بقلم: د. سماح هدايا
من بين النيران كان الطفل يزحف، تلسعه ألسنة النيران. وكانت هي قادمة من بعيد تركض بجنون. مرّت بجاتب البيوت المحروقة. وكانت كالفرس المذعورة تنهب الأرض بقدميها نهبا، تهرب من عصابات العسكر المجرمة التي أبادت أهلها وفعلت بالحي والنسوة ما فعلت.. كانت تركض لتصل هناك، ويسيل بين قدميها وجع شديد، وتدوس عليه. اغتصبها واحد من أوغاد العسكر وحبسها مع أخريات؛ لكنها هربت مع الناجيات المتبقيات.،عندما هجم رجال الثورة، ودارت المعركة. كم تمنت لحظتها لو كان معها سلاح فتاك. كانت ستقتل كل الذين اقتحموا بيتها وقتلوا أهلها. وكانت ستحشو ألف رصاصة بصدر الذي اغتصبها.
المشاهد البشعة تهاجمها لكي تفهرها بوجعها؛ لكنها تهرب من دمعها وصراخها إلى الفضاء خارج الذاكرة. كأنما تؤجل مراسيم الحزن لزمن آخر. وفجأة لما رأت الطفل الوحيد الناجي من الحريق والقصف والخراب، يتمسك مثلها بالنجاة وبقايا الحياة، حملته بكل لهفة وحرص بين ذراعيها. ضمته إلى صدرها وقبّلته لا تدري كيف حملته وكيف لانت شفاهها المتيبسة فقبلته . لكنها ضمته بحب إلى صدرها. وأطفأت النار التي في ثيابه بجسدها…وتابعت الركض وهي تشد الطفل الباكي الذي لا تعرفه إلى صدرها.
الرصاص. النار. القذائف. كل شيء كان في الطريق مخيفا. الخوف هو الشيء الوحيد الذي كان يعطيها القوة، لمواجهة الخوف وصرعه، دفاعا عن حياتها وحياة المولود الجديد. لذلك تحولت إلى قردة تركض من مكان إلى مكان. تقفز من بيت إلى شجرة. إلى أرض. إلى بثر ماء. وتختبىء خلف جدار أو ركام. والطفل بين يديها. وتحولت إلى لبؤة تريد أن تفترس من في طريقها لتحيا هي والطفل. كان الدمار واسعا والحرائق مشتعلة. والطيران لا يرحم. يقصف في كل مكان. وعصابات العسكر تهاجم أينما تستطيع. البرد يشتد والمطر يتساقط والطفل الموجوع يبكي. مسحت حروق قدميه ويديه بزيت ضال عثرت عليه. الطفل يحتمي بها. لا أم له الآن إلا هذه الغريبة. يدفن رأسه في صدرها. وهي تتمنى لو في صدرها حليب لكي تسقيه. ورأت مواكب المنكوبين. مئات ومئات من المشردين والهاربين والجائعين والجرحى. ونامت في العراء بين الخراب من البيوت وبين المحروق من الشجر. وأطعمت الطفل من بعض تين تبقى فيما تبقى من شجر. وتابعت في الصباح مسيرها العاري من رحمة البشر.
ووصلت أخيرا إلى حاجز لرجال الثورة. أوصلوها إلى معبر حدودي. وهناك…كانت مئات النسوة، وربما آلاف، جالسات ينتظرن كسرة رحمة وشربة أمان وخيمة لجوء وتصريح عبور. وعبرت مع العابرين. وسمعت وهي في الحدود مثل غيرها من السامعين والمنكوبين، آخر الاخبار من شاشة في المعبر الحدودي. “المعارضة تختلف. بعض المعارضين ينسحبون. المعارضة تأتلف…المرشح الفلاني يفوز… التيار العلاني يربح…وذلك الاسم اللامع يخسر” وسمعت… أيضا أن أسماء النساء سقطت سهوا من كل صناديق المقترعين, وأن المعارضين لم يثقوا بأصوات النساء. فأصوات النساء عورة لا تليق بالثورة حتى عند الليبرالين والعلمانينن واليساريين كما عند اليمينيين.
لم تفهم شيئا كثيرا مما سمعت؛ وأحسته خارج جرحها النازف؛ لكنها كرهت ما سمعت… تابعت مسيرها فوق الأنين الذي يذوب عميقا في الغظام. والعين يودع دمعها مشهد مأساتها هناك في الرماد، بوعد غاضب أحمر. وأقدامها تتجه إلى الأمام صامدة فوق وجع الدرب ووجع الساقين والفخذين والسرّة. وذراعاها تحتضن الطفل الذي تبرق عبناه وتردد شفتاه حروفا جديدة…وفمها يكوّم بصاقا كثيفا تبصقه من بعيد على شاشة التلقاز…وكان حت أقدامها يولد الطريق وتتناسل الأزهار
د. سماح هدايا
وتحت أقدامها يولد الطريق وتتناسل الأزهار . .
- التفاصيل