سارة الرشيدان
الوطن السعودية
أدهشتنا امرأة تخرج من بين الأنقاض التي تهدمت مؤخرا، لتصرخ أنهم لن يتنازلوا للطغيان، وأن الطاغية إلى زوال على أيديهم! ما أعظم بطولتك التي لا تلين يا حلب!
"نَحْنُ أدْرَى وَقد سألْنَا بِنَجْدٍ
أطَوِيلٌ طَرِيقُنَا أمْ يَطُولُ
كُلّمَا رَحّبَتْ بنا الرّوْضُ قُلْنَا
حَلَبٌ قَصْدُنَا وَأنْتِ السّبيلُ
وَسِوى الرّومِ خَلفَ ظَهرِكَ رُومٌ
فَعَلَى أيّ جَانِبَيْكَ تَمِيلُ"
"المتنبي"
لزمت الصمت، لم أقو على كتابة كلمة واحدة عن حلب؛ لأن هول الفاجعة في حلب ممتد من أربعة عقود، وهذا الشبل الذي يرمي البراميل من ذاك الأسد الذي سار عليها

بالدبابات!
حلب تحترق، وحلب تهدم، وما يقال عن حلب قليل في حقها وحق تاريخها المناضل، وتركيبتها السكانية المتسامحة مع كل الأعراق، والمحتفظة بآثار من عشرات آلاف السنين قبل الميلاد، لكل حضارة استولت عليها وزالت وبقيت حلب.
حلب الأيقونة التي منها يوسف المصور الأشهر للأيقونات؛ حلب اليوم أيقونة للصمود. واليوم حلب كمدن السنة العرب المستهدفة للتهجير والتدمير بهجمة نار فارسية تريد أن تحرق لغتها العربية.
لقد طال ليل السوريين بين مصابر على أرضه لا يدري متى يلقى حتفه، وبين سجين في ظروف غير إنسانية، أو غريق كان يسعى إلى اللجوء وهجرة لم ينلها، ومهاجر هجر النوم عينيه "فلا ساكنا ألفت ولا سكنا".
نعم، للحزن بقية، هذا ما تخبرنا به البراميل المتفجرة التي تسقط على زوايا المدن السورية الصابرة؛ تستهدف الأبرياء، وتعبث بتفاصيل المدن، وتستهدف آثارها حتى وصلت إلى حلب؛ حلب المدينة التي سبق تاريخها تاريخ دمشق بآلاف السنوات؛ حلب الاقتصاد والزراعة والصناعة، حلب الإيمان؛ حلب الصابرة التي تنفض غبار تخريب تاريخها.
حلب عمورية التي استصرخت المعتصم امرأة منها، ولبى النداء بجيش ناصر صرخة امرأة، وكذب المنجمون وما صدقوا!
تاريخ الطغيان الذي وقع عليها وعلى حماة في ثمانينات القرن الماضي؛ حين سارت الدبابات لتهدم المدينتين، واليوم تأخذ نصيبها من الطغيان ببراميل الموت وطائرات العدوان، والشر يحط بالرقة غير بعيد منها ليحولها إلى القسوة والعنف، وتقع بين كماشة النظام والإرهاب.
اليوم، لا ناصر لحلب، فقررت أن تنادي شعراءها؛ يا أبا الطيب أين ممدوحك الضخم علي الذي تدار عنده المنايا؟! وتنادي عمر بهاء الدين الأميري، الأب الذي ترك أبناءه يعودون إلى حلب وكتب قصيدته الجميلة "أب"؛ لتخبره أن الآباء اليوم يبكون الأبناء والأبناء يبكون الآباء، وربما اجتمع الأب مع أبنائه تحت الأنقاض لا بواكي لهم ولا حول ولا قوة!
حلب تسأل نزار الدمشقي، كيف يقصف ياسمين الشام عمر أشجار الفستق الحلبي؟!
حلب النجمة الأكبر من دمشق في العلم السوري؛ حلب المقاومة للاستعمار، المدافعة عن شقيقتها دمشق في حقبة البغي، حلب حدود العروبة شمالا، والثغر الذي مرّ به الغزاة عبر التاريخ، وزالوا وبقيت حلب، وستبقى.
من يقصف حلب يفقأ عيني سورية بيديها. قبل بضعة أشهر ظهر أحد العسكريين وشكر عبقرية الذي فكر لهم في فكرة إلقاء البراميل المتفجرة، لأنها وفرت على النظام مبالغ كبيرة كانت ستدفعها للقنابل والصواريخ المدمرة!
نسي هذا الفرح المتحذلق أن إنسان سورية الذي تحصده هذه البراميل أثمن من كل ثرواتها!
ماذا نقول يا حلب؟! حتى الفداء والبطولة ليسا إلا تاريخا مشرفا لها، من يقرأ تاريخك لن يجد إلا مدينة كانت قبلة للصراعات؛ لم يمرّ بها قرن إلا كانت على موعد مع محنة أو أكثر؛ حلب التي علمت عمر أبا ريشة، أعظم شعراء العروبة والإسلام السوريين في العصر الحديث. عمر القائل وكأنه ينطق بلسانها اليوم:
"وما هان لي في موقف العز موقف
ولا لان لي في جانب الحق جانب
فيا غربة الأحرار ما أطول السرى
ومـلء غـيابات الدروب غياهب"
أدهشتنا من أيام، امرأة تخرج من بين الأنقاض التي تهدمت مؤخرا، لتصرخ أنهم لن يتنازلوا للطغيان، وأن الطاغية إلى زوال على أيديهم! ما أعظم بطولتك التي لا تلين يا حلب!
بالأمس القريب، يتحدث أحد المسعفين أنه يتم استهدافهم واستهداف المشافي، والقضاء على كل من يقدم العون في المدينة المنكوبة!
وما زال النظام يكذب في الهدنة، كما كذب قبلها في وعوده بالإصلاح، ولا يصدق إلا في تفننه في القتل والتدمير والاستعانة بالقتلة من الشرق والغرب، والولاء لإيران، عجل الله بفرج للمسلمين من شرورها.
حلب، ثقي أن للفرج ساعة ستدخل من باب الفرج، وأن النصر يقف على باب النصر، وأن معتصم الأرض لو تأخر فناصر السماء لا يتأخر عن مظلوم.
سامحينا يا حلب، فيوما أشرفت عليك من فوق الجبال ولم أزرك وأرى جمالك رأي العين. سامحينا اليوم، فلا نملك ما يرد عنك الظلم ولا عن أخواتك. سامحينا ولن يعذرنا الدمع ولا الأكف المرفوعة، لكنا نعلم أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون، ومن أصلح من أهلك يا حلب؟!
تنويه: العنوان شطر بيت للبحتري.

JoomShaper