بسام حسن المسلماني
تطلق الأخصائية النفسية الدكتورة "مريام جروسمان" صيحة تحذير من الخطر الذي يتهدد المجتمع الأمريكي في ظل القيم الاجتماعية التي يتم فرضها على المجتمع من خلال الإعلام والثقافة المسيطرة والنظريات الاجتماعية والنفسية التي تدرس في الجامعات، وتؤكد جروسمان في كتابها «أجيال في خطر.. الإباحية ليست حلا» أن الحرية الجنسية للمرأة والرجل، وثقافة "كل شيء يجوز" هي قنابل تسقط آلاف الضحايا كل يوم في المجتمع الأمريكي، حتى امتلأت العيادات النفسية بالمرضى من الشباب والشابات، حيث تشير إلى دراسة أجريت عام 2005 أظهرت أنه في 90% من مراكز الاستشارات النفسية الجامعية ارتفع عدد الطلاب الذين يكتشف بعد الفحص إصابتهم بمشكلات نفسية خطيرة، وتضاعفت عدد الاستشارات النفسية، كما أن 91% من المراكز احتجزت طلابا بالمستشفى لأسباب نفسية، وأكثر من 36% من الطلاب حاولوا الانتحار مرة أو أكثر، هذه الأوضاع الخطيرة دفعت جروسمان، للتساؤل:
"لماذا أصبح أطفالنا في تلك الحالة المزرية؟
البعض يحاول أن يجد مبررا لهذه الحالة المزرية التي يعاني منها الجيل الحالي من الشباب في المجتمع الأمريكي، خاصة من طلاب الجامعة بعدد من التفسيرات نحو أنها نتاج للضغط العصبي الناجم عن ترك الشباب والشابات للمنزل، ومحاولة التأقلم مع حياة الاستقلالية أو أنه نتيجة لمتطلبات الدراسة أو توقعات الوالدين أو زملاء السكن، أو الضغوط المادية وسوق الوظائف ذو الطبيعة التنافسية.
لكن جروسمان مع تقديرها لكل هذه العوامل، إلا أنها ترى أن هناك سببا رئيسيا لهذه الحالة، وهو حالة الهوس الجنسي المتفشي بين أبناء هذا الجيل، والإيديولوجيات الاجتماعية الراديكالية التي تغذي و تشجع الإباحية والهوس الجنسي؛ حتى أن هذه السياسات الراديكالية أصبحت متغلغلة في مهنة الصحة النفسية، وغيرت الكثير من مفاهيمها، لقد تغيرت الثقافة السائدة في المجتمع، وأصبحت العلاقات المثلية والشاذة والسادية والمازوكية علاقات طبيعية إلا إذا تسبب في الإعاقة للشخص.
الآن ينصح الشباب والفتيات باستخدام الوسائل المطاطية في العملية الجنسية، وأن يكون لهم عدد محدود من الشركاء (بالتقابل مع عدد غير محدود) وهناك اتفاق ضمني على التعددية الجنسية والتجريبية الجنسية، وأصبحت الإصابة بواحد من الأمراض المنتقلة جنسيا من طقوس العبور والنضج، وكأنه ملمح ثابت ضمن تضاريس الحياة، وأصبح الإجهاض هو استبعاد أنسجة غير مرغوبة، مثل عملية إزالة لوزتي الحلق.
وفصول صحة المرأة تعمل على توعية الفتيات فقط عن: كيفية تجنب الحمل، و البعد عن الزواج التقليدي، والأسرة المكونة من أم وأب هي مجرد خيار، وهناك بدائل وجميع تلك البدائل متساوية من حيث المشروعية.
تلك التغيرات في المجتمع الأمريكي، هي نتيجة أجندات اجتماعية خادعة، اقتحمت الحياة الجامعية وإصدار الأحكام على هذه السلوكيات ممنوع، وعلى الجميع أن يتعامل وكأن لدى الشاب أو الفتاة شريك بلا توصيف نوعي، حيث لا فرق يمكن أن يحدث كون هذا الشريك شابا أو فتاة. وتعبر جروسمان عن غضبها لهذه الحالة قائلة: "لقد طفح بي الكيل، ولم أعد أتحمل لذلك أطلق صيحتي "جيل في خطر".
قصة فيلم
وتروي جروسمان قصة تجسد كيف أصبحت المفاهيم والأوضاع معكوسة داخل المجتمعات الغربية، وقد وقعت لها القصة خلال اللقاء السنوي للأكاديمية الأمريكية للطب النفسي للطفولة والمراهقة، حيث تم عرض فيلما بلجيكيا بعنوان: "Ma vie en Rose" وتمت مناقشته، "يحكي الفيلم قصة ولد يدعى "لوديفيك" لا يشعر بالارتياح لذكورته ويتوق فقط لأشياء البنات: مثل الفساتين الوردية، الحلقان، أحمر الشفاة و أصر لوديفيك على أنه فتاة، واقتنع بأنه سوف ينمو له ثديان ويمر بالدورة الشهرية وكنتيجة لذلك عانى هو وأسرته من الإهانة والازدراء، وفقد أبوه وظيفته، وأثار الفيلم تعاطفا كبيرا مع الولد وأسرته".. وركزت المناقشة التي تلت مشاهدة الفيلم على "لوديفيك" الذي حوله المجتمع إلى ضحية من خلال التعريفات الصارمة للذكورة والأنوثة، وقال الحاضرون: إنه إذا لم يصر المجتمع على ثقافته تجاه الطبيعة الجنسية لأصبحت حياة هذا الولد أكثر يسرا. وأضمروا أن على المجتمع أن يتغير، وهكذا يسعون لتغير المجتمع لتتوافق مع سلوكيات ولد مضطرب. هذه هي الأيديولوجية الاجتماعية التي يتم فرضها على المجتمع الغربي الآن، ويسعون لفرضها على بقية المجتمعات! غير مدركين أن الولد نفسه هو من كان في حالة اضطرابات، وليس المجتمع. وأن الولد هو من كان يحتاج أن يغير من سلوكه.
شهادة جروسمان واحدة من عشرات الشهادات لآخرين، نحو الشهادة التي أطلقها البروفيسور "جيمس تولي" في كتابه "ســوء تعليــم النساء" محذرا من الأيديولوجيات الاجتماعية النسوية التي يتم فرضها على المرأة الغربية، والتي ستؤدي إلى تحلل وانهيار المجتمع.
موت الغرب:
ومثلما كتب السياسي الأمريكي "باتريك جيه. بوكانن" في كتابه "موت الغرب" قائلا: "حتى وقت متأخر في الخمسينيات من 1950 كان الطلاق فضيحة، وكان "العيش معا بلا زواج" يوصف بأنه الكيفية التي تعيش بها "القمامة البيضاء"، وكان الإجهاض مقززا.
أما اليوم، فإن نصف كل الزواجات تنتهي بالطلاق، والعلاقات هي ما تدور الحياة حولها، ويقول عالم السكان البلجيكي رون لسثايغي: إن إنهيار الزواج والخصوبة الزوجية يعود إلى "تحول في نظام تشكيل الأفكار الغربية"، ابتعد على أمد طويل عن القيم التي أكدتها النصرانية ـ التضحية، والإيثار، وقدسية الالتزام ـ وتوجه نحو "فردية علمانية" محاربة تركزت على الذات.
وعندما أصدر البابا بول السادس في العام 1968 تعميمه الكنسي ضد منع الحمل، فإن العداوة الشاملة التي استقبل بها ذلك التعميم، حتى بين الكثيرين من الكاثوليك أعطت شهادة على التغيير الهائل في المجتمع.
لكن مع انتشار الزنا المتعدد غير المنضبط، والطلاق على نطاق واسع، وانفجار الكتابة العارية، وشيوع فلسفة الانحلال والعبث في التيار العام، وقيام دافع الضرائب بتمويل الإجهاض، وفي يوم نستطيع فيه أن نقرأ في أمريكا عن فتيات في العشرية الثانية من أعمارهن يرمين مواليدهن الجدد في حاويات القمامة وسط الجليد، تُذكرنا بالعالم القديم لروما الوثنية، حيث تُترك المواليد الغير مرغوب فيها على سفوح التل؛ ليموتوا من التعرض للعوامل الطبيعية.
ويقوم أطفال وسط أمريكا الآن برحلات متناوبة واجبة في الثورة الجنسية، تحت شعار "اعمل الشيء الذي يخصك"، هو الآن عرف أخلاقي، وكل امرأة أمريكية في سن حمل الأطفال كان لها إجهاض كمرجع تعود إليه، والملايين منهن لن يرجعن عنه، يردنه موجودا لأنفسهن ولبناتهن وسوف يصوتن ضد أي سياسي أو حزب يهدد بانتزاع الإجهاض منهن"(1).
الإسلام دين الفطرة:
هذه الشهادات وغيرها تأتي للرد على متغربي قومنا الذين يريدون لنا أن نسير خلف الغرب حذو القذة بالقذة، وداعية إلى ضرورة التزامنا بقيمنا الإسلامية التي ينادي بها حكماء الغرب، بعد أن أثبتت التجارب التأثير المدمر لقيمهم على الإنسان والمجتمع.
يقول الأستاذ محمد قطب: "إن الفطرة الإنسانية كما خلقها الله .. ذات "معايير" و "ضوابط" تضبط منصرفات الطاقة الحيوية وتحدد مقدارها. فإذا انفلت العيار، وبطلت الضوابط، فلن يكون هذا "خيراً" يصيب الإنسان في نفسه و مجتمعه. ولن يكسبه السعادة التي يرجوها بالانفلات!
ولا فائدة في تحدي الفطرة.. فمنطقها في النهاية هو المنطق الذي يَغْلِب.. وليس منطق الأهواء!
حين انفلت الناس وتكالبوا على متاع الجنس بلا حواجز ولا قيود.. ما الذي حدث في عالم الواقع؟
هل "شبعت" الشهوة بإتاحة الفرص للإشباع؟
كان دعاة "الحرية" والانفلات يقولون: إن "الكبت" أو الامتناع في أية صورة من صوره هو الذي يحدث الجوع الجنسي الذي لا يشبع، والمشغلة الدائمة بالجنس، التي تشغل الأعصاب وتبدد الجهود.
إن بلاد الغرب قد أباحت المتاع الجنسي و "باركته" بإغضاء الدولة أو تشجيعها الصريح، وإتاحة الفرص الواقعية للإشباع بعيداً عن كل نهي أو زجر أو تخويف أو ترويع.
فما بال الجوعة لم تهدأ بالإشباع المطلق المتاح؟
ما بال هذا العصر أشد العصور كلها اشتغالا بأمور الجنس؟
كم فلماً.. كم كتاباً.. كم قصة.. كم صورة خليعة.. كم برنامجاً إذاعياً أو تليفزيونياً.. كم أغنية.. كم حفلة عارية أو شبه عارية "يستهلكها" الشباب من الجنسين؟
وكم مرة مع ذلك – كم ملايين من المرات – يقع فيها الاتصال الجنسي فـي سهولة ويسر؟
لِمَ لَمْ يشبع هذا النهم المسعور؟
وما نتائج هذا النهم الذي لا يشبع رغم إتاحة كل الفرص له للإشباع؟
هذا القلق الدائم. هذا الضغط العصبي. هذا الجنون. هذا الانتحار. هذه الجريمة. أو ليس من روافدها هذا النهم المسعور؟
إن تلك الحياة الفاجرة التي يحياها الغرب، المليئة بالمثيرات فوق الطاقة، تنضج مشاعر الأطفال الجنسية قبل الأوان. قبل أن تنضج المدارك والتجارب التي تصلح لإقامة الأسرة والاستقرار في الزواج.
ثم تدفع تلك الحياة الفاجرة بالأولاد والبنات المراهقين إلى ممارسة الجنس في هذه السن المبكرة بلا ضوابط تكبح الجماح. ثم ينتشر بينهم الشذوذ الجنسي!
والشذوذ الآخذ في الازدياد في كل البلاد التي أفرطت في إباحة الحرية الجنسية مشكلة خطيرة. إنها نذر الفطرة. إنها مسألة هذا "الإنسان". الإنسان الذي تدمره الإباحية المتحللة، المرتكسة إلى عالم الحيوان. بغير ضوابط الحيوان!".(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات (الهوامش):
(1)في كتابه "موت الغرب": مفكر أمريكي يؤكد انهيار أوروبا وأمريكا وإسرائيل وصعود الإسلام، أحمد حسين إسلام ويب.
(2)محمد قطب، كتاب "جاهلية القرن العشرين"، ص 204.
الإباحية ليست حلا
- التفاصيل