برصاصة “بيكفي”:
ينشر ناشطون سوريون أنباء عن قصف القوات النظامية عشرات المدارس في مناطق مختلفة، أو اقتحامها ونهب ما تيسر من أجهزة كومبيوتر ومحتويات المختبرات وسواها. وهي ممارسات تبدو ممنهجة لأن نظام البعث يمعن منذ عقود في حرمان السوريين من حقوقهم المشروعة، التي لا تبدأ بالتعليم ولا تنتهي عند حق العيش بكرامة. وذلك عبر فرض منهج تعليمي مقولب على قياس الفكر البعثي الضيق الأفق المشوِّه لوقائع التاريخ، وعبر كمّ فاه شعب بأسره تحت شعار “العروبة والممانعة”، على سبيل المثال لا الحصر. وقد يكون ذلك مبرراً أيضاً لأن “أخلاقيات” البعث يبدو أنها تشجع على مواصلة تفكيك المجتمع وإخضاع أفراده وتحجيم إنسانيته باعتبارها طريقة فضلى ومثلى لاستمرار السيادة المطلقة على مفاصل البلاد.
“باتت المدارس في سوريا الآن مثل فريضة الحج بالنسبة إلى المسلم، فقط لمن استطاع إليها سبيلا”، هكذا لخصت الناشطة في ريف دمشق “سمارة القوتلي” ظاهرة “غزو” المدارس. فكثير من الأهالي لن يرسلوا أبناءهم وبناتهم إلى المدارس خشية على حياتهم. وسيحرم آلاف الطلاب تالياً من عام دراسي جديد على مقاعد البعث، ربما لحسن حظهم.
تستعيد “سمارة” في رسالة بعثتها لي عبر “سكايب” الذكريات الأولى للثورة، فطلاب المدارس كانوا “أول من ألهب شعلتها الحمراء” في الخامس عشر من آذار (مارس) 2011. من على مقاعد مدارس درعا حيث كان “أساتذة القومية وحزب البعث يبثون طبائعهم الاستبدادية خرجت الشعلة”. وما كان من “المستبد الذي يضغط على العلم فيفسده ويضغط على الدين فيفسده ويضغط على العقل فيفسده، إلا أن قلع أظافر الطلاب وشوّه طفولتهم وأذاقهم أقسى أنواع التعذيب والتنكيل”.
بطريقة مماثلة اشتعلت الثورة في مدينة دوما في ريف دمشق، حيث اعتقلت قوات الأمن شباناً في المرحلة الثانوية بعد كتابتهم شعارات مناهضة على الجدران، ليخرجوا من السجون بأبشع صور عرفتها الإنسانية، تقول “سمارة”. هذا عدا عن اختطاف الفتيات خلال عودتهن من المدارس في مناطق مستقرة نوعاً ما. لن يرغب أحد حتماً في اختبار سيناريو شاهد ويلاته في عيون أحد أقاربه أو جيرانه أو معارفه، وعبر مئات الفيديوهات على الانترنت.
حول باقي مناطق ريف دمشق التي تنام على مجزرة وتصحو على أخرى، مثل حرستا ودوما وداريا ومعضمية الشام، تتساءل “سمارة”: “أي مدارس وقد حطمت كتائب الأسد جدرانها ومنشآتها ومزقت وثائقها؟ أي مدارس سيتجرأ الأستاذ أن يتوجه إليها قبل الطالب؟ أي مدارس وجميع المواصلات مقطوعة عن المدن المنكوبة، وسائقو التاكسي يرفضون التوصيل مجرد سماعهم بأسمائها؟ فأي أستاذ سيذهب إلى دوامه؟”.
تستذكر “سمارة” أن “أهل الشام لطالما كانوا من طالبي العلم والساعين إلى رفع مستواهم العلمي. أما اليوم، فأي مستقبل علمي لمن يعيش كل هذه المجازر ويفقد ابنه أو أمه أو أبيه أو أحد أعضائه؟ الناس لم تعد تفكر إلا بلقمة العيش وقليل من الأمان وبسلامة أبنائها من الحرق والقتل والخطف”.
مشروعة جميع مخاوف “سمارة”، التي أخبرتني أنها حازت على لقب “أبو اصطيف”. تضحك: “إي والله، حسن صبي صرت بهالثورة”. هي من السوريات القلائل اللواتي ينقلن إلى الرأي العام من الداخل ما يجري على أرض المعركة. يشي الاستماع إلى مداخلاتها الهاتفية بجرأة كبيرة وعنفوان وتمرد لا بد أنهم قمعوا بل انتصروا على شعورها بالجور والاستبداد لسنوات إلى أن ثارت دفعة واحدة. لا أعرف هوية “سمارة” الحقيقية، وبالكاد تحدثنا بضع مرات. لكن صوتها يلخص نبض الثورة كله، ثورة الطالب على أستاذه والمرؤوس على رئيسه والسجين على سجّانه والسهل على الجبل والريف على المدينة. ثورة كل امرأة وطفل وشاب ورجل ومسن في هذا الجزء البائس من العالم. ثورة الإنسان من أجل إنسانيته.
تشرح “سمارة” أن الوضع في العاصمة دمشق ليس أفضل، سيما مدارس المزة ومشروع دمر والزاهرة حيث يقطن مئات النازحين من أنحاء البلاد هرباً من القصف المتواصل على المناطق السكنية. وتبدو قلقة جداً على مصير هؤلاء بعدما حددت وزارة التربية السابع عشر من أيلول (سبتمبر) موعداً لبدء العام الدراسي. فمعظمهم من النساء والأطفال والمسنين الذين “سيطردون خارج المدارس لكي يظهر النظام أن طلاب دمشق يداومون بشكل طبيعي”.
ورغم استيائها الشديد، تعتبر “سمارة” أن عدم تمكن الطلاب من الالتحاق بمدارسهم “ليس خسارة على الإطلاق، لأن ما يتعلمه هؤلاء من دروس الشجاعة والبطولة في هذه الحرب يفوق ما تقدمه لهم مناهج بشار الأسد البعثية”. وتضيف: “نحن كنا ولا نزال في حاجة إلى مناهج تحترم عقول أبنائنا، لا مناهج تعوّد الأطفال على الخنوع والذل”.
“سوريا سترمم ما سلبته يد الغدر بسرعة فائقة”، تختم “سمارة” رسالتها بإصرار وعزيمة. فهذان العاملان لطالما شكلا عصب الثورة منذ ولادتها، فشلت جميع المحاولات في إحباطهما أو حتى التسبب بتراجعهما قيد أنملة. وبهذين العاملين، يؤمل أن تحمّل الثورة طلابها زاداً يحصّنهم من اقتباس ممارسات العهد البائد في سوريا المستقبل.
*رابط مدونة “بيكفي”:
مدارس سوريا… فقط لمن استطاع إليها سبيلا!
- التفاصيل