بكر البعداني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وعلى صحبه ومَن والاه، أما بعد:
فإن إخواننا في سوريا يعيشون محنة عظيمة، تربو في أيامها هذه على السنتين، بل وتقارب الثالثة، والأنظارُ إليها وإلى أحداثها متطلِّعة، والأبصارُ إليها شاخصة، والنفوسُ من هولها واجمة، والقلوبُ من مغبَّتِها واجفة.
الكل يتساءل حول أحداث السيناريو وكيف ستجري؟ وما هو المشهد النهائي الذي ستنتهي به هذه المحنة؟! ومَن هم أبطال هذا العمل؟ وكيف ستكون نهايةُ الكافر الأفَّاك الأثيم وأتباعه وأعوانه، وإلى عدد المشاهد اللازمة له؟ إلى غير ذلك من التساؤلات.
مع تضارب الآراء، واختلاف التحليلات السياسية من هنا وهناك، والمسارعة إلى التدليل عليها من نُتَف الواقع المتناثرة يمنةً ويسرة، وكلٌّ يحاول أن يُدلِي بدَلْوِه، مع أنه يرتقي الصعب والذَّلول، ويتعسَّف في التدليل عليه وضم التعليق والشقشقة إليه، وهذا آخر ما يحتاج إليه إخواننا من أحرار الشام، إلا أننا في خضم هذا كله على يقين لا يخالطه شك، ولا يعتريه لبس، أن النصرة للمؤمنين، و﴿ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [هود: 49]: العاقبة في الدنيا؛ بالنصر والتمكين، وهذا وعد الله - عز وجل - والله - عز وجل - لا يُخلِف وعدَه، والعاقبة في الآخرة؛ بالجنة والنعيم والقرب من الملك العليم - عز وجل - كما أننا نعلم بأن المحنة يعقبها منحة، والألم يعقبه أمل.
يا إخوتي من أحرار الشام الكرام، لقد ضربتُم أروعَ الأمثلة الواقعية والمنقطعة النظير، مع قلة المُعِين والنصير، وكثرة الأعداء المتكالبين عليكم من كل حدب وصوب، والمتألِّبين عليكم من كل مرتفع وسهل، فلكأنهم الأَكَلة قد اجتمعوا إلى قصعتهم.
والله، وبالله، وتالله، إنه لا أحدَ له من الفضل عليكم والمنة إلا الله - عز وجل - وحده، فمع كل تلك العُدَّة وذلك العَدَد الذي يمتلكه أهل الباطل، إلا أنكم ضربتم أروع الأمثلة في الثبات.
والله لا تزال تلك الكلمات التي تردِّدونها، وتهتفون بها - تدوِّي في كل البقاع، وتتعالَى في كل الأصقاع، ولكأني بها تزلزل قلوب العدو، حتى إنه ليجعل إصبعه في أذنه؛ خوفًا من بطشها، ورهبةً من مغبتها.
وهي قولكم: يا ألله ما لنا غيرك يا ألله، فيا ألله! ما أعظمها من كلمة، وما أصدقَها من عبارة!
يا إخوتي من أحرار الشام الكرام، لقد بِتُّم اليوم تعرفون جيدًا - كما لا يخفى عليكم - الصديقَ من العدو، والرفيق من المنافق، والصادق من الكاذب، وأن النصرة والتمكين لا تكون ولن تكون أبدًا - شئنا أم أَبَيْنا - إلا وَفْق الطريق القويم، والصراط المستقيم، الذي جاء به النبي الأمين - صلى الله عليه وآله وسلم - وسار عليه السلف - رضي الله عنهم أجمعين - فدونكم فالْزَمُوه، وعَضُّوا عليه بالنواجذ، ولا سيما وقد بِتُّم تعلمون جيدًا أيضًا أن العالَم لما تجلَّت محنتكم، أصبحوا جميعًا ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ [البقرة: 18]، لا يسمعون ولا ينطقون ولا يبصرون، وهم ومع أنهم يملكون وبقوة كل الآلات التي تؤهِّلهم للسمع والكلام والمشاهدة، لكنهم يتظاهرون بأنهم:
صم لا يسمعون، يتصامون عن صيحات الثَّكالى، وأنَّات الجرحى والمكلومين، وآهات اليتامى والمستضعفين.
وبُكْم لا ينطقون، يتخارسون عن قول الحقِّ، وإن نطقوا فلا ينطقون سوى بالتنديد والشجب، وطلب التحقق والتثبت، وفي أحسن حالاتهم - وما أسوأها! - بالتهديد الأجوف، والوعيد الأغلف.
وعُمْي لا يبصرون، يتعامون عن الخراب والفساد، والموت والدمار، والقتلى من الأطفال والشباب، والأعراض التي اغتصبت، والأرواح التي ذبحت وأزهقت؛ فهم ﴿ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ [الأعراف: 179].
في كل أُفْقٍ على الإسلام دائرةٌ يَنهدُّ من هولِها رضوى وثهلانُ ذبحٌ وصلبٌ وتقتيلٌ بإخوتِنا كما أعدَّت لتشفي الحقدَ نيرانُ يَستصرِخونَ ذوي الإيمانِ عاطفةً فلم يُغِثْهم بيومِ الرَّوعِ أعوانُ فاليومَ لا شاعرٌ يبكي ولا صحفٌ تحكي ولا مرسلاتٌ عندها شانُ هل هذه غَيْرةٌ أم هذه ضعةٌ للكفرِ ذكرٌ وللإسلامِ نسيانُ
يا إخوتي من أحرار الشام الكرام، لقد بات النصر منكم قابَ قوسينِ أو أدنى، ولقد استحققتموه عن جدارةٍ، كيف لا وقد قدَّمتم في سبيله كل غالٍ ونفيس؟ فراياتُكم عباراتها عبوديةٌ محضة لله - عز وجل - وجباهُكم لا تسجد إلا له جلَّ في علاه، وقلوبُكم معتمدة عليه، وأكفُّكم مرفوعة إليه، وقد عبَّدتُم طريق النصر بالكثير والكثير جدًّا من جُثَث الشهداء، ورصفتُم جنباته بسلسلة من فلذات أكبادكم، ممن هم في مستهلِّ أعمارهم، وزرعتم فيها نبتةَ الحرية، وأسقيتموها بالدماء العاطرة الزكية؛ ليقوى عودُها، ويصعب بعد ذلك كسرُها
وأريتم العالَمَ أجمع وبقوة، بصورة ليس لها سابقة، وهي واضحة كاشفة - وذكَّرتمونا سلفَنا الأول، الذين كنا إلى فترة قريبة لا نراهم إلا في كتاب، أو تحت تراب - ما يمكن أن يفعله المسلم ليستردَّ دينه المسلوب، وحريته المنهوبة، وعزَّته المكبوتة.
وسطَّرتم في مدرستكم أنتم - والتي نتشرَّف اليوم أن نكون من تلاميذِها، وجامعاتُ العالم اليوم تقفُ عندها مذهولة مدهوشة، لا يكاد يرتدُّ إليها طرفها - أن ليس ثَمَّة عذر لمسلم ألبتة اليوم في أن يخنع للعذاب والفتنة، فيترك دينَه ويقينه، ويرتد عن إيمانه وإسلامه، ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعَرَفه، وأنه ليس إلا إحدى الحسنيين: إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة.
فَلَنِعْم المنهجُ الذي سلكتموه في ردِّ الناس جميعًا إليه، وتربيتهم عليه، وقد كان وقع التقصير، بل والتضييع له سنين طويلة، وأعوامًا مديدة، غير أننا نرى معالِم عودةٍ رشيدة لكتاب الله - عز وجل - وسنة نبيِّه - صلى الله عليه وآله وسلم - تحوطُهما من جميع جوانبهما حفظًا وعملاً وتمثلاً لهما في واقعكم، وهذا سرُّ النصر، وتميمة التمكين - بإذن الله عز وجل.
لقد قطعتم شوطًا إلى النصر كبيرًا، وأنا على يقين أن ما بقي ليس بحجم ما مضى، وأننا شارفْنا على نهاية السيناريو الذي أراد أن يكتبه الكافر الأثيم، برؤية معاونيه من أهل الحقد الدفين، لكن هيهات هيهات أن تمضي الأمور كما يحبون أو يَشتَهون؛ فإن هذا من المحال ودونه خَرْط القَتَاد.
ولن تمضي هذه المرَّة كما يرجو المُخرِج، أو يؤمِّل الكاتب؛ لأن أبطال هذا العمل قد حدَّدوا أهدافهم، وباعوا للمَلِك العلاَّم أرواحَهم، وآثَرُوا الآخرة على الدنيا، وأحبُّوا لقاء الله - عز وجل - فأحبَّ لقاءهم وعجَّل بهم إليه، ومَن بعدهم يحذو حَذْوَهم، وهذه الروحة السامية، والهمة العليَّة، هي ما يفتقده ذلك الأفَّاك الأَشِر وأعوانه؛ لأنهم أخلَدوا إلى الأرض، فهم مقهورون مقموعون، واللهُ - عز وجل - ناصركم عليهم، ومنتقم لكم منهم، وإني أحذِّرهم سطوة أهل الشام وبطشهم، ففي الوحي منه الكثير، وهو من الشهرة بمكان، ولا تزال كلمات شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الكتب تنشر، وللأذان تقرع في ذلك، وكان منها: "وأما الشام، فلم يزل فيها العلم والإيمان، ومَن يقاتل عليه منصورًا مؤيدًا في كل وقت وآن، فهذا هذا، والله أعلم".
والله يا إخوتي من أحرار الشام الكرام، إن الله صادقُكم وعْدَه وناصرُكم، وسيعزُّ جندكم، وسيهزم ولا بد عدوَّه وعدوكم، فأمِّلوا وأبشِروا بنصر الله - عز وجل - وبحسن عاقبته: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139].
يا إخوتي من أحرار الشام الكرام، لكأني بأبوابِ السماء قد فُتِحت لجثث شهدائكم، كيف لا، وأنتم قد أظهرتم الحق، وأعليتم راياته، وأقمتم عمود الشام بعد مَيْله واعوجاجه، وثبَّتم لواء الدين بقوة، فلا يُخشَى بعد ذلك اقتلاعه؟! فأسال الله - عز وجل - أن يتم نعمة النصر عليكم، ويجمع قلوبكم على الحق والإيمان، ويوحِّد أبدانكم على جهاد أهل الطغيان، ويجعل هذه المنة الجسيمة، مبدأً لكل منحة كريمة، وأساسًا لإقامة الدعوة النبوية القويمة، ويشفي صدوركم من أعاديكم، ويمكِّنكم من دانيهم وقاصيهم، وأن يكلِّل جهودكم بالفلاح والنجاح العاجل والآجل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
يا إخوتي من أحرار الشام الكرام
- التفاصيل