضيق التنفس.

ومن الأعراض الجسدية المزمنة التي يعاني منها من يختزن الغضب والصدمات والتوتر في جسده، حسب الكيلاني، القولون العصبي، الشد العضلي، الأرق، واضطرابات التنفس، التي ترتبط بشكل مباشر بتجارب نفسية غير معالجة. فتقول الكيلاني "حين يخزن الإنسان خوفه، غضبه، أو ألمه، فإن الجسد يحتفظ به بطريقة أو بأخرى، وهنا تبدأ المعاناة الصامتة".

ناديا (34 عاما)، واحدة من الحالات التي تجسد هذه الحقيقة، إذ ظلت لأعوام تعاني من آلام مزمنة في المعدة وضيق في التنفس ونوبات صداع متكررة، رغم أنها سليمة تماما بحسب تقارير أطبائها.

لكن جلسات العلاج النفسي كشفت أن خلف هذه الأوجاع يقف تاريخ طويل من الإهمال العاطفي في طفولتها، وخوف مزمن من الغضب والرفض. تقول "كنت أحبس دموعي حتى لا تقلق أمي، وكنت أبتسم كثيرا حتى لا أزعج أحدا، فمسؤولية أمي كبيرة وفقدي كبير لوالدي الذي توفي وأنا صغيرة".

ومن هنا، وبحسب ناديا، علمت أن "ذاكرة الجسد" تتجلى لديها، كونها نظاما دفاعيا بديلا، حسب طبيبها النفسي. وتؤكد "فعندما فشل عقلي في معالجة صدمتي بوفاة والدي أو حتى في كبت عاطفتي، قام الجسد بدور الحارس الصامت، يخزن كل ما لم يقل، وكل ما لم يسمح له أن يشعر أو يفهم".

الدراسات النفسية المعاصرة، ومنها ما نشر في مجلة "Psychological Trauma"، تؤكد وجود علاقة وثيقة بين الصدمة النفسية والتغيرات في كيمياء الجسم ووظائفه الحيوية. فالأشخاص الذين تعرضوا لصدمات في الطفولة، على سبيل المثال، هم أكثر عرضة لأمراض القلب، مشاكل المناعة، واضطرابات الجهاز الهضمي في مراحل لاحقة من حياتهم.

المرشدة النفسية والتربوية رائدة الكيلاني، تؤكد أن الجسد يمكن له أن يتحرر من هذه الأعباء، وأولى الخطوات "الاعتراف"؛ فعندما لا يوجد تفسير عضوي للألم، يجب أن يسأل الفرد نفسه ما الذي لم أسمح لنفسي بالشعور به؟ من الذي خذلني؟ ما الذكرى التي أهرب منها؟ فالفهم هو أول الطريق نحو التحرر من الألم.

وتوضح أن العلاج النفسي لا يقتصر على الكلام فقط، تحديدا بهذه الحالات، إذ إن هناك تقنيات متخصصة تتعامل مع الجسد بوصفه شريكا في الشفاء، كالعلاج الحركي الجسدي (Somatic Therapy) الذي يساعد الشخص على التعرف على التوترات المخزنة في جسده، والتفاعل معها بالحركة والتنفس، وعلاج الوعي الجسدي (Mindfulness-based therapies) الذي يستخدم التركيز الواعي والتنفس لاستكشاف العلاقة بين الفكر والإحساس الجسدي.

أيضا؛ العلاج بالرسم والكتابة أو الفن التعبيري، وذلك لتفريغ الذكريات المؤلمة بطريقة آمنة وغير مباشرة.

وتؤكد الكيلاني أن هدف العلاج ليس محو الذاكرة، بل تغيير علاقة الفرد بذكرياته، موضحة "نحن لا ننسى، لكننا نتعلم كيف نحمل الذكرى من دون أن تثقلنا، وكيف نصغي للجسد من دون أن نخافه".

وفي النهاية، ذاكرة الجسد ليست لعنة، بل دعوة صادقة لإعادة التواصل مع الذات، مع المشاعر المكبوتة، ومع الحكايات التي لم ترو، وهي طريقة للجسد بتذكيرنا أن علينا أن نعيش ونحن متصالحون معه وألا ننسلخ عنه.ش

JoomShaper