د. محمود نديم نحاس
لم أقم ببحث حقيقي عن روزا باركس. وما أكتبه عنها هنا هو مما حفلت به صفحات الإنترنت دون التحقق من تفاصيل قصتها. إنها الأمريكية السمراء التي استطاعت بإصرارها أن تغير عُرفاً أمريكياً. كان ذلك في الخمسينيات من القرن الماضي حيث كان على الإنسان الأسود أن يقدم مقعده في الحافلة لأي شخص أبيض واقف. لكن روزا العائدة من عملها وهي متعبة في إحدى أمسيات الشتاء جلست في الحافلة ورفضت أن تقدم مقعدها لرجل أبيض، وتحملت كل النظرات الغريبة والكلمات النابية التي وجهها إليها البيض في الحافلة. أما السائق فتوجّه بالحافلة إلى مركز الشرطة حيث تم التحقيق معها وتغريمها نظير تعديها على حقوق الآخرين!
كانت النتيجة أن قاطع السود الحافلات وطالبوا بحقوقهم، وامتد الغليان إلى أكثر من سنة إلى أن أصدرت محكمة قراراً بإلغاء ذلك العرف الجائر. واليوم تقبع تلك الحافلة القديمة التي حصلت فيها الحادثة في أحد متاحف ولاية ميتشيجان حيث تم شراؤها بمبلغ يقرب من نصف مليون دولار، في حين نالت روزا عدداً من الأوسمة، وتم تشييع جنازتها سنة 2005، وكان عمرها 92 عاماً، بمراسيم لا يحظى بها إلا الشخصيات المهمة، لكنها كانت تحمل وسام الحرية الذي منحته لأبناء جنسها عبر رفضها الظلم. وفي كتابها (القوة الهادئة) كتبت تقول (في ذلك اليوم تذكرت أجدادي وآبائي، والتجأت إلى الله، فأعطاني القوة التي يمنحها للمستضعفين).
وصدق من قال بأن الذين لا يغامرون في سبيل أهدافهم لن يذكرهم التاريخ، بل سيعبرون كما عبر غيرهم، دون أن يتركوا أثراً أو تأثيراً! في حين نجد أن الذين ضحوا وغامروا هم من فازوا بالتقدير والتأثير والإلهام.
عندما نذكر روزا باركس التي صنعت شيئاً لبني الإنسان بمبادرة فردية لابد أن نذكر محمد البوعزيزي ذلك الشاب التونسي بائع الفاكهة المتجول الذي صفعته شرطية على وجهه وأهانته أمام الناس، فحاول أن يشتكي فلم يأبه له أحد، فأضرم النار في جسده أمام مبنى البلدية، وكانت النتيجة أن قامت المظاهرات في بلدته لتمتد عبر تونس في ثورة شعبية ضد الظلم والطغيان، فما كان من الرئيس إلا أن هرب من البلد تاركاً الناس يقررون مصيرهم بأنفسهم، وانتهت القبضة الحديدية التي سادت في البلد لمدة ربع قرن. ولا ندري إن كانت عربة الفواكه التي صادرتها الشرطة ستدخل المتحف في يوم من الأيام أم لا، لكن من المؤكد أن التونسيين لن ينسوا اسم البوعزيزي، تماماً كما سيتذكر المصريون اسم خالد سعيد الذي قُتل تحت التعذيب.
أما السوريون فمن يذكرون من المائة ألف شهيد؟ فكل هؤلاء متساوون في الحقوق، وإذا ذكرتُ واحداً منهم فلا يعني أنني أغمط الباقين حقهم، ومَثَلي في هذا مَثَل الفاروق عمر رضي الله عنه عندما جاءه من يبشره بنصر المسلمين في إحدى المعارك وراح يعدد له بعض من استُشهد وأكمل: وآخرون لا يعرفهم أمير المؤمنين! فقال عمر وهو يبكي: وما ضرَّهم ألا يعرفهم أمير المؤمنين؟ لكن الله يعرفهم.
لكن كما اشتُهر اسم الطفل الفلسطيني محمد الدرة الذي سقط برصاص الصهاينة، فقد ملأت الشاشات صور الطفل السوري حمزة الخطيب، ذي الثلاثة عشر عاماً، الذي مات تحت التعذيب على يد زبانية نظام بلده، وما ذاك إلا لأنه خرج في مظاهرة مناوئة للظلم والطغيان. وعندما تم تسليم جثته لأهله كان عليها آثار التعذيب، ومنها قطع عضوه التناسلي.
ربما لن ينسى السوريون أيضاً تلك الفتاة في القصير التي عندما كانوا يخرجونها من تحت الأنقاض في أصعب الظروف وأحلكها، ورأت أحدهم يصور المشهد فقالت له: يا عمّو، لا تصورني فإني لست محجبة. فانبرى الشعراء يشيدون بها دون أن يعرفوا اسمها، فهذا الشاعر حذيفة العرجي يهديها هذه الأبيات بعنوان: إلى العَفيفَةِ بنت العَفيفة:
(عَمُّو) تَعِبتُ، ولا تُلامُ المُتعَبهْ *** قِفْ، لا تُصَوِّرني.. فَلَستُ مُحَجَّبَهْ!
صَوِّر دِمَائي إن أرَدتَّ، ونَزفهَا *** صَوِّرِ مَعَالِمَ أُمَّتي المُتَخَشِّبَهْ!
أَطبَاقَ صَمتِهُمُ وفَوقَ رؤوسِنَا *** أَنقَاضُ أهلِ الغَربِ والمُستَعرِبَهْ!
صَوِّر جِراحي، لا تُصَوِّرْ دَمعَتي *** واكتُبْ على وجهِ الدِمَاءِ مُعَذَّبَهْ!
روزا باركس والبوعزيزي وحمزة الخطيب
- التفاصيل