زهراء أحمد

يعيش نحو مليوني نازح في أكثر من 1500 مخيم وموقع غير رسمي في شمال غرب سوريا. وتفتقر نحو 87% من المخيمات غير الرسمية إلى أبسط عوامل الاستقرار، في حين تكتظ 79% من المخيمات بنازحين يشكل النساء والأطفال نسبة 80% منهم، وفق إحصاء قدمه رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني لـ"الجزيرة نت".

قدر الإحصاء أن الأطفال يشكلون نحو 60% من إجمالي سكان المخيمات والمواقع غير الرسمية، ومع عدم توفر عدد دقيق للعائلات، إلا إن البيانات تشير إلى أن ما بين 12% إلى 17% من الأسر ترأسها نساء، وتعد تلك العائلات من بين الفئات الأكثر ضعفًا وتعرضًا للخطر.

"لم نعد بشرا"

يثير الوضع في مخيمات شمال غرب سوريا القلق نظرًا لتحديات متمثلة في افتقار نحو 660 مخيمًا -ما يعادل 44% من المخيمات- إلى خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة، مع تهالك وقدم البنية التحتية، لتجاوز أعمار أكثر من 40% من المخيمات 5 سنوات، وحاجتها لإعادة تأهيل للممتلكات، الطرق، والمرافق العامة.

كذلك يقع 372 مخيمًا في مناطق نائية، حيث تكون الخدمات الإنسانية محدودة ويصعب الوصول إليها بانتظام، ويزداد الوضع خطورة نتيجة لنقص التمويل الذي يهدد بتدهور الأوضاع، لذلك حاولت "الجزيرة نت" نقل وضع النازحات المعيلات عن ألسنتهن.

كانت وحيدة عبد الستار أول من أجابتنا، عاشت وحيدة وأبناءها الخمس في ريف حلب، حتى هدد الصراع أمنهم في ديارهم، فاضطروا للنزوح إلى مخيمات ريف حلب الغربي، وتسكنها لأقل من شهر، قبل عودتها إلى بيتها، ومنه إلى مخيم "المقبرة"، الذي تقطنه منذ عام 2019.

قالت وحيدة لـ "الجزيرة نت"، "كل شيء في حياتنا تغير، حتى تعريفنا للأمان، ووضعنا المعيشي، لم يبقَ شيء عندنا مثلما كان".

توفى زوج وحيدة قبل 16 عامًا، مما اضطرها للعمل في موسم الزيتون لتوفير نفقات حياتها وأولادها، فيما تترك ابنتها الكبرى رضيعها في الخيمة، وتضطر للعمل باليومية حتى تتمكن من شراء الخبز للأسرة.

سألت "الجزيرة نت" وحيدة عن وضعها مع بدء موسم الأمطار، وتواتر أخبار حرائق الخيام، لتجيب إنها ترص الأحجار حول خيمتها لتحول دون دخول مياه الأمطار والطين، لكن لا شيء يحميهم من البرد سوى مدفئة قديمة تشعلها بحطب وأوراق الزيتون، حتى وإن سمعت أخبار الحرائق التي تسببها في مخيمات مجاورة.

وعن آخر كشف طبي خضعت له، قالت وحيدة "أنا أعاني ضعف النظر. أتردد على المستوصف لكن لا أجد أطباء به عادة، وإذا فحصني طبيب ووصف لي دواء، لا أجده بالمستوصف. ولا يوجد لدي مال لشرائه من الخارج".

روت وحيدة ذكريات عن حياتها قبل النزوح قائلة، "كنت عايشة في بيت، فأستيقظ صباحا وأجمع أولادي حولي، فنضع فطورا، ونجلس تحت الشمس في أرض الديار".

توقفت قبل أن تتابع، "ذكرياتي القديمة تزعجني، كنا نرتب البيت، ونصنع غداءً للأولاد حتى يأكلوا لدى عودتهم من العمل. كنا نزور بيت أخوي أو أمي بعد الغداء وحتى آخر اليوم. الله وكيلك! بعد النزوح، أستيقظ وأنظر حولي، فأشعر بأن قلبي يغم عليَّ. ماذا عساي أفعل؟ لا شيء. يحاول أولادي أن يستيقظوا، فأدعوهم لمواصلة النوم. وهكذا أجلس في انتظار أن تتيسر لي فرصة عمل".

إعلان

وحيدة وجهت رسالة لكل قادر على دعم أهالي مخيمات شمال غرب سوريا قائلة، "نريد الشام، نريد أن نرجع إلى بلدنا، نريد أن يحس العالم العربي كيف نعيش، وأين وصلت بنا الحال، ولماذا؟ لماذا حل بنا ما حل؟".

وتختم، "نحن والحيوانات محاطون بالأشجار ونسكن الخيام. لم يبق شيء حولنا إلا الحيوانات. صرنا نشعر بأننا لسنا بشرا، بل بهائم -الله يعزكم! -".

"عيشة العدم"

من جانبها، وصفت فاطمة -شقيقة وحيدة- ما تراه أعينها في خيمتها قائلة، "أرى حصيرا، ومدات. خيمة فوقها قماش خفيف، أخف من أن نضع عازلا للمطر فوقها، وإلا وقعت علينا".

ترملت فاطمة قبل 10 سنوات، وتعول 4 فتيات وصبيا. عاشوا في ضيعتهم، قبل أن يسكنوا أول خيمة، في قرية أورم الكبرى، ومنها إلى مخيم "المقبرة".

لا تقوى فاطمة على العمل لمعاناتها آلامًا مزمنة في ظهرها، فبدأت مع نزوحها بالاستغناء عن "رفاهية" العلاج حتى تتمكن من إطعام صغارها، فهي تعتمد على أجرة يومية تحصلها ابنتها الكبرى (20 عامًا) وابنها الوحيد (15 عامًا)، والذي يخرج إلى السوق يوميًا، لينقل الأحمال بالأجرة، وتترجل الفتاة ساعة إلى أن تصل عملها بالمدينة، وتكاد أجرتها تكفي إيجار الخيمة.

 

شهد العام الماضي انخفاضًا في التمويل الداعم للمخيمات بنسبة تتراوح بين 35% و40%، وفق رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، ويعود ذلك جزئيًا إلى تحول أولويات الجهات المانحة إلى أزمات أخرى مثل غزة وأوكرانيا.

وتقدم السلطات المحلية دعمًا محدودًا وغير منتظم، ولا يكفي لتلبية جميع الاحتياجات الصحية، كما انخفضت المساعدات الإنسانية بشكل كبير، حيث يُتوقع مرور 400 شاحنة فقط من تركيا في عام 2024 مقارنة بـ3700 شاحنة خلال الفترة نفسها من العام السابق، مما يؤدي إلى نقص شديد في الموارد.

فاطمة أكدت البيانات قائلة، "ليس لدينا منظمات تدعمنا، لكن الغلاء لم يؤثر علينا مثل ما تأثرنا بحرب غزة ولبنان. في بداية نزوحنا، كان من الممكن أن يوفروا لنا ما يغني بناتي عن الخروج للعمل، وتسريحهن من المدرسة، لكننا اليوم مضطرون لإيواء أنفسنا وحدنا. هذا الشتاء لم تصلنا ملابس، وصرنا نأكل وجبة واحدة. نعيش عيشة العدم!".

وصفت فاطمة يوم تسرب أبنائها من التعليم للعمل بـ"أصعب أيامها" وتقول، "حرموا من أبسط حقوقهم. بنتي تقول لي: أريد أن أدرس، وأنا: أقول لها: لا، لن نتمكن من العيش. نصبت منظمة خيمة صغيرة لتعليم أبناء المخيم، وتطوع مدرسون للعمل، لكن لا تتوفر بالخيمة دفاتر أو أقلام أو حقائب للأطفال".

أجرت "الجزيرة نت" حديثها مع فاطمة صباح ليلة باتتها تدفع الطين عن خيمتها، وتدبر مالًا لنصب مدفأة. كررت فاطمة في حديثها كلمة "خوف" بلا سياق. وعندما سُئلت عن مصدر خوفها، قالت "الخوف من الحيوانات حولنا، من ضباع، وعقارب، وحشرات تُمرض أولادنا. لا أمان في الخيمة. عندما كان بالضيعة، كان عندي بيت، وكنت أقفل بابي على 4 بنات وصبي كان صغيرا. أشعر بالهم تجاه كل شيء. الخيمة؟ بأي لحظة قد يدخل عليها حيوان مفترس، أو لص، نحن نعيش بين الشجر، بين الوحوش، لا أشعر بالأمان".

أما عن أنشطتها اليومية خلال نهار يغيب فيه أولادها للعمل، فقالت "أعتني بأولاد جيراني. الصغار لا يدركون خطورة إشعال نار للتدفئة، فبعضهم قد يتسبب في إحراق الخيمة. إذا لم نعتن بالأولاد، قد نموت. الخيمة قطعة من النايلون، بمجرد خروج شرر، تشتعل الخيمة بمن فيها. لكن الأولاد -الله يحميهم- محرومون من معنى البيت والضيعة، ليس لديهم مستقبل".

"خيام في مهب الريح"

أما الشيخ دهام، ففتح كاميرا هاتفه في مكالمته مع "الجزيرة. نت" لعرض صورة واقعية -قليلًا- أثناء الحديث مع نساء في مخيم "التآخي"، في ثاني أيام هطول الأمطار على شمال غرب سوريا.

ظهرت بالمشهد امرأة مسنة (50 عامًا) اسمها سوريا، أم لابنتين، قبل أن تختفي لعدم تذكرها تفاصيلًا عن حياتها، ثم جاءت مريم مقبلة بوجه نصف بشوش، أم لـ9 فتيات، تقطن معهن الخيمة منذ 10 سنوات، مع زوجها المعاق.

حكت مريم عن ليلتها السابقة تحت المطر قائلة، "خيمتي طافت. جمعنا الفرش، وكومناه في منتصف الخيمة، ونمنا".

دار الشيخ دهام بكاميرا هاتفه، قبل أن يعلق، "كلهن نساء مسنات، في خيام لا تقي برد الشتاء ولا حر الصيف، وبعضهن لا يملكن خيمة يسكنها. المخيم يأوي أكثر من 60 عائلة، تعيل الأرامل نصفها، لكن الطيب يحمد الله، والله ما بيسكر بابه".

مسنة أخرى قالت، "الميه يقطر علينا، ولا غطاء، ولا بطانية، ليس لدينا شيء سوى رحمة ربنا". وحين سُئلت عن آخر زيارة لطبيبها قالت، "نطلب من الله الشفاء. ليس لدي من يأخذني إلى الطبيب. لا أملك تدفئة أيضا، إلى الله المشتكى".

ويلبي القطاع الصحي داخل المخيمات 10.5% فقط من الاحتياجات الطبية اللازمة، وتوقفت 19 مستشفى في إدلب وغرب حلب عن تقديم الخدمات عدا الطارئة، وأُغلق 16 مستشفى ومركزا صحيا في إدلب نتيجة نقص التمويل، وزاد الاعتماد على العيادات المتنقلة لتقديم الرعاية، وتواجه 50% من المرافق الصحية المتبقية خطر الإغلاق الكامل أو الجزئي بحلول ديسمبر/كانون الأول 2024، بسبب استمرار النقص في التمويل.

وتعاني المستشفيات إثر ذلك نقصًا مزمنًا في الأدوية والمستلزمات الطبية الضرورية، إلى أن صار نقص الأدوية والإمدادات الطبية مشكلة منهجية تشمل المنطقة بأسرها، وغالبًا ما يضطر المرضى للتنقل بين المستشفيات المختلفة بحثًا عن العلاج، بسبب نقص الأدوية.

عادت مريم، لنسألها عما إن توفرت طبيبة نسائية بالقرب من المخيم، "الأطباء متوفرون حولي، لكن ليس لدي المال. المستوصف يصرف لي مسكنا ويطلب مني العودة إلى المنزل. أنا مريضة منذ 3 أشهر، لكني لم أذهب إلى الطبيب. عندي بنت في شهر الولادة، أخاف عليها كثيرا. أريد أخذها إلى طبيب مختص، لكني أفتقر للإمكانيات، والمشفى المجاني يرفض استقبال حالات الولادة القيصرية لغياب الإمكانيات الجراحية".

وارتفع معدل وفيات الأمهات من 52 حالة لكل 100,000 ولادة حية في عام 2009 إلى 68 حالة لكل 100,000 ولادة خلال فترات ذروة الصراع، وتشير تقديرات الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى احتمالية ارتفاع النسب عن ذلك الحد، نظرًا لتفاقم المشكلة يوميًا بسبب توقفت نصف مستشفيات الولادة في شمال غرب سوريا عن العمل منذ سبتمبر/أيلول 2024، مما يؤثر على نحو 1.3 مليون امرأة في سن الإنجاب.

لذلك سألنا مريم عن استعدادات الولادة، فقالت: "لو قبلوها بالمستوصف، ستلد بالمستوصف، لو لم يقبلوها، فستتولى أمرها الحاجة جارتنا".

 

أما الابنة الحامل خلدية، فقالت إنها لا تتابع حملها لعدم وجود خدمات بالمستوصف، فاكتفت بزيارة طبيب متخصص مرة على نفقتها في شهرها الثالث، وطلب منها متابعة حملها، لكنها فشلت في تدبير ثمن الكشف.

سألت "الجزيرة نت" مريم عن أمنيتها، فقالت، "العزل في الخيام سيئ، الماء يقطر علينا، وباتت الخيمة مهترئة. أرجو أن يحضروا لنا كرفانات، لأن الخيام عدمت".

نادت مريم: "تعال يا عيوش، سلم".

ضمت مريم طفلين باسمين وحافيين، وودعتنا.

المصدر : الجزيرة

JoomShaper