محمود الوهب
بعد كتاب "تقاطع نيران" الذي يعد يوميات أو شبه مذكرات، عن الأيام أو الأشهر الأولى من تاريخ الثورة السورية، تأتي رواية سمر يزبك* "المشّاءة" لتحكي فظاعة الجرائم وآلام المعاناة، ببصيرة نافذة، وأعصاب هادئة، بعد أن ابتعدنا كثيراً عن تلك المظاهرات السلمية المبهجة التي ملأت الدنيا بآمالها العظيمة وتراءت للساعين إليها قريبة المنال.. وإذا كان "تقاطع نيران" قد كتب بعين الراصد فرحاً وخوفاً وهواجس متباينة مما هو قادم، فإن المشَّاءة جاءت على لسان طفلة لتؤكد عفوية رواية الأحداث وحيادية الراوي، ولتعمق من جهة أخرى تأثيرها لدى القارئ بدهشة تتلامع في عيني طفلة تعي عمق ما يجري حولها، وتجهل حدوثه إذ تتساءل، في استهجان، عن أسبابه..!
تسرد بطلة الرواية حكاياتها بلغة بسيطة تشدُّ القارئ، وتدفعه للاستزادة مما يروى عفوياً، أما ما يدعو إلى الاستطراد فيؤجل إلى حين.. كل ذلك يأتي عبر رسالة طويلة توجهها الراوية إلى مجهول، ترى أنه سيقرأ ما تكتبه، وإن بالمصادفة، وفي هذا وذاك، إحالات ودلالات أبعد من ألعاب تصطنعها الكاتبة لشكل روايتها.
تنوس الرواية بين قصص واقعية تروى، وأخرى محفوظة في عالم الطفلة السابق، والمفترض أنه الواقع الواجب رؤيته حياً كقصة الأمير الصغير، و"أليس" في بلاد العجائب. وإذا كانت الحكايا حاضرة في ذهن الطفلة كأحلام ورغبات فإن الواقع يلغيها بغربته وقسوته ولا معقوليته..
يعتقد بعضهم أن الكتابة الأدبية عن أحداث معاصرة، يحتاج إلى وقت يتيح للحدث أن يتخمر في ذهن الكاتب وروحه، لكن الواقع ورواية المشاءة يقولان: إن الإبداع لا يحتاج إلا لمبدع فحسب..!
أول ما يدهشك في بطلة الرواية الطفلة أداتان هما الحبل والوثاق اللذان يحيلان إلى واقع المرأة في بلادنا وإلى الحيِّز الضيق المسموح لها أن تلعبه في حياتها المديدة.. فما المشي هنا إلا رغبة وحلم وسعي مستمر نحو حلم ما.. أو فعل شيء ما. وكأني بهذا الرمز يتجاوز مباشرته ليشير إلى سوريا نفسها التي كانت مشدودة بوثاق الاستبداد الذي كبَّلها سنين طويلة، وهي القادرة أن تكون على غير ما كانت عليه، أي على نحو أجمل وأبهى..!
"لقد ولدتُ وأنا لا أستطيع التوقف عن المشي، أقف وأنطلق بالمشي، أمشي وأمشي، أرى الطريق بلا نهاية، تقودني قدماي وأمشي، أنا ألحق بهما فقط" ص7
فما الوثاق هنا إن لم يكن أداة تعطيل للمرأة..؟! المرأة هذا الكائن الجميل، طرف الحياة الرئيس، والمدان، في الوقت نفسه، منذ أن سرق الذكر دفة قيادة المجتمع، وأسس لإمبراطورية العبودية الأولى وغادر ومجتمعه وعيه الأول الذي كان له في مشاعية المجتمع البشري الأولى ليأخذ في ارتقاء سلَّم العبودية.. يشير إلى ذلك الموقف من المرأة الذي هو معيار الحضارة، ومستوى التقدم، بحسب كارل ماركس.
وإذا كانت صيغة الوثاق تعبيراً عن أوجاع المرأة وأحزانها، واختزالاً لواقع قائم منذ الحاكم العباسي، وما تلاه من
عنوان الرواية جاء مطابقاً للصفة الأبرز في الفتاة وهي الرغبة في المشي، وتضمَّن أيضاً إحالة إلى المدرسة المشائية الأرسطية التي تأثر بها الفلاسفة العرب، وبخاصة ابن رشد
حكام الدول المتتابعة، وبفعل فقهاء جل همهم قوننة الحياة بما يتوافق مع رغبات الحاكم وطبقته، فإذا بهم يعملون على تطويع فكر حر، ودين أنزل على من استُخلف في الأرض لغاية إعمارها..! فالطفلة لا تمشي لتتمتع بما تكتشفه، وتشاهده عبر مشيها الدائم اليقظ بل لما يمكن أن تفعله أيضاً إغناء للحياة ذاتها.. فهي عاشقة للكتب متناغمة مع كلمة "اقرأ" وهي مغرمة بالألوان التي هي الحياة ذاتها، فما الرسم أيضاً إلا إعادة تشكيل جميل وفق تطلع الرسام ورؤيته.. وما زيارتها إلى السيدة سعاد (للاسم هنا رمزيته أيضاً) إلا من أجل تحقيق غاية التعلُّم والمعرفة والاستمتاع عبرهما.. ولعلَّ عنوان الرواية جاء مطابقاً للصفة الأبرز في الفتاة وهي الرغبة في المشي، وتضمَّن أيضاً إحالة إلى المدرسة المشائية الأرسطية التي تأثر بها الفلاسفة العرب، وبخاصة ابن رشد.. وتقوم المشائية على اتباع العقل ومحاكماته وفق الواقع.
لا تترك الرواية عبر رحلة الفتاة التي تخبر عنها أمراً إلا وأشارت إليه، فمن قسوة الوقوف على الحواجز المكونة من جنود ورجال أجلاف بما يرتكبونه من أفعال فظة لا إنسانية، فينتقمون من الإنسان على الهوية والسكن والانتماء: "كان العسكري، يركل الشاب، بينما الواقف بجانبه يحمل رشاشه ويصرخ به: من جوبر يا ابن الكلب" ص32 إلى المشفى الذي تسيطر عليه أجهزة الأمن والأطباء والممرضات المتعاونون معهم، فتراهم يصفعون المرضى ويحشرونهم في أسرِّة بأساليب موجعة ثم يقتلونهم بوحشية كما أهل الحواجز..
أبدعت الكاتبة في نقل مشاهد الكيماوي دونما كلام إذ ركزت على مخلفات الكيماوي من لون وحالة خدر وشكل معالجة، كذلك لفتت الكاتبة إلى مسألة التخلف في الموقف من المرأة، من جسدها على وجه التحديد، فهي إذ تشارف على الموت، تحتاج إلى أن تتخفف من ثيابها، لكن بعض المسعفين يرفض الاقتراب من ذلك الفعل فهو محرَّم، ورغم أن أحدهم ينبهه قائلاً:
"إنك بذلك تقتلها..!"
ولعلَّ الكاتبة تعيدنا إلى مسرحية سعد الله ونوس: حفلة سمر من أجل 5 حزيران.. إذ فكر بعض الأهالي لدى دخول الإسرائيليين بقتل النساء لئلا يُغتصبن فيضيع الشرف الرفيع.. وتتكرر هذه المسائل، وإن على نطاق ضيق، خلال الثورة السورية، وكأنَّ مجتمعنا لم يتقدم في وعيه خطوة واحدة، خلال خمسين سنة..
كثيرة هي الرموز أو الإشارات الدالة على مقولات الرواية لكننا سنكتفي بذكر أهمها، ونشير إلى أمر اعتقال اللسان في الفم الذي توقف لدى اكتشاف حالة المشي الذي فاجأها، فمشت دونما توقف، ولحقتها أمها وحين لمحها الناس استوقفوها، وأحاطوا بها من كل جانب، فتسببوا عندئذ باحتباس الكلام عندها.. والمراد هنا أنَّ من يسعى لأكثر مما رسمه المستبد له، فليقف أولاً، وليصمت ثانياً..
أما الإشارة الأخرى المهمة، فيما بدا من صراع على الأرض السورية، فهي هشاشة الإنسان وتماهي ذلك بين حالته الوجودية وبين خلقه، أو تكوينه الأول:
"لكلّ كوكب من كواكبي السرّية أهميته، لكن كوكب الطين، له أهمية استثنائية. هذا الكوكب لن يختفي حتى أختفي. هذا جيّد. لوني مثل لون الطين، وإنْ كان بدرجات متفاوتة. لكنّ أصله طين، وهو أحد ألواني المفضلة. نحن ألعاب من طين، ألعاب صغيرة سريعة الكسر والتفتت، إذ يكفي خدش بسيط في أجسادنا لنتحوّل إلى غبار. وتتقطع أعضاؤنا ببساطة. أنت لا تصدّق؟ استطعت التحقق من هذا عندما قُصف بيت أم سعيد، وسقطت القذيفة قربها، وتحولت إلى تمثال نصفي من الطين. تمثال بلا ساقين. لعبة بلا ساقين. كانت أم سعيد تمشي على ساقين، وكانت مثل جبل، ومن المستحيل التفكير في أنّ معجزة قادرة على إزالة هذا الجبل، تحولت أم سعيد إلى لعبة طينية بلا ساقين، خلال ثوان». ص164/165
وبعد إذا كانت الطفلة بطلة الرواية تحمل، على نحو أو آخر، رمزاً عن سوريا أو ثورتها في هذه المرحلة، على الأقل، فماذا يمكن أن نقول عنها بعد أن تُركت بمفردها في غرفة مهجورة لم تعد ترى من خلالها أحداً، بل لم تعد تسمع صوت أحد حتى إنَّ الطفلين اللذين مرا من تحت نافذة الغرفة، وهما في بحثهما، عن عيدان حشيش تسكت جوع أهلهما لم يردَّا على صوتها، بل
في الرواية الكثير مما يحكى.. يقوله اللون والحركة، وتعبيرات الوجه! فالحزن معبَّر عنه بالصمت وبالدمع الغالب أحياناً.. والخوف بكثرة التبوّل، والسكوت عنه، ولكل معنى تصرف ما..
تصوَّرا أنها وحشٌ أو شيءٌ ما مخيف.. وحيدة بقيت بعد أن فقدت في رحلتها أمها فأخاها ثمَّ حبيبها المفترض، وحتى ذلك الشاب الذي سمحت له أن يمدَّ يدَه إلى صدرها قد اختفى، وهي في الأساس بلا أب يرعاها فما من إشارة في الرواية تؤكد حال الأب بدقة، فكل ما قالته الأم:
إنه سافر ولم يعد، أتراه اعتقل، هاجر؟ قتل؟ كل ذلك في أجواء الحرب طبيعي..! أهو الأب الذي ما يزال في أفق السوريين حلماً..!
في الرواية الكثير مما يحكى.. يقوله اللون والحركة، وتعبيرات الوجه! فالحزن معبَّر عنه بالصمت وبالدمع الغالب أحياناً.. والخوف بكثرة التبوِّل، والسكوت عنه، ولكل معنى تصرف ما..
تصف سمر يزبك روايتها بأنها: "عمل فني بامتياز خلفيته السياسية الغوطة، ومجزرة الكيميائي التي ارتكبها النظام السوري في أغسطس/ آب 2013، وهذا النص كان نوعاً من الرغبة الحقيقية في الاحتفاء بالخيال، وقدرته على مقاومة الحرب، عن علاقة اللغة بالعنف، وكيف نكتب فناً أمام هذا العنف الوحشي". (العربي الجديد18 نوفمبر 2018).
* سمر يزبك كاتبة وصحافية سورية، كتبت رواياتٍ وقصصاً وحلقاتٍ تلفزيونيةً وأفلاماً وثائقية. وهي روائيةٌ متحررة من قيود العائلة والطائفة والقبيلة.. تستنطق المحرَّمات الاجتماعية والأخلاقية التقليدية، وتحاكمها في ضوء النمو الإنساني وحضارة اليوم. وهي إذ تفعل ذلك فلأنها تحمل في وجدانها شقاء المجتمع التقليدي، وتحكي بما تكتبه واقع أحلامه وأحزانه. فمنذ طفلة السماء، روايتها الأولى 2002 إلى "الصلصال" و"رائحة القرفة" "وَلَهَا مرايا" وصولاً إلى المشَّاءة.. والكاتبة في نمو وارتقاء أدبيين، تؤدي عبرهما رسالتها الوطنية والإنسانية.
إنها، كما يُفهم من قراءة أدبها، مسكونة بأحوال مجتمعها، تروي أسرار قاعه وتردِّياته. تقارب قضاياه الأخطر والأعمق مما هو مسكوت عنه. تكشف كتابات يزبك عما يدور في دهاليز المجتمع المظلمة أو في بؤره السرية من محظورات. وسواء ما امتزج منها بِطِين التعاسة والشقاء في أحزمة البؤس والفقر أم ذلك الملمَّع بألوان الثراء في بيوتات الشرائح الاجتماعية العليا. ويظلُّ الإنسان، في شقائه، واحداً، ولكن شتان بين الشقائين.