الشيخ عبد المجيد البيانوني
عضو رابطة العلماء السوريين
العظماء الأخفياء يقول الناس عنهم : الجنود المجهولون ، وأقول عنهم : إنّهم العظماء الأخفياء .. إنّهم الذين أحكموا صلتهم بالله ، وتجرّدوا عن أهواء النفس ومطامع الدنيا ، فلا يحبّون الظهور ، ولا يسعون إلى الأضواء ، ولا همّ لهم إلاّ العمل بطاعة الله ، وبلوغ مرضاة الله ..
العظماء الأخفياء هم الذين تأبى عليهم هممهم أن يشتغلوا بالسفاسف والدنايا ، لا يدّعون ولا يتبجّحون ، ويعملون أكثر ممّا يتكلّمون ، ويعملون بصمت ، ولا يشغلون أنفسهم ولا أوقاتهم بالجدال ، وكثرة القيل والقال ، وتسليط أسهم النقد بغير بيّنة ولا برهان ..
العظماء الأخفياء هم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم ، ويصبرون على أشدّ البلاء ويحتسبون ، ويتجلّدون ولا يستكينون .. ويحملون الأمانة بصدق ، ويتحمّلون المسئوليّة باقتدار ، ويكثرون عند الفزع ، ويقلّون عند الطمع ..
لقد علّمنا التاريخ أنّ ثورات المبادئ الحقّة لا بدّ لها أن تقدّم نماذج فذّة من المواقف الإنسانيّة والأخلاقيّة ، التي تكشف عن شرف مبادئها ، وسموّ مقاصدها ..

ولقد دأب أكثر الناس على أن تبهرهم الصور الظاهرة ، التي تبرز للعيان ، والمواقف التي تسلّط عليها الأضواء ، ولا يكلّفون أنفسهم عناء البحث والتحرّي عمّا سوى ذلك ..

بهر العالم وشهد وأقرّ أنّ « الشعب السوريّ هو محضن الثورة » ، وأقول : « إنّ الشعب السوريّ هو محضن الثورة .. والمرأة السوريّة هي محضن الشعب والثورة » هي محضن الطفل والشابّ ، والرجل والشيخ .. هي راعية البيت وحافظة العهد ، هي الداعمة المؤيّدة ، والصابرة المحتسبة .. تعمل بدأب بعيدة عن الظهور والأضواء ، فعملها أبعد عن حظوظ النفس والرياء ..

نعم ! المرأة هي محضن الثورة والشعب .. إنّها حقيقة ظاهرة للعيان ، لا تقبل الجدل والمراء ، ومن ثمّ فقد كان حظّها من إجرام الطاغية وزبانيته ، وتسلّطهم وعدوانهم لا يقلّ عن حظّ الرجل ، وربّما فاقه في بعض المواقف .. وحقّ لهنّ أن توجّه الأنظار إلى تضحياتهنّ ، وأن تخلّد أخبارهنّ في سِفر ، وتوثّق مواقفهنّ ، ليكُنّ أسوة حسنة لمن بعدهنّ ..

لقد قدّمت المرأة في سورية خنساوات ، بهرن العالم بتضحياتهنّ وصبرهنّ ..

طوبى لهنّ خنساوات سورية ، وما خنساوات سورية .! حلّقت أخبارهنّ في سماء المجد ، وفاقَت أخبارَ خنسائنا الأولى ، بعدما كانت لهنّ المثل الأعلى ، وكنّا نظنّ أن لا يأتي الدهر بمثلها .. وهذه بعض المشاهدات والمشاهد :

امرأة في الثمانينات من العمر ، رأت في هاتين السنتين من البلاء ما لم تره في حياتها كلّها .. فقدت اثنين من أبنائها ، وخمسة من أحفادها ، وكتب عليها الخروج من قريتها ، تحت نيران القصف والقنص والدمار .. تعيش اليوم في خيمة اللجوء مع اللاجئين صابرة محتسبة ، تقضي جلّ وقتها في خيمة المسجد ، مع القرآن الكريم ، الذي حرصت على حمله في رحلتها .. تنتظر الفرج والنصر بفارغ الصبر .. سألناها : ماذا تفعلين يا خالة .؟ قالت : « كما ترون ! أقرأ القرآن ، وأدعو للثوّار ، وأدعو على بشّار .. الذي قتل رجالنا ، وخرّب ديارنا ، وشرّدنا عن بلادنا .. » .

وبنات في عمر الزهور ، لم يتجاوز عددهنّ أصابع اليد الواحدة ، يشكّلن تجمّعاً خاصّاً بهنّ ، يسمّينه : « فتيات سورية الحرّة » ، يكتبن الشعارات الثوريّة على الأوراق ، ويصنعن الأعلام ، ويرسمن الصور المعبّرة عن الثورة والمظاهرات ، ويقدّمن ما يصل إليهنّ من الأموال للإغاثة وللجيش الحرّ .. والسؤال الذي اختلفن فيه : ما هو أثوب لنا عند الله : دفع المال للإغاثة ، أم للجيش الحرّ .؟ وقالت إحداهنّ بكلّ صدق وبراءة : كلّما رأيت طفلاً من أطفال سورية مقتولاً تمنّيت أن أكون مكانه . فقلت لها : لماذا .؟ فقالت : لأنّه سيدخل الجنّة .. فقلت في نفسي : ما أصدق ـ والله ـ قول الشاعر الجاهليّ في أطفالنا :

إذا بلغَ الفِطامَ لنا صَبيٌّ                                     تَخِرُّ له الجبابِرُ سَاجدينا

وليتعلّم الأذلاّء الخانعون معنى العزّة والرجولة ، والشرف والمروءة ..

وأمّ تحثّ أبناءها السبعة على الخروج في المظاهرات السلميّة ، واحداً بعد الآخر ، وتعلن لهم أنّها على استعداد أن تتقبّل التهنئة كلّ يوم بشهيد منهم ، ولكنّها يصعب عليها أن يستشهدوا في يوم واحد ..

وأمّ لا تقبل التعزية باثنين من أبنائها ، وتقول : إنّ الله شرّفني بشهادتهم ، وقد تكرّر مثل هذا الموقف من عدّة أمّهات ..

وزوجة كانت ناعمة مترفة ، لا تعرف إلاّ البحث عن الزينة ورفاهية العيش ، يحدّثها زوجها عن فضل الجهاد في سبيل الله ، ورغبته فيه ، لنصرة الدين والدفاع عن المستضعفين ، فتنقلب حياتها إلى امرأة لا همّ لها إلاّ الله والدار الآخرة ، وتشجّع زوجها على الجهاد وتحثّه ، وتقول له : امض لما تريد ، ولا تحمل أيّ همّ عليّ أو على أولادك ، فسأقوم عليهم بما يرضي الله ، ويقرّ عينك ..

ومواقف كثيرة من زوجات صالحات شجّعن أزواجهنّ على المضيّ في طريق الجهاد ، وكنّ خير عون له على ذلك .. وهل للرجل أن ينجح في عمله ويبدع ، إن لم يكن وراءه سند يؤّيده ، ويشدّ من أزره .؟!

إنّا لنرجو من الله أن تكون هذه الثورة مبتدأ ثورة حضاريّة لهذه الأمّة ، تضع قدميها على سكّة السبيل القويم ، والمنهج الحقّ ، وتعيدها سيرتها الأولى في حمل لواء الهدى والرحمة للعالمين ، وتلك أعظم مهمّة في حياة البشريّة ، فلا عجب أن تكون دونها ابتلاءات كبرى ، وتضحيات جسام ..

وقد كانت هذه الأمّة على مدار تاريخها ، بعقيدتها الحقّة ، ومنهجها النبويّ الرشيد ، محور تلك الابتلاءات والتضحيات ، وقدّمت أروع النماذج في الذود عن حياض الحقّ ، وصون الحرمات ..

ولا يعني هذا الكلام أنّي أبرّئ هذه الثورة من الأخطاء ، وأتجاهل السلبيّات ، ولكنّني أريد أن أقول لأولئك المتجاهلين لصورتها الوضيئة ، المتصيّدين لعثراتها ، الذين يبحثون عن الأخطاء والسلبيّات ليضخّموها ، وينشروها على الناس ، وليبرّروا لأنفسهم التقاعس عنها ، والقعود عن نصرتها ، أقول لهم : رويدكم أيّها الناس ! فالثوب الأبيض لا يغيّر لونه بضعة نقط سوداء ، والماء العذب لا يعكّر صفوه بعض الأقذاء ، والمصلح المهديّ لا يصدّه عن الإصلاح العلل والأدواء ..

أيّها الناس ! لقد هبّت ريح الإيمان على بلاد الشام ، فطوبى لمن تعرّض لنفحاتها ، وحمل لواءها ، أو كان من جندها .. فإنّ جند الله هم الغالبون .

JoomShaper