بسام حسن المسلماني
حركة التنصير، حركة قديمة ومتطورة في آن واحد، تلبس لكل عصر ما يناسبه وفق الظروف والمعطيات، تطورها يأتي في تعديل الأهداف وتوسيع الوسائل ومراجعتها بين حين وآخر، لتتناسب مع البيئات والانتماءات التي يتوجه إليها التنصير.
ومن القضايا التي اهتمت بها الحركة التنصيرية قضية المرأة، واعتبرتها أحد أهم المداخل التي يمكن من خلالها اختراق العالم الإسلامي، ويعود هذا الاهتمام إلى مزاعم المنصرين عن "اضطهاد المرأة" في الإسلام، لذلك فقد خصوا المرأة المسلمة  بباب خاص للحديث في الكتاب الذي ترجم أعمال مؤتمر (كولورادو) التنصيري، ويقول محمد الغزالي: "لقد كتبه المؤلفون واهمين أنَّ قضية المرأة ثغرة في تعاليم الإسلام، يمكن النُّفوذ منها، وليست في الإسلام ثغرات مَخوفة، وإنَّما يُخاف على الإسلام من زلل بعض المنتمين إليه، وسوء علمهم به"[1]. وقد خطَّط المُنصرون؛ لتكون المرأة هي أولى ثَغَرات الاختراق لعالم الإسلام، وذلك عن طريق تعليم الفتيات وقد بذلوا جهودا كبيرة في هذا الإطار، يكفي أن نشير إلى القس «دوجلاس دنلوب» واضع المخطط الأساسي لتغريب التعليم والتربية، وإقصاء الإسلام عن برامج التعليم في المدرسة المصرية للفتيان والفتيات، ومن مصر انطلق هذا المخطط لبقية العالم الإسلامي.
وخلال عدد من المقالات سنحاول فضح هذا المخطط، وتوضيح العلاقة بين الحركة التنصيرية، وحركات تحرير المرأة باعتبار الأخيرة هي نتاج طبيعي لجهود الأولى، وسنأخذ "إفريقيا نموذجا" على اعتبار أنها أكبر ساحات التنافس بين الإسلام والنصرانية خلال القرن الماضي.

التنصير وخريطة إفريقيا العقدية:                                                                   
دخلت النصرانية إفريقيا في وقت مبكر جدا، من خلال ملوك الحبشة الذين اعتنقوها قبل ظهور الإسلام، ومع خروج الإمبراطورية الرومانية من الشمال الإفريقي، وانتشار الإسلام في ربوع القارة السمراء، لم تتمكن النصرانية من التمدد بشكل كبير خارج مناطق الحبشة وجبال النوبة، بل على العكس أخذت في الانحسار، ولم يعد في إفريقيا سوى الدين الإسلامي والوثنية القبلية، ومع مرور الوقت أخذ الإسلام يكسب كل يوم أرضا جديدة على حساب الوثنية القبلية، حتى أصبح الإسلام هو دين معظم الأقاليم الإفريقية (الشمال، والشرق، والغرب، ومناطق كبيرة في الوسط)، وبقي الجنوب فقط بعيد عن المؤثرات الإسلامية وإن كان امتداد الإسلام للجنوب بحسب تطور الأمور،  كان سيصبح مسألة وقت، لتصبح القارة الإفريقية هي قارة إسلامية خالصة. لكن لم تستمر الأمور هكذا، فمع بدايات الكشوف الجغرافية والتحول في ميزان القوى الدولية لصالح الدول الغربية، بدأت الخريطة الدينية للقارة السمراء تتغير بعض الشيء.
« ففي العام 1491م أعلن ملك الكونغو اعتناقه للنصرانية، ثم مات بعد تنصُّره مباشرة، وخلفه على العرش ابنه، فعمّدته إحدى الإرساليات التنصيرية باسم «ألفونسو» وزَّوجته واحدة من بناتها، فلما أنجب «ألفونسو» ولداً منحه منصب أسقف عام الكونغو، وأصدر قراراً بتغيير اسم العاصمة من بانزا كونغوا Mbanza Congo إلى اسم ساو سلفادور إحدى المناطق الشمالية بأنجولا الآن.
وفي عام 1610م أسس البرتغاليون أسقفية نصرانية في مدينة لواندا Loanda على ساحل أنجولا الشمالي، لكنها لم تحرز أدنى نجاح في أداء مهمتها فأغلقت أبوابها على من فيها لعدة سنوات، ثم بيعت بعد ذلك.
وفي العام 1630م اعتنق زعيم مومباسا Mombaz (ممبسة) على الساحل الشرقي لكينيا عقيدة النصرانية، لكنه سرعان ما رجع عنها واعتنق دين الإسلام.
في العام 1651م أعلن مونوموتابا Monomotapa ملك موزمبيق تركه للوثنية واعتناقه للنصرانية، استجابة لدعوة إرساليتين إنجيليتين كانتا قد استقرتا في حوض نهر زامبيزي، إحداهما يسوعية والأخرى دومينيكانية، أغدقا عليه الأموال، وسارا معه في استخدام الأرواح التي كان يعتقد بها في وثنيته.
وفي العام 1665م أتت هجمة تنصيرية بروتستانتية من هولندا إلى سواحل جنوب إفريقيا، فقامت بتدمير جميع المؤسسات والكنائس والإرساليات التي كان قد أسسها البرتغاليون من قبل، ثم وضعوا أيديهم على منطقة رأس الرجاء الصالح، حيث نزل على أرضها أول قسيس بروتستانتي، لا ينافسه قسيس آخر من أي ملّة نصرانية أخرى ». [2].
وهكذا شهدت إفريقيا بداية النشاطات التنصيرية متزامنة مع حركة الكشوف الجغرافية، وعلى الرغم من ذلك فقد  ظل تأثير النشاط التنصيري ضعيفا، نظرا لتركزه على السواحل، حيث تقيم الأساطيل الأوروبية خطوط إمدادها، وظل اعتناق الأفارقة للنصرانية محدودا للغاية، نظرا لاعتناق الكثير منهم للإسلام، والذي وقف كحائط صد منيع أمام التوغل النصراني في القارة، وحتى القبائل الوثنية رفضت الدخول في النصرانية، نظرا لارتباط هذه الديانة في أذهانهم بعمليات الخطف وجرائم تجارة الرقيق، بالإضافة إلى أن الدول الأوروبية لم تعرف غير طريق القهر والاستبداد لإجبار الأفارقة على الدخول في النصرانية،  لذلك عندما ضعفت المراكز الأوروبية على السواحل الإفريقية، فإن كثيرا من القبائل القريبة من السواحل والتي تنصرت ارتدت وعادت للوثنية من جديد، ليبقى الوجود النصراني محصوراً ومحاصراً في بقع محدودة للغاية.
ويقول هوبير ديشان مؤلف كتاب الديانات في إفريقيا السوداء: «حتى نهاية القرن الثامن عشر كان تعداد النصارى في كل أرجاء إفريقيا عشرين ألفاً من البيض، وبضع مئات من العبيد، ومع بداية القرن التاسع عشر لم يكن للنصرانية قدم ثابتة في مكان ما في إفريقيا السوداء، إذا استثنينا نقطاً ضئيلة على الساحل». [3].
ظل الإسلام والوثنية القبلية هما الديانتين المهيمنتين على الخريطة الدينية في إفريقيا حتى نهاية القرن الثامن، ولم تتمكن النصرانية من اختراق القارة إلا في بعض البقع المحدودة للغاية، لكن مع بداية احتلال الدول الأوروبية لمناطق واسعة في إفريقيا وتوغل هذه الدول إلى قلب إفريقيا، تغيرت هذه الخريطة بشكل كبير.
إذ كان يصاحب وأحيانا يسبق الاحتلال إرساليات تنصيرية تمهد له الطريق، وتمده بالمعلومات، وتصبح أداته في توطيد نفوذه في البلدان التي يحتلها، في المقابل يعمل الاحتلال على تهيئة الأجواء لعمل هذه البعثات، وترسيخ أقدامها داخل المجتمعات بكافة الطرق والوسائل، وقد اعتمد الاحتلال على وسائل جديدة في التنصير نحو إنشاء المدارس وابتعاث الأفارقة إلى الدول الأوروبية، وإنشاء المستشفيات والجمعيات الخيرية، مستغلا حالات الفاقة والجهل التي كان يعاني منها الأفارقة وفي حال عدم استجابة أبناء المجتمع، كان يستخدم وسائل الترهيب والبطش والإقصاء والتهميش لكل من يقف أمام عمل هذه البعثات والإرساليات وللضغط على المجتمع لتقبل ما يدعو إليه المنصرون.
وقد أتت هذه السياسات بثمارها فكان القرن التاسع عشر حقاً هو العصر الذهبي للتنصير في إفريقيا، ولم يبدأ القرن العشرون إلا وقد تغيرت الخريطة الدينية في إفريقيا، إذ أصبح  للنصرانية تواجدها المحسوس والملموس والمرئي بشتى مذاهبها ومللها وكنائسها، وإن كان هذا التواجد في أغلبه على حساب الديانة الوثنية القبلية وقليل منه على حساب الإسلام.
استمرار الاحتلال لعقود طويلة في معظم أنحاء القارة أدى إلى تغيرات كبيرة في  نمط الحياة، والتركيبة الاجتماعية والثقافية  والسياسية للمجتمع الإفريقي، فبعد أن كانت السلطة في يد الحكام التقليديين وزعماء القبائل، أصبحت سلطة البلاد في يد نخب متغربة نشأت وتربت في مدارس الإرساليات متشربة بالثقافة الغربية وبعيدة تماما عن مجتمعاتها، وفي الغالب كانت تدين هذه النخب بالنصرانية حتى أصبح من مؤهلات الصعود الطبقي داخل المجتمع هو الدخول في الديانة النصرانية، وتشرب الثقافة الغربية  وكانت القبائل التي تتقبل هذه التغيرات وتدين بالنصرانية يتم تطوير المناطق التي تعيش فيها، حيث تبنى المستشفيات والمدارس والمحال التجارية والمصانع، وتصبح مركزا حضريا للإقليم التي تتواجد فيه، بينما القبائل التي ترفض سياسات الاحتلال وثقافته التي تعد النصرانية إحدى روافدها، يتم تهميشهم وإقصائهم وتجاهلهم ولا ينعمون في مناطقهم بأي من مظاهر التطور.
وهكذا بدأت المجتمعات الإفريقية في الانقسام إلى مجتمعين، مجتمع متعلم غني متطور، ينتمي إلى ثقافة المحتل ويدين بعقيدته.  ومجتمع أخر يرزح تحت وطأة الفقر والجهل والمرض بسبب رفضه لتقبل قوى الاحتلال، وقد أوجدت هذه التفرقة والانقسام حالة من العداء والصراع بين المجتمعين لا تزال آثاره حتى اليوم.
ومع تصاعد حركات التحرر الثورية في العالم بأسره، وتزايد وعي الشعوب في المطالبة بالاستقلال أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبروز حالة الاستقطاب العالمي بين المعسكرين الروسي والأمريكي،  كان من الطبيعي أن ينعكس ذلك على القارة الإفريقية ويضطر الاحتلال إلى تسليم إدارة البلاد لعملائه، وتصبح البلدان الإفريقية مستقلة اسما إرضاء للشعوب، لكنها في الحقيقة محتلة بالوكالة.
وإزاء هذه التحولات والتطورات التي شهدتها القارة، فقد طورت المنظمات التنصيرية من طريقة عملها واعتمدت إستراتيجيات العمل غير المباشر، وضخ الأموال الكبيرة للاستثمار في مشاريع لها صلة بالكنيسة، ومحاولة التغلغل في الإدارات والأجهزة الحكومية والسيطرة للمرأة كونها الطريق المؤدي إلى الأسرة كلها، وعلى وسائل الإعلام لتوجيه الرأي العام والتأثير في المجتمع من الداخل لضمان استمرار النفوذ الذي كانت تتمتع به  في ظل الاحتلال. هذا بالإضافة إلى الاستمرار في العمل الإغاثي  والتعليمي والخدمي والصحي، وإن كانت الدعوة للتنصير في هذه الأعمال تتم بصور غير مباشرة، في المقابل فقد غضت الأنظمة الجديدة الطرف عن هذه المنظمات؛ نظرا لأن معظم النخب الحاكمة هي نخب متغربة وتعتبر امتداد لفترات الاحتلال.(يتبع).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات (الهوامش):
1- قضية المرأة..المفتاح التنصيري الفعال للتغلغل في قلب المجتمعات الإسلامية، موقع الألوكة.
2- انظر تاريخ الوجود التنصيري في إفريقيا، أبو إسلام أحمد عبد الله.
3- انظر كتاب الديانات في إفريقيا السوداء، هوبير ديشان: ترجمة أحمد صادق حمدي، وانظر تاريخ الوجود التنصيري في إفريقيا ، مرجع سابق.

JoomShaper