عبد الكريم بدرخان
في يوم 25/10/2009 التقيتُ بـ طلّ الملّوحي لأول مرة، وكان ذلك على باب اتحاد الكتّاب العرب في حمص. إذ كان في الاتحاد محاضرةٌ للناقد الكبير (حنّا عبّود) عن الأنماط الأولية في الأدب، وكانت طلُّ جديدةً على حمص، بعد أن عاشت معظم حياتها في مصر. كيف أصفُ لكم طلّ الملّوحي؟.. وهي شعلةٌ من الثقافة والحيويّة والنشاط؟!.. طلبتْ مني أن أعرّفها على أدباء حمص وصحفييها، وخلال فترة قصيرة.. أصبحتْ طلُّ تعرف الجميع، ويعرفها الجميعُ، حتى صرتُ أنا أطلبُ منها أن تعرّفني على الأشخاص.
جاءتْ طلُّ إلى سوريا، حاملةً ثقافةً ووعياً يفوقان عمرها بكثير، ورغبةً في تغيير كلّ شيء، من العادات الاجتماعية، إلى الطُغمات الثقافية، إلى الأنظمة السياسية. نالتْ الشهادة الثانوية من مصر، لكن النظام لم يعترف لها بشهادتها، ولم يسمح لها أن تسجّل في الجامعات الحكومية، فاضطُرّتْ أنْ تعيد الثالث الثانوي في سوريا، وتدرس بنفس الوقت.. العلوم السياسية في إحدى الجامعات الخاصة. كان وقتُها ينقسم بين الدراسة للشهادة الثانوية، والدراسة في كلية العلوم السياسة، بالإضافة إلى سعيها الدائم إلى تثقيف نفسها، ومتابعة كافة الأنشطة الثقافية في المدينة. وكثيراً ما كانتْ تنزعج من وجود عنصر أمن الدولة، الذي يحضر كافة نشاطات اتحاد الكتّاب ورابطة الخريجين، ويسجّل كلّ شاردة وواردة، ولم تخفِ طلُّ انزعاجها أمام أحد.
أخبرتني مرّةً.. أنها معجبة بشخصية الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما، وأنها تنوي أن ترسل له رسالةً عبر البريد الإلكتروني، لتطلبَ منه أن يغيّر سياسة أمريكا تجاه العرب، وأن يسحب قوّاته من العراق، وأن يمنع إسرائيل من مواصلة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية. كان كلامها ضرباً من الخيال، في زمنٍ كنا فيه أمواتاً ليس أكثر، لا نفكّر بفعل شيء، أو تغيير شيء. كنا مسالمين ومستسلمين لجميع قادتنا العرب والأجانب.

مع بداية العام 2010 .. اختفتْ طلُّ من الوجود، وأصبح هاتفها خارج الخدمة، أرسلتُ لها عدة رسائل إلى بريدها الإلكتروني، لكنا لم تجب. واستمرّ غيابها عدة أشهر، دون أن أجد تفسيراً له. كان بيتها في شارع الغوطة بحمص، وهو شارع رئيسي أمرُّ به كلّ يوم، وقد قادتني شكوكي وهواجسي لعدة أماكن بعيدة، ولعدة أفكار شريرة، فقد كنتُ أتتبعُ أوراق النعوات في شارع الغوطة، خائفاً أن أجد اسمها على أحدها. توقعتُ كل شيء، إلا أن تكون معتقلة عند أمن النظام، فماذا يريد النظام العتيد، صاحب الجيش العرمرم، وأجهزة الاستخبارات التي تعطي دروساً للاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية، ماذا يريد هؤلاء من فتاة عمرها 19 عاماً؟! هل يخافون منها؟!!

مصادفةً.. وأنا أتنقّل بين صفحات الفيسبوك، وجدتُ صفحة تحمل اسم (كلّنا طلّ الملّوحي)، وكان الخبر صاعقاً لي، فـ طلّ معتقلة منذ 27/12/2009 وأنا لا أعلم، وسبب الاعتقال هو مانشرته في مدوّنتها!، فتحتُ مدوّنتها فلم أجد فيها ما يستحق غضب السلطات!!. أنزلتُ رابط صفحة (كلّنا طلّ الملوحي) على صفحتي، وأرسلتُ دعوةً لجميع أصدقائي للانضمام إلى الصفحة، فقام نصفُ أصدقائي بحذفي من حساباتهم، فكيف لي أن أطالب باللإفراج عن معتقلة في فروع المخابرات؟! إن مجرّد التعاطف معها يشكّل جريمة لن تقلّ عقوبتها عن العقوبة التي أُنزلتْ بـ طلّ، فنحن في الأشهر الأولى من العام 2010 وليس هناك ربيع عربي ولا هم يحزنون.

ومصادفةً أيضاً.. التقيتُ بواحد من كبار المسؤولين في حمص، فوجدتها فرصة مناسبة لأحكي له قصة طلّ. وعندما أنهيتُ الرواية أجابني ناصحاً: (إذا سألكَ أحدٌ عنها، فقلْ أنكَ لا تعرفها، وليس عندكَ أيّ خبر عن اعتقالها. وأنتَ الآن قد أخبرتني بذلك، لكني أقول لكَ.. لم أسمع بها، ولم أسمع باعتقالها). في تلك الأيام.. كنا نعتبر أنفسنا رجالاً، ونمشي في الشوارع رافعي الرأس، ومشدودي الكتفين، كنا نصرخ في وجه أمهاتنا وأخواتنا، ونعذّب حبيباتنا لأننا رجالٌ فعلاً. لكننا لم نكن رجالاً بما يكفي.. لنقف إلى جانب فتاة مظلومة عمرها 19 عاماً.

بعد أن قامت منظمات حقوق الإنسان العربية والعالمية، بالمطالبة بالإفراج عن طلّ الملوحي، اخترعتْ لها المخابرات السورية روايةً مكسيكية، لم تكن الغاية منها تبرير فعل الاعتقال التعسفي، بقدر ما كانت رغبةً في تشويه سمعة هذه الفتاة، وإيذائها نفسياً واجتماعياً بعد إيذائها جسدياً بحبس حرّيتها.

في الشهر السابع من الثورة.. التقيتُ بوالدة طلّ الملوحي في مكتب محاميها. كانت الوالدة تبدو أكبر من عمرها.. بسبب الويلات التي مرّت عليها خلال عامين من اعتقال ابنتها، وقد طمأنتي أمُّ طلّ أن ابنتها على قيد الحياة، وأنها كانت تزروها كل أسبوع في سجن دوما للنساء. لكن المخابرات قد منعتها من زيارتها مؤخراً، وذلك لأن المتظاهرين يهتفون باسم (طلّ) في مظاهرات حمص. كانت أمُّ طلّ تحفظ ما قضته ابنتُها في السجن، وما عليها أن تقضيه لإكمال عقوبتها بالأيام والساعات. وأضافتْ أن وضع طلّ الصحي.. سيّءٌ جداً.

كان من المفروض أن يكون اعتقال طلّ الملّوحي هو الشرارة الأولى للثورة السورية، لكننا جبُنّا، وانتظرنا عاماً وثلاثة أشهر.. حتى تعلّمنا الحرية من أطفال درعا، وذلك بعد نجاح ثورتي تونس ومصر. إن أفضل ما نفعله من أجل طلّ وغيرها من المعتقلين، هو إسقاط النظام الذي سرق شبابهم، آملين أن يخرجوا قريباً، ويشاركوا في بناء وطنهم الذي يحتاجهم. لكن هل ستسامحنا طلّ الملّوحي على خذلاننا لها يوم اعتقلت؟ يوم قالت (لا) وكنا جميعاً نقول (نعم)؟!

JoomShaper