نبيل شبيب 
مسار الثورة الشعبية في عنق زجاجة اللعبة الدولية فإمّا الخروج منها أو الاختناق فيها 
ما هو النصر المطلوب؟.. - كيف يصل الشعب الثائر إلى النصر الحقيقي؟ - ما الذي يُصنع الآن على حساب مسار الثورة؟.. - معيار الإخلاص للثورة - المرحلة الانتقالية
جميعنا -في قلب الثورة وحولها- في حاجة إلى حديث واضح وصريح، ومتوازن أيضا، أي لا يتأرجح بين مفعول ما لا يطاق من المعاناة، ومفعول استعجال نصر قادم حتما بإذن الله.. وهو حديث يتطلب التعبير الدقيق، فلا ينفع معه الإيجاز أو التلميح.
ما هو النصر المطلوب؟..
متى يمكن أن تضع الثورة أوزارها ويستأنف المسار الحضاري خطواته، كي تدخل سجلّ التاريخ كثورة منتصرة انتصارا حقيقيا وليس موهوما على غرار ما كان يجري تصويره من هزائم ونكبات؟..
هذه ثورة شعبية تاريخية، أهدافها من اللحظة الأولى هي: الحرية والكرامة والعدالة، ويجب أن تبقى هذه الأهداف ثابتة راسخة في سائر مراحل الثورة، حتى النصر، ولا يتحقق هذا النصر في حالة انقطاع المسار أو انحرافه أو تزوير مجراه قبل تحقيق هذه المطالب.. تحقيقا ناجزا. هذه ثورة.. وليست أزمة، أو مشكلة إقليمية دولية..
هذه ثورة شعبية.. وليست حربا أهلية أو طائفية ولا معركة حزبية أو بالنيابة..
هذه ثورة جذرية شاملة.. لا تقتصر على تحقيق متطلبات معيشية دون غيرها وإن كانت من الضرورات القصوى.
إنّ كل درب ينطوي على التعامل مع هذه الثورة وينتقص من كونها شعبية جذرية شاملة، هو انحراف عن مسارها، يمكن أن يبدأ صغيرا أو تحت مفعول التمويه والإغراءات، ثم يتسع الرتق فلا تنفع جهود تصحيح المسار، فالقاعدة تقول: علاج النكسة، وهي هنا: الانحراف، أصعب من استئصال المرض الخبيث، وهو هنا: الاستبداد المحلي والتبعية الأجنبية.

كيف يصل الشعب الثائر إلى النصر الحقيقي؟
كلّ ثورة.. لا سيما الثورة الشعبية في سورية، تصنع هي معايير جديدة للتعامل معها، تسري على ما بعدها، ولا يمكن إخضاع مسارها لمعايير كانت سائدة قبلها، فروح الثورة هو التغيير عبر إسقاط تلك المعايير وما ينبثق عنها من أساليب رسّخت من قبل الاستبداد المحلي والتبعية الأجنبية لعشرات السنين.
وفي إطار معايير الثورة لا ينبغي الخلط بين:
(1) منطق الثورة القائل بتحقيق هدف بعد هدف عبر استمرارية الثورة وعدم إفلات الشعب الثائر لزمامها..
(2) الخداع المتمثل في زعم من يزعم قابلية تحقيق نصف هدف أو ربع هدف ليساوم على هذه الصيغة أو تلك من صيغ "المرحلة الانتقالية" وفق ما تراها القوى الإقليمية أو الدولية، وكأنها حريصة جدا ومخلصة فعلا لهذه الثورة العملاقة، التي تركت شعبها ينزف عشرين شهرا (حتى الآن)..
وفي هذه الأيام بالذات -والكلام موجّه للثوار صنّاع هذه النقلة التاريخية لصناعة المستقبل- وصل مسار الثورة إلى ساعة فاصلة هي بالذات تلك التي توصف بمقولة: إنّما النصر صبر ساعة!.
إنّ ما يُصنع الآن، في هذه الساعة الفاصلة، يترتّب عليه مستقبل سورية وشعبها ومستقبل المنطقة على الأقلّ إلى حدّ بعيد..
ما يزال زمام الثورة بأيدي الثوار، ولا يوجد أخطر من أن يفلت الزمام من أيديهم الآن، في هذه الساعة، أي قبل الوصول إلى الأهداف العزيزة الجليلة.
يجب الآن وضع النقاط على الحروف دون مجاملة، فليست القضية قضية فلان وفلان أو هذا الحزب أو تلك الجماغعة، بل هي قضية الوطن والشعب والأمة والمستقبل، ولا يحتمل التعامل معها، مجاملة، ولا تمويها، ولا القبول بمعايير ما قبل الثورة، أي معايير استمرار الاستعباد الداخلي لعقود والتبعية الأجنبية لعقود وعقود، للتحكّم بمسار الثورة التي تفجّرت ليسقط الاستبداد الداخلي، ولتُستأصل التبعية الأجنبية نهائيا.
1- لن تنتصر الثورة إلا اعتمادا على الثوار والشعب الثائر وفق شعارها الأعظم: يا ألله ما لنا غيرك يا ألله، وهو الشعار الذي يعني، أنّ الله ينصر من ينصره، ولا تكون نصرة الله عبر طلب النصر من سواه.. ولو كان المرء (مسلما وغير مسلم!) في مثل وضع الأحزاب حول الخندق أو وضع من يستعجل الغنائم من فوق جبل أحد، أو من تغريه كثرة تعداده وقدراته الذاتية على النصر في ميدان المعركة في حنين.
2- كل عون مشروط يأتي حاليا عبر قنوات سياسية أجنبية، أو عبر قنوات تتحكم في معظمها القوى والسياسات الأجنبية، مباشرة أو عبر القوى الإقليمية.. وبعض هذا العون يأتي "خشية" أن تنتصر الثورة الشعبية دون أن يكون لأحد منّة على الثوار والشعب الثائر، أي دون أن يكون العون لمن يقدّمه "مدخلا" من المداخل التقليدية في اللعبة الدولية ما بين الهيمنة والتبعية.
3- ليس ذهبا ما يلمع من بريق عون ديمقراطي (باسم اليوم التالي تارة أو ورشات الإعداد للمرحلة الانتقالية أخرى.. ويمكن أن يحمل عشرات الأسماء المشابهة الأخرى) ممّا يجري التحضير له منذ شهور وشهور وبدأ يطرح الآن، في هذه الساعة "الحاسمة"، ساعة "وما النصر إلا صبر ساعة"، فيلبس لباس "البراءة.. أو المصالح المشروعة"، وليس فيه براءة قطعا، ولا يمكن وصف أي ميدان من ميادين فتح الأبواب أمام أي شكل من أشكال التبعية الأجنبية بأنه "مصالح مشروعة!".


ما الذي يُصنع الآن على حساب مسار الثورة؟..
إنّ ما يجري ترتيبه الآن هو لصناعة مرحلة انتقالية، بتوافق دولي وإقليمي، وبمشاركة من يقبل بشروط التوافق الدولي الإقليمي تحت عنوان "سوري، من ساسة وأحزاب وجماعات ومجالس (وحديثا بعض من يتحدث باسم تنسيقيات الثورة وهيئاتها).. وأوّل معالم هذه المرحلة الانتقالية التي تنحرف بمسار الثورة وتختطف نتائجها هو أن يتحكّم  فيها جزء من البقايا المسلّحة المتسلّطة للنظام المهترئ، بمشاركة شكلية -أي مجرّدة من القدرة على صناعة القرار المستقل وفرضه- من جانب بعض "السياسيين والثوريين" السوريين.
أصبح شعار/ مطلب "توحيد المعارضة" يعني على أرض الواقع: جمع أكبر عدد ممكن ممّن يتكلمون باسم المعارضة والثورة ليحملوا على كواهلهم هم وزر "توافق دولي إقليمي" لا يحقق الهدف المحوري للثورة: استقلال إرادة الشعب الثائر استقلالا ناجزا دون قيد ولا شرط.
إنّ خشية قوى إقليمية ودولية أن يتحقق الانتصار ذاتيا فتصبح سورية المستقبل خارج نطاق ما اعتادت عليه "لعبة الأمم الدولية"، هو الذي يجعل هذه اللحظة الحاسمة تشهد مضاعفة الجهود المبذولة على طريق تزييف مسار الثورة، فتشمل:
1- ما ينشر بزعم أنه تسريبات أو يصنع بتسليط أضواء الإعلام بصدد هذا المنشق "البريء" أو ذاك من بين أعمدة الاستبداد والفساد سابقا، حتى وإن لم تتلوّث أيديهم بالدماء أثناء الثورة، ليكونوا هم المرشحين لمواقع "أعمدة الديمقراطية والشفافية!" لاحقا..
2- ما يجري تسويقه باسم "نموذج الحل اليمني"، وباسم "توافق جنيف الدولي"، و"المجموعة الرباعية"، وجنود أو مراقبين دوليين.. والحبل على الجرّار، ولا يقطعه استمرار ارتقاء الشهداء إلى العلياء واستمرار المعاناة على الأرض.. وزيادة جرعات الإجرام مع كل مبعوث أو مبادرة أو "هدنة"..
3- ما يوصف بمشاريع التأهيل (المجاني) للشعب السوري كي (يفهم) ما تعنيه الحرية والديمقراطية، وباعتباره عاجزا دون (ورشات المرحلة الانتقالية) عن معرفة ما يجب أن يصنعه في (اليوم التالي) لسقوط الاستبداد الهمجي..
4- احتفاء ضخم بتوحيد المعارضة (مهما كان هذا التوحيد هشّا أو ناقصا أو منحرفا) وقد بات هذا المطلب، هو المدخل من أجل نقل (المشروعية الثورية) لصناعة مستقبل ما بعد الثورة، وفق معايير ما بعد الثورة، إلى أيدي (مشروعية زعامة سياسية) تتحرّك سياسيا وماليا -وليس ثوريا وتاريخيا- وفق ما ساد من فكر ومعايير وتحالفات وصراعات في (عصر ما قبل الثورة) وتجمع ما بين "وجوه محلية" و"قواعد عمل أجنبية دولية"، ومحاولات لا تنقطع لربط بعض عجلات الثوار بها، بعيدا عمّا تقتضيه (المشروعية الثورية).

معيار الإخلاص للثورة
إنّما النصر صبر ساعة.. ونحن في قلب هذه الساعة الحاسمة.
إنّ المعيار الحاسم للإخلاص للثورة هو التمسّك الثابت بالوصول عبر معايير الثورة إلى وضع يتحقق فيه هدفها المحوري: الحرية والكرامة والعدالة، وهو الوضع المشروع الوحيد المتمثل في استلام الشعب وحده، زمام صناعة القرار كلّه، دون أي قيد أو شرط، أو عبث سياسي، أو تمويه مخادع.
بعض المخلصين يردّدون هذه الأيام ما يقوله -ويعمل من أجله- "غير المخلصين" ممّن يتربّصون بهذه الثورة وشعبها الثائر الدوائر، ويريدون سوقها في اتجاه يخدم أهدافهم وليس أهداف الثورة، وما يسمّى مصالحهم وليس مصالح الشعب الثائر، وهم لا يملكون بأنفسهم زمام الثورة رغم أدوات "الإغاثة والمال والسلاح" التي يعملون على ضبط قنواتها والتحكّم بمسار الثورة من خلال فتح صنابيرها بقدر، وإغلاقها بحزم، ممّا لا يراعي إلاّ ولا ذمّة ولا معايير إنسانية أو "قانونية دولية".
ولأنهم لا يملكون زمام الثورة مباشرة يلجؤون وفق ما اعتادت عليه اللعبة الدولية إلى من يتبع لهم من مرتكزات التبعية -سيّان ما السبب وكيف يعلّل لنفسه ما يصنع- ويلجؤون أيضا إلى من يماشيهم كارها تحت ضغط المعاناة، والحاجة، أو نتيجة توهّم أنّ هذا هو طريق الصواب: "نماشيهم الآن ونستكمل طريق الثورة غدا!".. ولا يستشعر من يقول ذلك ما يعنيه من مخاطر، فالثورة لا تصنع صنعا، بل تنفجر انفجارا، ولن تنفجر مرة أخرى بسهولة، إذا تمّ التسليم بتوقف مسارها قبل بلوغ الهدف الأكبر الذي قامت من أجله: حرية ناجزة لإرادة الشعب الثائر دون قيد ولا شرط.


المرحلة الانتقالية
هذه "الجهود" التي يجب وصفها بوضوح: جهود اختطاف نتائج الثورة والانحراف بمسارها، بات يوجد من يسير معها من قلب الثورة أيضا، معتقدا أنّه لا بدّ من الاعتماد على "عون الآخر، السياسي وغير السياسي".. وهنا ينبغي أن نربط هذا السلوك بنتيجة ما تراكم من أثقال عبر ما صنعه الاستبداد القمعي على مدى جيلين متتاليين حتى أصبح "الإنسان" (من مختلف الفئات وبنسبة عالية) معتادا أن يقاد لا أن يقود.
إنّ من صنع الثورة من قلب أثقال التيئيس المطلق من التغيير قادر على متابعة الثورة في لحطة الحسم التاريخية الحاضرة، رغم العوائق الكبرى، المصنوعة صنعا، ومن ورائها قوى إقليمية ودولية.
الثقة مطلقة بقدرة الشعب على متابعة الطريق حتى تصل الثورة إلى أهدافها دون انحراف ولا اختطاف..
أنتم من يحمل أمانة الثورة ووطنها، وأمانة الشعب وتحريره، وأمانة الأمة ومستقبلها.
انفجرت الثورة عندما كانت الأوضاع تقول بمعايير تقليدية عتيقة: الثورة مستحيلة.. ولكن انفجرت عبر الإرادة والعزيمة.
وقد أنجزتم في مسار الثورة ما يقول عنه أسرى المعايير التقليدية العتيقة: هذه إنجازات مستحيلة التحقيق.. ولكن تحققت عبر التضحيات والبطولات.
أنتم من فرضتم بمعايير الثورة وليس بتلك المعايير التقليدية العتيقة واقعا جديدا، يخشاه من لا يريد أن تتحرر الشعوب والأوطان من موبقات تلك المعايير وما صنعته عبر عشرات السنين الماضية..
الشعب يريد إسقاط النظام، ولكنّ الثورة الشعبية لا تنتهي بسقوط النظام.. ولطالما رددتم أنّه الهدف الأول وليس الهدف الاخير على الطريق.
المرحلة الانتقالية لا تحمل الشعب الثائر المنتصر إلى "الهدف التالي" إلا إذا أمسك بزمامها الثوار والقادة الذين تصنعهم الثورة نفسها، وليس عبر وضع مقاليد الثورة، أو مقاليد السلطة، أو مقاليد صناعة القرار -سيّان ما هي التسميات فالحصيلة واحدة- في أيدي أي جهة أخرى، جزئيا أو كليّا.. ولو صدقت نوايا "العون البريء" لما بلغ عدد الشهداء والجرحى والمشردين والمعذبين والمختطفين ما بلغ حتى الآن!..
الثورة تصنع المرحلة الانتقالية.. ولكن المرحلة الانتقالية ليس هي الهدف فمن يوقف عجلة الثورة الآن يضع عوائق جديدة في وجه الهدف الحقيقي المحوري للثورة.
المرحلة الانتقالية بوابة إلى ما يليها.. وكلّ انحراف صغير أو كبير، وكلّ ثغرة متعمدة أو ناتجة عن نية حسنة كما يقال، وكلّ خطوة في اتجاه خاطئ باسم حلول وسطية.. ومصالح متبادلة (وهي غير متبادلة) وما شابه ذلك، إنّما هو معول يهدم ما صنعته الثورة حتى الآن.. في ساعة حاسمة، هي الأخطر من جميع ما سبقها، لأن ما يجري فيه يمكن أن يقضي على ثمرات ما سبقه من تضحيات، بدلا من أن يصنع ما بعده من أهداف مشروعة عزيزة جليلة.
لهذا يجب أن يكون شعار الساعة: إنما النصر صبر ساعة، وأن يتضح أن المقصود هنا لا يقتصر أبدا على مظااهرة سلمية أو جولة مسلّحة، بل المقصود:
ممارسة سياسة ثورية.. ووضع مخططات ثورية.. واستلام الأيدي الطاهرة، التي تباركها الثورة، لكل خطوة من الخطوات ومهمة من المهمات، في طريق وضع لبنات العمل الأهلي/ المدني لبناء المجتمع والدولة.
ويقول الماضون على الطريق الآخر:
- أين المشروع البديل؟..
ولو كان السؤال استفهاميا فالجواب موجود، ولكنه استنكاري تعجيزي، ويعلم طارحوه أنّ مشاركتهم فيه بدلا من مشاركتهم في المشاريع المشبوهة شرط من شروط تحقيقه ولكن لا يفعلون.. إنّما يطرحون السؤال بغرض التيئيس من كل جهد يبذل خارج نطاق الطريق المشبوه الذي يتوهّمون صحته، أو يسلكونه رغم العلم بعواقبه.
طريق النصر الحقيقي صعب عسير يتطلب جهودا مذهلة..
ولكن شعب سورية قادر عليها اعتمادا على أبناءه في الوطن وفي كل مكان.. فقد صنع ثورة مذهلة، ويجب أن يصنع نظرا مذهلا ومستقبلا مذهلا..
وإنما النصر صبر ساعة.
ويوجد المزيد مما يمكن أن يقال أو يجب أن يقال ويأتي في حينه إن شاء الله.


JoomShaper