ربى الرياحي
"ليش رحت يا بابا"، بهذه العبارة اختصرت طفلة غزية مرارة الوجع، لتصرخ وهو يرقد شهيدا أمامها، "أنت بتعرف يا بابا قديش أنا بحبك لا تتركني لحالي وتروح".
في هذه اللحظة هي فقدت كل شيء، الحضن والأمان، وبعض الأحلام الصغيرة التي تنتظر أن تحققها مع عائلتها، لكن قُصفت تلك الأحلام، وهدمت الذكريات، وباتت وحيدة بلا مأوى.
في كل يوم يتجدد مشهد في غزة، موجع في تفاصيله، حينما يبحث ذلك الصغير عن حضن أحد والديه، وهو وسط الأنقاض عله يستشعر بعضا من أمان مفقود، يطلب ممن حوله أن يسارعوا بالبحث، فوالداه يقبعان تحت الركام.


ولا يقل ذلك الوجع عن وجع آخر وهو يتلفت في أروقة المستشفيات عمن يشبه وجه أبيه، أو عيني والدته التي كانت تقول له دائما "سنكون بخير"، ووسط كل ذلك يحتضن إخوته المتبقين، محاولا أن يطمئنهم ويقلل من رجفة أجسادهم الصغيرة.
هو الصغير ذاته الذي لا ينظر لدماء غطت جسده الصغير، إنما كل ما يدور في قلبه وعقله هو البحث عن أحد والديه، ففقدان أحدهما هو ذلك الألم الحقيقي الذي لن يتحمله العمر برمته.


"يمكن مش ماما يمكن وحدة ثانية.. هي والله هي أنا بعرفها من شعرها.. ليه أخذتوها مني يا رب خذني معها يا رب مقدرش أعيش من غيرها"، بتلك الكلمات وثقت الطفلة الغزية تالين بصوتها المقهور وبكائها الهستيري ما يحدث حولها، وكأنها بذلك تروي مأساتها ومأساة كل طفل هناك جرب اليتم والفقدان. هي بكلماتها المحملة بالوجع تقول للعالم إنها أصبحت يتيمة، كان الجميع ممن حولها يفتشون عن كلمات لمواساتها رغم عجزهم.
الحرب الدموية على غزة التي بدأت في السابع من أكتوبر، حملت لأهل القطاع الكثير من المآسي والأحزان جراء استهداف العدو الصهيوني لكل بقعة على تلك الأرض، الحياة في غزة باتت أمنية وسط ما يعيشونه من دمار ونزوح وفقد، والحزن يخيم بثقله على الصغار والكبار.
تحت أنقاض الحرب والقصف، أطفال يدفعون الثمن غاليا بانتهاك صريح لبراءتهم وتركهم أيتاما لا مأوى لهم. ابتسامات سلبت وذكريات شوهت ولم يبق منها إلا الوجع والحسرة، فالحرب بشراستها أخذت منهم كل شيء، حتى دفء العائلة وحنان الوالدين.
الأيتام في غزة يعيشون وجعا مضاعفا نتيجة فقدانهم أحد الوالدين أو كليهما، فمع كل قذيفة تستهدف بيوتهم وأحياءهم تزداد مآسيهم، مشاهد حزينة يومية تعكس مدى اليتم والحرمان لأطفال في غزة يحملون أوجاعا أكبر منهم لكنهم مع ذلك يحاولون البقاء صامدين أقوياء بإيمانهم يكابرون على جراحهم بالصبر ويضمدون حتى أوجاع الآخرين.
يوميا في غزة، يفقد عدد كبير من الأطفال ذويهم وأقاربهم وعائلات بأكملها، هذا إن لم يكونوا هم أنفسهم الضحايا. صور كثيرة لأطفال شردوا وأصبحوا في عداد المجهولين لا يعرفون أحدا ولا أحد يعرفهم، فقدوا البيت والحضن الآمن. ويطوف اليتم اليوم على الآلاف من الأطفال في غزة ليبقى الجرح النازف في ضمير الإنسانية، فهم يعيشون الحرمان والضياع والخوف، لكن أحلامهم الصغيرة، ورغم الألم، تصر على أن تظل على قيد الأمل لإيمانهم بأنهم يستحقون الحياة.
منظمة يونيسف التابعة للأمم المتحدة كانت قد بينت أن مليون طفل في غزة يواجهون مصيرا مجهولا، لا سيما الذين يعانون من حروق مروعة وجروح بالقذائف وبتر للأطراف في غياب المستشفيات الكافية لعلاجهم وتقطع السبل أمام الإمدادات الصحية لهم. وحذرت منظمات حقوقية من تأثيرات الحرب في غزة على أطفال القطاع الذين يشكلون حوالي نصف السكان هناك معظمهم لم يجربوا الحياة إلا في ظل الحصار والحروب المتكررة، ورغم صعوبة تحديد عدد الأطفال الذين باتوا أيتاما جراء العدوان الأخير على غزة، إلا أن بعض الإحصائيات تظهر أن نحو 25000 طفل فقدوا أحد الوالدين أو كليهما، والأعداد تتزايد في كل يوم.
الحرب في غزة هذه المرة، التي دخلت شهرها الثالث، لم تستثنِ أحدا على الإطلاق، الكل في مهب الريح وتحت القصف، وخاصة الأطفال الذين أجبروا على أن يختبروا الحزن باكرا، فليس لديهم خيار آخر، إذ يكبرون أعواما فوق أعوامهم، فأمام أعينهم يقتل أشقاؤهم وآباؤهم وأمهاتهم فقط لأنهم يرفضون التخلي عن وطنهم وأرضهم.


الاختصاصي النفسي الدكتور موسى مطارنة، يبين أن نسبة كبيرة من هؤلاء الأطفال فقدوا الأمان والإحساس بالحنان والحب، يعيشون غصة كبيرة في قلوبهم، وفي دواخلهم يستقر الظلم والقهر نتيجة فقدهم لوالديهم أو أحدهما.
ويلفت إلى أن الصور التي ستبقى عالقة في أذهان هؤلاء الأطفال هي صور القتل والخراب واستشهاد أهلهم أمام أعينهم، لذا ينشأون على الحرمان ومعايشة الألم والشعور داخليا بالغربة، وهذا حتما يخلق فيهم الإحساس الدائم بالقهر والحسرة بالاعتداء الصارخ على طفولتهم وانتزاع أعز ما يملكون؛ الأب والأم.
ويبين مطارنة، أن الأطفال الأيتام في غزة بحاجة إلى تدخل نفسي ودولي، فهم بحاجة لتكاتف كل الجهود ليستطيعوا أن يتوازنوا ويستمروا، فقدهم لأهلهم وبيوتهم وكل ما يحبون سيشكل لهم صدمة كبيرة، ما يتطلب مساندتهم نفسيا وتلبية احتياجاتهم وإحاطتهم بأشخاص يقدمون لهم الحب والحنان.
وما يزيد مشكلة اليتم تعقيدا ويعيق مساعدة الأطفال في القطاع، وفق مطارنة، هو الوضع المتدهور الذي تعيشه غزة من حرمان وتجويع وألم ووحشية. الوقوف إلى جانبهم وتمكينهم نفسيا سيساعدانهم على التعافي من تبعات الحرب وقسوتها ومساندة أنفسهم، وسيكونون قادرين على الكفاح واستعادة حريتهم وأرضهم.
ووفق الاختصاصي التربوي الأسري الدكتور عايش نوايسة، فإن الحرب الوحشية على غزة خلقت اختلالا واضحا لدى الأطفال في الجوانب النفسية والاجتماعية والعاطفية، وهذا ما يتسبب في فقدان التوازن نتيجة خسارتهم لوالديهم وعائلاتهم وأصدقائهم وجيرانهم والامتداد الطبيعي للحياة الاجتماعية. وهذا يتطلب مجهودا كبيرا من قبل التربويين ليتمكنوا من إعادة ترميم نفسية الأطفال الأيتام، فهم لم يفقدوا لعبة، هم فقدوا أسرهم ووالديهم.
لذلك، يجب أن يكون التدخل على درجة عالية جدا ليستعيدوا توازنهم ويكملوا حياتهم، وقد يكون التدخل هنا أبعد من التدخل التربوي، وخاصة في المرحلة الأولى، فهؤلاء الأطفال وبعد فقدهم لأحد والديهم أو كليهما، بحاجة إلى حصانة نفسية وعلاج يعيدهم للحياة وللتفكير المنطقي.
ويشير إلى أن التأهيل التربوي لهؤلاء الأطفال يستدعي وجود برامج قادرة على إعادة دمجهم اجتماعيا وعاطفيا ضمن مؤسسات تربوية تحتضنهم وتستطيع أن تقدم لهم الرعاية والأمان، علما أن الأطفال في غزة على مستوى عال من التربية والإيمان ولديهم الوعي الكبير بقضيتهم، فقد شاهدنا الكثير منهم يتمنون الشهادة واللحاق بذويهم، وهذا كله يعكس مدى عمق تربيتهم وصبرهم على ما يواجهونه من انتهاك متعمد لحقوقهم وإنسانيتهم.

JoomShaper