رشا كناكرية
"مع السلامة يما.. فدا الأقصى يما"، بهذه الكلمات ودعت أم غزية فلذة كبدها طفلها الشهيد، وبـ"الحمد لله.. نحتسبهم عند الله شهداء"، استقبل حاج غزي خبر وفاة جميع أفراد عائلته، وبهتاف عال "كلنا فدا الأقصى" خرج شاب من تحت ركام بيته، "الأقصى بيستاهل.. الله بعوض" رافقتها ابتسامة لمسن غزي بعد قصف منزله الذي عمل على بنائه سنوات عدة، وبـ"خلص.. نال الشهادة وراح عند أبوي" ودعت طفلة غزة شقيقها الذي راح ضحية القصف الإسرائيلي، وغيرها الكثير من عبارات الصمود والقوة التي ترددت على لسان أهالي غزة الكبار والصغار، رغم جرائم الاحتلال الغاشم منذ السابع من أكتوبر.
اليوم، نحن شاهدون على مجازر وحشية وجرائم حرب بشعة على يد العدوان الإسرائيلي بحق أهلنا في قطاع غزة، يقابلها صمود وثبات وإيمان كبير من الشعب الغزي الذي لم ير العالم مثيلا له من قبل، وهذا الصمود هو نوع آخر من المقاومة التي ينتهجها الغزيون في مواجهة العدوان الإسرائيلي.
ما يظهره أهل غزة من قوة وصمود أمام خسارة بيوتهم وأملاكهم والأهم فلذات أكبادهم، يظهر حجم التصالح الذاتي والخارجي الذي يسكن قلوبهم، إلا أن رؤية هذا الصبر والإيمان تجعلنا نقف عاجزين عن فهمه.. وهذا الصمود قاد لتساؤلات كبيرة عن مدى السلام الذاتي والخارجي الذي يمتلكه الشعب الغزي ومن أين ينبع.
من الجانب النفسي، يبين الدكتور علي الغزو، أن السلام الذاتي وصل لدرجة تامة عند الغزيين، موضحا أنه يأتي بمعنى الخضوع لقدر الله، وهذا من أنواع الإيمان، ولم يأت من فراغ، فهو نتيجة تراكمات وخبرات مر بها الغزيون، فهم شعب مر بالعديد من الحروب والصراعات، واستمدوا القوة من خلالها، وأصبح من الجانب النفسي نوعا من الاعتياد على ما يحدث.
ويشير الغزو إلى أن النفس البشرية إذا اعتادت شيئا ما تألفه، وما بين فترة وأخرى لا يعد أمرا غريبا، مبينا أن هنالك جانبا آخر يلعب دورا كبيرا وقاد الى هذا الإيمان الكبير لديهم، وهو تخلي الآخرين عنهم، فالفرد عندما يرى أن جاره وصديقه وصاحبه لا يمارس الدور المنتظر منه، هنا يستمد الفرد القوة الداخلية التي لديه ويعتمد على نفسه اعتمادا كبيرا، وبهذا يصل لدرجة كبيرة من الإيمان.
وفقا لذلك، يؤكد الغزو أن الظروف المحيطة جميعها قادته لهذا الشعور من السلام الذاتي، فالشعب الغزي حول جميع هذه المواقف والظروف التي حوله من محن لمنح، واعتبرها شيئا إيجابيا يخدم صموده ونفسيته.
ومن جهة أخرى، يذكر الغزو، أننا نرى على شاشات التلفاز بعض الغزيين الذين تعلو أصواتهم ويعبرون عن يأسهم، ولكن بالنهاية هذا إنسان يتألم ويتأثر ويصرخ ويعبر، لكن صراخه ناتج عن ألمه، ولكن هو في الوقت ذاته صامد ويتحدى حتى وإن تخلى عنه الآخرون.
والعامل الآخر الذي أوصله لهذه المرحلة من القوة والإيمان، أن الشعب على الصعيد الداخلي ككل، جميعهم يمتلكون المعنويات ذاتها، بحسب الغزو، لاسيما أن هنالك إنجازات تتحقق على أرض الواقع، وإن كان الإعلام لا ينشرها جميعها، ولكن هم يعيشون قصص نجاح بطولية ويرون بأعينهم الإنجاز الذي تحققه المقاومة، وهذا عامل آخر يولد لديهم الصمود والعزيمة والقوة ونوعا من الاطمئنان النفسي.
ويلفت الغزو إلى أن هنالك الكثير من المواقف لأطفال في عمر الزهور يحملون فكر شخص بالغ عاقل، وهذا الذي يفتقر له الكثير من أطفالنا، منوها إلى أننا نشهد على وعي كبير؛ إذ نرى الطفل الغزي يمتلك فكرا ومصطلحات كبيرة، منها: المقاومة والجهاد والصمود، فهذه المصطلحات، قد يصل الطفل لسن 15 وهو لا يعي أو يدرك معناها.
وهنا يبرز أن تجارب آبائهم وأجدادهم من قبلهم تم نقلها لأطفالهم، وفقا للغزو، وليست عملية نقل فقط لما يحدث حولهم، بل يتقمصون كل معنى حقيقي لهذه الكلمات، فعندما نقول صمودا، نرى طفلا صامدا يواجه دبابة ويساند الآخر، وعلى صعيد التآلف الأسري، نرى مشهد الطفل وهو مصاب وينزف، ومع ذلك ينسى ألمه وجرحه وينظر لعائلته ويطلب مساعدتهم، وبذلك هم فعلا وصلوا لمرحلة كبيرة من الوعي حتى بالآخرين، وهنا نتحدث عن فئة الأطفال، فما بالك بالكبار.
ويؤكد الغزو، أن الدروس المستفادة كبيرة وكثيرة على الصعيد النفسي والتربوي والاجتماعي من هذه الحرب، وأهمها الصبر والرضا والإيمان، فهذه المفاهيم الثلاثة تخلق السلام الذاتي والخارجي للإنسان إذا امتلكها، مضيفا "والإيمان يأتي على رأس الهرم النابع من الصبر والرضا بقضاء الله وقدره، فالإنسان سواء بالحرب أو بالسلم إذا استطاع أن يصل لهذه المرحلة من الإيمان، بالتأكيد سيشعر بسلام داخلي كبير، ولكن للأسف الشديد الجزع والتذمر الذي يصيبنا يحرمنا من هذه اللذة".
وبدورها، تؤكد اختصاصية علم النفس الدكتورة عصمت حوسو، أن الإيمان والرضا والصبر إذا وجدت لدى الإنسان، فهي أولى مراحل الشعور بالسلام الذاتي والخارجي.
وتبين أن هذه المفاهيم إذا كانت موجودة يجب أن نفعلها ونسعد بوجودها، والشخص الذي لا يمتلكها يجب أن يخلقها ويعمل على نفسه لتكون جزءا منه، ففي هذه المرحلة، بكل المشاهد والإجرام الذي نراه، إذا غابت هذه المفاهيم من الصعب أن يتحمل المرء ما يراه، وسيشعر بالتعب نفسيا وداخليا واجتماعيا، ويعيش مشاعر غضب وحقد والرغبة بالانتقام ويصبح لديه مفاهيم بشعة أخرى.
وتضيف "في المرحلة الحالية، ما يحدث مع أهلنا في فلسطين وشعب غزة بالذات وازدواجية المعايير العالمية والإجرام والطغيان الغربي ووقوفهم مع الظالم، إذا لم تكن هذه المفاهيم الثلاثة حاضرة في حياة الفرد "الإيمان والصبر والرضا"، قد يعيش التعب ويفقد الأمل بالحياة، ويشعر بألم دائم، فالذي يحمينا وجود هذه المفاهيم، ولذلك يجب أن نفعلها".
وتقول "جميعنا لاحظنا هذا الصبر الكبير الموجود عند جميع الآباء والأمهات الذين يفقدون بيوتهم وأملاكهم وأطفالهم ويفضلون الموت على أن يتركوا أوطانهم، لأنهم مؤمنون وراضون وصابرون".
ومن جهة أخرى، تشير حوسو، إلى أنه، للأسف، هنالك من يفهم الرضا بشكل خاطئ، بمعنى الرضا بالوضع الحالي فقط دون التحرك، بينما المعنى يأتي أن علينا السعي، وألا نيأس أو نعجز أو نحبط ونبقى نعمل، ونحاول ونسعى مع إيمان ورضا وصبر عال، لكي نستطيع أن نتقبل الأمور التي لا يد لنا في تغييرها، وأن نغير الأمور التي نستطيع أن نغيرها، وهنا يصبح عند الفرد "الحكمة" ويميز بين الأمور التي يتقبلها والأمور التي يغيرها.