سوريا المستقبل*
موتها يحاصرني، عبارةٌ مشحونةٌ بوجعِ عامين، ألقتها بتول في قلبي، وركضت إلى خيمتها، دموعها تسبقها، ورفضت أن ترى أحداً. لكنني كنت مصرّةً على لقائها. انتظرتُ طويلاً أمام خيمتها، قبل أن تخرج ثانيةً لتحدّثني، قائلة: (أنا هنا مع بيت خالتي، أعيشُ معهم هنا، بعد أن فقدتُ عائلتي في قصفٍ همجيّ لطائرات النظام على بلدتنا، نزفت أمي أمامي حتى الموت، دون أن يستطيع أحدٌ انتشالها، وإنقاذها. يعذّبني مشهد موتها، فجسدها الغارق بالدماء، وعيناها اللتان كانتا تعتذران لي لأنها ستتركني وتمضي هي آخر صورةٍ أحتفظُ بها في ذاكرتي. يقتلني أن يمرّ عيدٌ آخر وهي ليست معي، أقبّل يديها، ووجهها. بل يؤلمني أكثر أنني لستُ قادرةً على أن أحمل لها الريحان لأضعهُ فوق تربتها. أتعلمين ما أرغب به الآن؟ إنني أتمنى لو أستطيع أن أكون شاهدةً وضعت فوق قبرها). قالت كلماتها هذه بصعوبةٍ بالغة. حاولتْ جاهدةً أن تنتشلَ تلك الجمل من بين شهقاتها التي تغصّ بحسرة الغياب. بتول ابنةُ السادسة عشرة، تشبه قصتها قصص فتياتٍ كثر في سوريا، فقدنَ أمهاتهنّ في فترةٍ هنّ أكثر ما يكنّ فيها بحاجةٍ إلى صدورهنّ الدافئة. ها هي بتول تجلس متشحةً بوجهِ أمّها، تأملُ أن يمرّ عيدُ الأم بالقربِ من خيمتها حاملاً معهُ تلويحةً منها.

وعلى مسافةٍ غير بعيدة، جلست أمّ محمود تغسل ملابس أولادها، وإلى جانبها طفلٌ رضيع وضعتهُ على قطعة من حصيرة مهترئة. أمّ محمود في العقد الرابع من عمرها، جاءت إلى خيام اللجوء مع زوجها، وأطفالها الأربعة بعد أن فقدت منزلها بسبب القصف، وأصيب زوجها بشللٍ في قدميه بعد إصابته بقذيفة. إنها تتجرّع حزنها وحسرتها، وهي ترى أطفالها هنا وقد تركوا منزلهم، ومدرستهم، ولا يلقون أية رعاية أو اهتمام. يلوكها الأسى في اليوم آلاف المرات، وهي تراقب زوجها على كرسّي العجلات يغالب ألمه وقهره، كي لا يشعرهم بعجزه الذي باتَ عليه. كانت منهمكة بالغسيل، بينما شفتاها لم تتوقفا عن الدعاء لحظةً واحدة على من كان سبباً في ما آل إليه حالهم. استغربت أمّ محمود سؤالنا لها عن أمنياتها في يومها هذا. فعنّ أيّ عيدٍ نتحدّث في هذه الحرب التي أهلكت البلاد، وأيّةُ أمنياتٍ سيحملها القلب، ونحن نرى بلدنا يتمزّق، وأهلنا يقتلون. إنّ العيد الحقيقي بالنسبة لنا نحن السوريات الآن كما تقول أم محمود: هو أن يحمل إلينا أبناؤنا في الجيش الحرّ نبأ سقوط المجرم، أو قتله. هذا ما نحلم به في هذا العيد الذي أمسى غريباً عنّا.

أجل غريباً عنهنّ. إنّه العيد الثاني لأمهاتنا في سوريا، يمرّ كالغريب بالقربِ من قلوبنا. يتسلّل متخفياً من بين الرّكام وصور الخراب، خوفاً من أن تقنصهُ رصاصة، أو تغتالهُ قذيفة. يمدّ العيدُ يداً من بنفسجَ إلى أمهاتنا ليمسحَ عن وجوههنّ بقايا التعبِ والحزن. تجوّلنا معه بين خيامِ اللجوء، فتزاحمت أمامنا الحكاياتُ، والأماني. طالعتنا وجوهُ نسوةٍ حصدَ الألم ملامحها، فلم يبقِ إلا على عيونٍ تعدنا أنّ النصر آتٍ بإذن الله.

استوقفنا غناءُ امرأةٍ كانَ نشيجهُ يصلُ إلينا من بعيدٍ، كأنهُ وقعُ أنينٍ مشبوبٍ بالانتظار. توجهنا نحوها، إنها أمّ الأبطال كما يسميّها الجميع، امرأة ناهزت الستين من عمرها، يرشحُ وجهها صبراً وإيماناً وقوًّة، في حين ينبضُ غناءها حزناً ووجعاً. أمُّ عبد الله التي فقدت ثلاثة من أبنائها كانوا قد انضموا للجيش للحرّ بطلبٍ منها، فنالوا شرف الشهادة كما تقول أم عبد الله. إنها تغنّي لهم كما أخبرتنا، ترتّل لهم بصوتها رثاءً، وعزاءً علّه يصلُ أرواحهم الطاهرة، فتحلّق فوق رفاقهم المقاتلين على الأرض الآن، لتزيدهم صبراً وإصراراً على دحر الطاغية المجرم. فلمّا سألناها عما ترغب به في هذا اليوم، كانت الإجابة: (كلّ ما أتمناه هو أن يسقط هذا السفاح، ليرتاح أبنائي الشهداء، هذه هي هديتي التي أرغب بها).

تحلّقت حولنا النسوة أمام خيمة أم عبد الله، وجوههن ترفضُ أن تصبحَ علامةً لليأس رغم كلّ ملامح المعاناة، والألم التي تبدو مرتسمةً عليها. همساتهن تعالت في المكان، واستحالت إلى صوتٍ واحد أخبرنا: نحن كأمهاتٍ يزحفُ الحزن إلينا كلّ يوم، نار الطاغية سرقت منا أولادنا وأحلامنا. لقد أحرق بشار الأسد الفرح في قلوبنا، فحتّى هذا اليوم الذي كنّا نضمّ فيه أبناءنا إلينا أغرقه بالدماء، فلم يبقَ بيتٌ في سوريا إلّا وأصابه الأسى. إننا نبحثُ الآن عن هدايانا في بنادق الثوار، في انتصاراتهم على الأرض، كلّ جولةٍ في الميدان تأتي لصالحهم هي هديّة لنا، لذلك فنحنُ سنكون معهم جنباً إلى جنب نزيدهم عزيمةً، ويزيدوننا أملاً في النصر. إسقاط الطاغية، سيكون الهديةّ التي تفرح قلب كلّ أم في سوريا.

*نشر بتاريخ 2013/03/22 في جواهر سوريا

JoomShaper