بينما كان بشار الأسد يلتقي بأعضاء المنتخب السوري لكرة القدم، ويظهر مع مسؤوليه وحاشيته في أبهى حلة في مطاعم فاخرة، ويمكث عمال الإغاثة الدوليين في فندق الفورسيزونز ذو الخمس نجوم، لقيت الطفلة سحر ضفدع البالغة من العمر 34 يوماً مصرعها بسبب سوء التغذية في الغوطة الشرقية، على بعد أقل من خمسة أميال فقط من مدينة دمشق.
12 طفلاً في ثلاثة أشهر ضحايا الجوع
لم تكن سحر آخر الضحايا ولا أولهم، نتيجة سياسة التجويع التي ينتهجها الأسد في التعامل مع معارضيه في المناطق التي تُطبق قواته الحصار عليها، إذ تكشف الصور والقصص القادمة من الغوطة الشرقية عن مئات الأطفال ممن يعانون سوء التغذية، فبعد وفاة سحر بأيام توفي الطفل محمد عبد السلام الجمعة الماضية، نتيجة سوء التغذية وفقدان الدواء، وسبقهما وفاة الطفل عبيدة الذي لا يتجاوز عمره شهراً لذات السبب، لتحصد بذلك سياسة التجويع ثلاثة أطفال خلال أسبوع.
وقال الناطق باسم المكتب الإعلامي لقوى الثورة السورية في الغوطة يوسف البستاني لــ سوريتنا: إن “12 طفلاً في الغوطة توفوا نتيجة سوء التغذية خلال الأشهر الثلاثة الماضية، التي صعّد فيها النظام حصاره على الغوطة، إضافة إلى
وفاة طفلين بمرض السرطان، نتيجة عدم وجود الدواء والحليب، فالمشكلة في الغوطة هي مشكلة طبية بالدرجة الأولى”.
في حين أوضحت منظمة “اليونيسيف”، في تقرير لها، إن أكثر من 1114 طفلاً في الغوطة الشرقية يعانون من أشكال عدة من سوء التغذية، بينهم 232 طفلاً يعانون من سوء التغذية الحاد الشديد، وهو ما يتطلب تدخلاً طبياً عاجلاً لإبقائهم على قيد الحياة، في حين يعاني 828 طفلاً آخرين من سوء تغذية حاد متوسط.
“البستاني: وفاة 12 طفلاً في الغوطة نتيجة سوء التغذية خلال الأشهر الثلاثة الماضية، التي صعّد فيها النظام حصاره على الغوطة، إضافة إلى وفاة طفلين بمرض السرطان”
وقال المرصد السوري لحقوق الانسان، إن السكان يعانون من نقص حاد في الأغذية، وعندما تتوفر السلع في الأسواق فإنها تكون بسعر جنوني، حيث يصل سعر كيلوغرام السكر إلى 12 دولاراً في الغوطة، ويكلف الحصول على كيلوغرام من الأرز ما يقرب من 5 دولارات.
وقالت الأمم المتحدة إن حوالي 90 % من شحناتها من المساعدات التي كانت آخرها في تموز الماضي، عادت إلى نقطة التفتيش نتيجة منع دخولها إلى الغوطة من قبل النظام، وقال مراقبون دوليون إن حاجز مخيم الوافدين على الطريق الذي يربط العاصمة بالمناطق المحاصرة في الغوطة أغلق بشكل شبه كامل منذ أواخر آب الماضي.
في انتظار الموت البطيء
بدوره قال المسؤول الإعلامي في الهلال الأحمر بمدينة دوما في الغوطة الشرقية حمزة حجازي لــ سوريتنا إن “هناك 400 حالة في الغوطة مسجلة لدى الهلال الأحمر تحتاج للخروج من الغوطة، و70 % من تلك الحالات بحاجة لخروج فوري، بينها حوالي 80 طفل، 35 منهم تحت سن الخامسة”.
ولفت حجازي إلى أن “الهلال الأحمر الذي يسعى إلى إخراج الحالات من الغوطة الشرقية لا يضمن عدم تعرضها للاعتقال بعد الخروج إلى مناطق النظام”، وهذا ما حدث قبل فترة حين تم إخراج طفل عمره ثلاث سنوات مع والده، وبعد عدة أشهر من إخراجه إلى دمشق، قام النظام باعتقال الأب، في حين تم وضع الطفل ضمن دار الأيتام.
وصرح زاهر سحلول، مؤسس منظمة “ميدغلوبال” الطبية، لصحيفة “بيلد” الألمانية، أن السكان الضعفاء والأطفال مثل سحر، يتضورون جوعاً، والمرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة يموتون بسبب نقص الأدوية، محملاً الأمم المتحدة مسؤولية ما يجري لغضها الطرف عن جرائم الأسد طيلة السنوات الماضية.
بدوره قال المفوض السامي لحقوق الإنسان، زيد رعد الحسين في بيان نشره مكتبه الأسبوع الماضي، إن سكان الغوطة الشرقية يواجهون “حالة طوارئ إنسانية” مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية في المنطقة تحت الحصار.
“اليونيسيف: أكثر من 1114 طفلاً في الغوطة الشرقية يعانون من أشكال عدة من سوء التغذية، بينهم 232 طفلاً يعانون من سوء التغذية الحاد الشديد، وهو ما يتطلب تدخلاً طبياً عاجلاً”
وذكر البيان أن لدى مكتب زيد قائمة لمئات من الأشخاص يحتاجون إخلاء طبياً بينهم أطفال، لكن النظام يفرض قيوداً مشددة على خروجهم، ما أدى لوفاة كثير من الأطفال، بينما ينتظر آخرون الموت البطيء.
ورداً على واقع الغوطة، أطلق مجموعة من الناشطين والإعلاميين السوريين، حملة بعنوان “الأسد يحاصر الغوطة”، لتسليط الضوء على واقع الغوطة، ولفت أنظار المجتمع الدولي والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان، إلى ما يحدث في الغوطة من مآسي الحصار وكوارث في جميع جوانب الحياة.
ليسوا نياماً ولكن مخنوقين
ولم يكن أطفال سوريا ضحايا الجوع فقط، بل سعى النظام لخنقهم أيضاً، حين استهدف بسلسلة هجمات كيماوية بلدات عدة في الغوطة الشرقية في آب من عام 2013، ما أدى لمقتل حوالي 1400 شخص بينهم حوالي 426 طفلاً.
وآثار هذا الهجوم سخطاً عالمياً، حيث انتشرت صور جثث الأطفال المخنوقين وقد اصطفت بالعشرات جانب بعضها في مشهد مؤثر، ما دفع الولايات المتحدة للتهديد بتوجيه ضربة عسكرية للأسد، لكن سرعان ما غيرت رأيها، بعد توعد روسيا حليفة النظام بأن يقوم الأخير بتدمير كامل ترسانته الكيماوية، ليدّعي في 2015 أنه قام بتدمير مخزونه الكيمياوي بشكل كامل.
إلا أن كذب النظام بدا واضحاً عندما استيقظ سكان مدينة خان شيخون بريف إدلب صباح الرابع من نيسان 2017 على مجزرة جديدة، استخدم النظام فيها السلاح الكيماوي من جديد، ما أدى لمقتل حوالي 100 شخص من سكان المدينة، بينهم 31 طفلاً، وفق ما وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان.
وأكد تقريراً مشتركاً للأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، مسؤولية نظام الأسد عن شن الهجوم بغاز السارين على خان شيخون.
الأقلام والكتب تنزف دماً
وتزامن البيان الدولي بخصوص مجزرة خان شيخون الأسبوع الماضي مع الذكرى السنوية الأولى للقصف الذي طال عدة مدارس في بلدة حاس، وأدى القصف حينها لمقتل 27 طفلاً وإصابة العشرات، جراء قيام طائرات يُعتقد أنها تتبع لسلاح الجو الروسي بالإغارة على مدارس حاس، لكن روسيا نفت علاقتها بالقصف.
نهج النظام في استهداف حق الأطفال في التعليم، لم يبدأ في بلدة حاس، وإنما سبق ذلك سلسلة طويلة من الاستهدافات لمدارس الأطفال، والتي كان أفظعها في تشرين الثاني من عام 2014، حين ارتكبت قوات النظام مجزرة بحق أطفال حي القابون الدمشقي، بعد استهداف مدرسة الحياة التي كانوا يتعلمون بها، ما أدى لمقتل خمسة عشر طفلاً وعشرات الجرحى، جلّهم من الأطفال، رغم وجود هدنة مبرمة في الحي.
“تقرير مشترك للأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية يؤكد مسؤولية نظام الأسد عن شن الهجوم بغاز السارين على خان شيخون”
ظلال الحرب على الأطفال السوريين “جراح خفية”
الانتهاكات بحق أطفال سوريا لم تقتصر على جوانب القصف والتجويع، وإنما عانى الأطفال أيضاً من مشاكل نفسية، وكشفت إحدى الدراسات التي نشرتها صحيفة “الغارديان” البريطانية، كيف أدَّت الحرب إلى تدمير الطفولة، وبينت أن نحو نصف الأطفال الذين جرت مقابلتهم لا يشعرون بالأمان في المدرسة أو عندما يلعبون في الخارج.
وسلطت صحيفة “غارديان” الضوء أيضاً في دراسة أخرى على أن أطفال سوريا يعانون من نوع حاد من الصدمة النفسية، والتي يمكن أن تسبب أضراراً تستمر مدى الحياة، كما أشارت إلى تزايد محاولات إلحاق الأذى بالنفس أو الانتحار بين أطفال لم تتجاوز أعمارهم 12 عاماً.
وقالت الصحيفة إن تقرير منظمة “أنقذوا الأطفال”، قدم صورة مروعة للأطفال في البلاد، لافتة إلى أن 5.8 مليون طفل منهم بحاجة إلى المساعدة بعد الحرب.
ولفتت الصحيفة إلى أن أكثر من 70 % من الأطفال الذين شملتهم الدراسة، ظهرت عليهم الأعراض الشائعة لـ “اضطراب ما بعد الصدمة”، كالتبول اللاإرادي، فضلاً عن أعراض فقدان القدرة على النطق والسلوك العدواني، وفقاً للتقرير الذي جاء بعنوان “جراح خفية”.
ونقلت الصحيفة عن فراس وهو والد الطفل سعيد الذي يبلغ من العمر 3 سنوات قوله “ابني يستيقظ خائفاً في منتصف الليل ويصرخ، فقد ذبح طفل آخر أمامه، ودائماً ما يرى في منامه أن شخصاً ما يقترب منه ويحاول ذبحه”.
وكشفت الدراسة أيضاً أن 59 % من البالغين يعرفون أطفالاً ومراهقين جرى تجنيدهم في جماعات مسلحة، ونصفهم تقريباً يعرفون أطفالاً يعملون في نقاط تفتيش أو ثكنات، كما كشفت عن أن واحد من كل أربعة أطفال معرض الآن لخطر الإصابة باضطرابات عقلية.
وقال الباحث الاجتماعي خالد مشنوق لــ سوريتنا: إن “أغلب الأطفال الذين يقيمون في سوريا، في مناطق ساخنة تتعرض للقصف والمعارك، أو الذين عايشوا مشاهد قتل وذبح مروعة، سيعانون مستقبلاً من عقد نفسية، لذلك يجب عدم تركهم دون علاج، إلا أن كثير من الأهل لديهم جهل في هذا الموضوع ولا يولونه أهمية، ما يؤدي إلى تدهور الحالة النفسية لدى الأطفال أكثر”.
وأضاف خالد “هنا يكمن دور المنظمات والجمعيات الأهلية في نشر الوعي بين الأهل، عبر فرق جوالة تشرح للأهل أهمية إخضاع الأطفال لجلسات علاجية نفسية، تترافق مع نشاطات ترفيهية، بغية إخراجهم من الحالة النفسية الصعبة التي يعيشونها”.