أ. د. ناصر أحمد سنه
التغيـيرات السريعة والمتلاحقة في أنماط المعيشة المتَّسمة بقلة الحركة وانعدام النشاط البدني، وتباين العادات الغذائية، سلبا أو إيجابا، والارتفاع النسبي في متوسط الأعمار المتوقَّع، وتبدل الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، غني أو فقرا، وعَوْلَمَة وسائل الإعلام والترفيه، و"ثورة" الإعلان، والدفع بأسلوب الحياة المعاصر نحو المزيد من الاستهلاك، وفق شعار:"أنا أستهلك إذن أنا موجود"، وصولاً لحد الإفراط في الأطعمة والأشربة والمظهر والملبس والمسكن والسيارة والهاتف الخ، مما أثر ويؤثر علي صحة الأجسام وعافية الأبدان، فتري الكثيرين يبحثون عن طب علاجي دوائي وتجميلي"مزدهر ومتطور ومتقدم" يواجهون به تلك العلل الصحية والمشكلات البدنية والنفسية، فهل يدركون به ما فاتهم من طب وقائي؟.
إن تناول الأنسولين قد يؤدي لاختفاء أعراض مرض السكري، لكنه لا يشفيه تماماً، إذ أن معرفة كل ما يؤثر علي البنكرياس نفسيا وعضويا.. توترا وتغذية .. وراثةً وبيئةً، ومن ثم تنفيذ الآليات التي تحافظ علي سلامته ووقايته وعدم اعتلاله هو الأهم، فكيف يتأتى ذلك؟.

والبدانة المفرطة، وزيادة مستويات الكولسترول والدهون الثلاثية عن طبيعتها، وارتفاع ضغط الدم أو انخفاضه.. قد يصف لها الطب العلاجي جراحات تجميل وشفطا للدهون، وينصح  بعقاقير لخفض مستوي الكولسترول، وأخري لضبط معدلات ضغط الدم، لكن هل من أنماطِ معيشية، وقواعد غذائية، وأسس نفسية ووجدانية.. متوازنة ومعتدلة، تحمي علينا عافيتنا و"أمننا" النفسي في مقابل "إغراء" شهوة الطعام، وارتفاع الكولسترول والدهون ، واضطراب ضغط الدم.. وارتفاع نسب الطلاق والعنوسة، وارتفاع الأسعار والأسهم والسندات أو هبوطها؟!.

وأكبادٌ تكابد أمراضا عدة: بداية من اليرقان بأنواعه، والتهاب كيس المرارة والحصيات المرارية، احتقان الكبد، والتهاب الكبد بأنواعه الفيروسي والتسممى، وانتهاءً بتليف الكبد وسرطانه، ثم الحاجة لزراعة كبد جديد!!، فأين ذلك من العيش في بيئة صحية ونظيفة، والمحافظة علي نمط حياة صحي ونفسي سليم ومتوازن وبعيد عن الإسراف؟.

ولمواصلة السهر ومداومة العمل، أو للحصول علي"سعادة وهمية"، أو هروبا غير مجدٍ من مشكلات لا تستعصي علي الحل‘، يتعاطي طلاب وعمال وسائقين وأناس التبغ والمنبهات والمخدرات لجهازهم العصبي، فيدمرون عافيتهم، وفاتهم قواعد وقائية، ووسائل إيجابية توفر لهم ما يريدون دون خطر أو تدمير.

وفي العالم يوجد نحو 36.1 مليون مصاب بمرض متلازمة نقص المناعة المكتسبة "الإيدز  AIDS"، يموت منهم سنويا ما يقارب المليونين ونصف المليون، وكان قد تم تشخيص المرض لأول مرة العام 1981م لدى أكثر من ثلاثة أرباع مليون أمريكي، قضي منهم نحو 70%. ويسعي الطب الدوائي لإنتاج عقاقير (أول عقار تمت الموافقة عليه رسمياً: زيدوفودين Zudovudine Retrovir)، قد توقف نمو فيروس الإيدز، فتقلل من أثاره الخطيرة ومضاعفاته المروعة، لكنها عقاقير مُكلفة كثيرا لمصابين لا يملكون كلفته في إفريقيا وغيرها، فلماذا لا يسعى الطب العلاجي الحديث ـ كسعيه الحثيث لإيجاد العقاقيرـ مؤكدا علي  التوقي من أسباب المرض وانتقال هذا الفيروس الفتاك، والمنتقل بصوره أساسية عبر اللواط والشذوذ الجنسي، والزنا والبغاء، وتعاطي المخدرات بحقن ملوثة مشتركة، أو عند غياب الوازع الخلقي / والضمير والتدقيق المهني بنقل دم ملوث بفيروس المرض، أم أن دعوى:"حقوق الإنسان، وحرية ممارساته المختلفة" تحد من هذا المسعى الوقائي؟.

ومخاوف صحية كبرى علي مستوي العالم يثيرها فيروس أنفلونزا الطيور H5N1، الذي تسبّب، دون غيره من فيروسات الأنفلونزا التي تصيب البشر، في حدوث أكبر عدد من الحالات الحرجة والوفيات. ومعظم الحالات البشرية المُسجّلة حتى الآن نجمت عن نمطين فرعيين (H5) و (H7)، علاوة على أنّ المرض يصُعب السيطرة عليه في أسراب الدواجن، فضلا عن الطيور المهاجرة، مما يسبب أضرارا كبيرة في القطاعين الزراعي والاقتصادي، فأين دور الطب الوقائي في مواجهة هذا" الغول" الذي يكتسح العالم؟.

وبعدما كاد أن يختفي عالميا، عاد مرض السل بصورة ملموسة، بعد تفشي أنماط معيشية سيئة.. إسرافاً في تناول التبغ، وشيوعا للفقر، وأمراض سوء التغذية، وإخفاق نظام الجسم المناعي في مقاومة العدوى وذلك بسبب الإسراف في تناول العقاقير والمضادات الحيوية دون داع، وسوء الصحة النفسية والإيمانية، مما يؤدي إلى تنشيط وانتشار المرض.

لقد أشارت الدراسات الصحية الدولية في سنة 2001 إلي أنه لم تَعُدْ معظم الأمراض السارية/ الـمُعْدِية، باستثناء القليل منها، تشكل خطراً يهدِّد الأرواح يومياً. لكن تحول الأمر في اتجاه الأمراض غير السارية، والمرتبطة بنمط الحياة (كأمراض القلب والشرايين التاجية والدماغية، والداء السكَّري، وأنواع السرطانات المختلفة، كسرطان الرئة والدم والثدي وعنق الرحم وأورام الدماغ، وتخلخل العظام، والقلق والاكتئاب الخ)، التي تسببت، في عام 1998 وحده في حوالي 60% (31.7 مليون وفاة) علي مستوي العالم، وشكلت نحو43% من العبء العالمي للأمراض. ومن المقدَّر أن تتسبَّب الأمراض غير السارية، والاضطرابات النفسية، والإصابات في الحوادث والكوارث وغيرها في 73% من الوفيات و60% من عبء المرض في الأعوام العشرين القادمة. وتواجه البلدان المتوسطة والمنخفضة الدخل، بوجه خاص، زيادة هائلة في معدل حدوث هذه الأمراض وحتى العام 2020م(1).

ويستوقفك تقرير"منظمة الخليج للاستشارات الصناعية" والذي جاء فيه:(قيمة الاستهلاك العالمي من الدواء تتجاوز 300 مليار/ سنويا، حيث تستهلك الدول الصناعية ما يمثل 80%، كما حققت المبيعات العالمية ارتفاعا غير مسبوق في الأدوية المرخصة خلال العام الماضي (2005م) لتصل إلي 500 مليار دولار طبقا للإحصائيات التي نشرتها المجموعة الاستشارية البريطانية للصحة(آي أم أس). ويقدر استهلاك الدول العربية بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي بنحو5ر1% سنويا من الاستهلاك العالمي. وأشار التقرير إلى أن معدل الاستهلاك السنوي من الدواء للفرد في دول مجلس التعاون بلغ52 دولارا، وفى معظم الدول العربية 3ر20 دولارا، بينما في السودان وموريتانيا وفلسطين يبلغ 4.5 دولارا"(2).

يقول د.الكسيس كارليل: "إن كشف القناع عما وراء ستار التركيبات الكيميائية والإفرازات الهرمونية، وفهم الأسرار العضوية والعقلية والنفسية، واتباع أنظمة صحية وقائية أهم كثيرا من إنشاء مشافي اضخم واغلي وإنتاج عقاقير اكثر واكثر.. ويجب ألا يظل أي جانب من جوانب الإنسان المتعددة مجهولا لا ينال قسطه الكافي والمناسب من العلم والدراية ، فينال علم النفس ما يناله علم التشريح والفسيولوجي، وتنال مجالات التفكير والتعقل ما يناله علم البكتريا والمجهريات الخ "(3).

إن الصحة الدوائية لا تكفي لسعادة البشرية، فهي تقتحم عمل ووظائف كل عضو علي حده.. تجزئة قد تضر بباقي الأعضاء والأجهزة، فمن المعلوم بحثيا وعلميا أن فصل عضو واحد وإجراء تجارب عليه ، والتدخل في شؤونه، يختلف شكلا وموضوعا، جزئيا وكليا عما إذا كان هذا العضو وسط سائر أعضاء الجسم الأخرى مؤثرا ومتأثرا بهم، شأن المؤمنين في مجتمع متكافل متراحم متضامن:" تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"(4).

إن الطب في شقه العلاجي الدوائي يعتني بالمريض حتى تختفي علته وتعود أعضائه لأداء وظائفها كسابق عهدها أو تكاد، لكنه بدلا من أن يقنع بإخفاء الأعراض العضوية والأضرار الفسيولوجية خلف ستار من عقاقير أو جراحات يجب عليه أن يسعي ويبذل جهدا مساويا وموازيا لجهده في المجال الدوائي، لمنع حدوث العلل والأدواء.. وقاية، فكيف يمكنه ذلك؟.

أسس الطب الوقائي

الإنسان في صحته الوقائية ما هو إلا تناغم وتوازن عقلي نفسي وجداني عضوي بيئي، لذا فتوافق وتوازن العالم الداخلي (النفسي والعضوي)، والخارجي (الأسري والمعيشي والاجتماعي والبيئي والإنساني)، يتضافران ويتداخلان لصنع إنسان سليم ينعم بالعافية والسعادة والسلامة من الأمراض.
يهتم الإسلام وتوجيهاته في هذا الشأن بالإنسان في كل مراحل حياته، بل حتى قبل ولادته،اختيارا إيمانيا للأم علي أساس الدين، فينشا الطفل في بيئة متوازنة، وذكر اسم الله تعالي حال الجماع، وعدم الجماع في مدة الحيض: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(البقرة: 222).

ثم رضاعة طبيعية، فلبن الأم لا يعادله غذاء آخر، وحرمان الطفل منه يسبب له أمراضا بدنية فضلا عن حرمانه النفسي وشعوره بالحنان والأمان، ورضاعة الأم تحفظ عليها صحتها، وتقلل من اورام الثدي، وتسهل عودة الرحم لطبيعته عقب الولادة: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)(البقرة :233).

لقد جاء في دراسات متعددة لمنظمة الصحة العالمية WHO ما أكد عليه الإسلام:" يمكن أن يبدأ حدوث الأمراض غير السارية والأمراض المزمنة قبل الولادة. ومن الضروري اتِّباع أسلوب قائم على دورة الحياة للوقاية من هذه الأمراض ومكافحتها، يبدأ منذ الحمل والرضاعة وتغذية في مرحلة الطفولة، ويستمر حتى الشيخوخة، حيث يكون الأكل الصحي والحياة المفعمة بالنشاط من بين أهم جوانب الوعي الصحي. وتعكف منظمة الصحة العالمية حالياً على تقيـيم العبء العالمي للأمراض باستقراء 22 عاملاً من عوامل الخطر تؤثر في ظهور هذه الأمراض غير السارية"(5).

إن الإحساس الجمالي بروعة الألوان عند غروب الشمس" قوس قزح"، وكذلك القياس العلمي للطول الموجي لأطيافه الضوئية وجهان ينبغي أن ينالا نفس الاهتمام، كما أن  تعليم الفتيات والبنات كيفية رعاية الصغار كونهن أمهات المستقبل، وتدريب الرجال علي حسن تربية وقيادة سفينة آسرهن هو الأنجع من مواجهة المشكلات الأسرية والنفسية والاجتماعية.

إن فهم ومعرفة رسالتنا في الحياة، وتنفيذ الحكمة والغاية من خلقنا، والمداومة علي اللجوء إلي الله تعالي طالبين منه العون السداد علي أداء هذه الرسالة علي خير وجه،  تحفظ علي النفوس توازنها وصحتها وعافيتها. كما أن  الإيمان بالقضاء والقدر يجنبـنا الصراع والتوتر والقلق النفسي:(قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا، وعلي الله فليتوكل المؤمنون) التوبة:51. ) ، والصبر علي البلاء والشدائد يوفر بيئة نفسية داخلية تجلب "صلوات الله ورحمته وهدايته تعالي:((ولنبلونكم بشيء من الخوفِ والجوعِ ونقصٍ من الأموالِ والأنفسِ والثمراتِ، وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّـا لله وإنـّا إليه راجعون، أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمةٌ، وأولئك هم المهتدون)( البقرة:155ـ 157).

إن اختلال القيم الذاتية والأسرية والإنسانية والاجتماعية، والهلع عند البلاء، فتن تجعل الولدان شيبا، لكن لسلامة الصحة النفسية وعافيتها يجب تبني فلسفة حياة ملئها: الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر:(والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر) (سورة العصر).

ولا يخفي ما للعبادات وبخاصة الصلاة والصيام من أثر إيماني الكبير علي صحة المرء وعالمه النفسي الداخلي، وكذلك أثرها كما اثبت الدراسات الطبيةـ علي الصحة البدنية والجسمانية لتزيدهما عافية وجمالا (6).

ويوجه الإسلام لاقتران الطعام الطيب بالعمل الصالح: (يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (المؤمنون 51)،.واقتران نمط الحياة مأكلا بالشكر والعمل النفسي الإيماني: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)(سبأ: 15).

ومراعاة آداب الطعام والشراب وفق مراتبها الثلاثة: الحاجة والكفاية والزيادة، ولمحاربة الإسراف فيهما.. تشكل قيمة "ولا تسرفوا".. مبدأ  قرآنيا وعلاجا وقائيا .. جسمانيا ونفسانيا:" يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين"َ( الأعراف:31)، وفي المسند: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه ن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ،فإذا كان لابد فاعلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه". كلما كان التوسط في الغذاء وتناوله قدر الحاجة.. اعتدالا وتوازنا في الكيفية  والنوعية والقيمة الغذائية والكمية.. كان الانتفاع به أكثر واكثر.

وجاء تحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به لفساد هذه الأنواع .. ماديا ومعنويا: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (المائدة:3).

ولدعم صحتك الوقائية.. جاء تحريم الخمر وكل مسكر ومخدر ومفتر، وكذلك الميسر، لدفع مفاسدها الصحية البدنية والنفسية و الأسرية والاجتماعية والاقتصادية:" يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (المائدة:90).

وأطباء الحضارة العربية الإسلامية حثوا علي الصحة الوقائية الشاملة لعافية البدن والنفس معا بلا إفراط ولا تفريط، وهناك أدبيات عديدة ذات دلالات وتشير لتناغم الجانبين:"أربع تفرح: النظر إلي الخضرة وإلي الماء الجاري وإلي المحبوب وإلي الثمار"، و"أربع تزيد في بهاء الوجه وجماله وبهجته: التقوى والكرم والمروءة والوفاء" , و "أربع تجلب الرزق: قيام الليل وكثرة الاستغفار بالأسحار وتعاهد الصدقة والذكر أول النهار ولآخره"، و"أربع تمنع الرزق : نوم الصبيحة وقلة الصلاة والكسل والخيانة"، و"أربع تمرض الجسم: كثير كلام ونوم واكل وجماع"، و"أربع تهدم البدن: الهم والحزن والجوع والسهر"، و"خمس يذبن البدن ويذهبن باللب: قصر ذات اليد، وفراق الأحبة، وتجرع الهموم والمتاعب والمصاعب، ورد النصح وضحك ذوي الجهل بالعقلاء"، و"راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة القلب في قلة الاهتمام، وراحة اللسان في قلة الكلام، وراحة النفس في قلة الآثام"، و"كن جيدا في مضغ الطعام ، ولا تأكل ما تعجز أسنانك عن مضغه فتعجز معدتك عن هضمه، ولا تأكلن إلا عن جوع، ولا تدخل الطعام علي الطعام، ولا تتكارهن علي الجماع، ولا تحبس بول"..الخ.

ومن أسس الطب الوقائي سعيه لأبعاد مصادر التلوث ومحاربتها علي اختلافها(7)، لما تحمله من مخاطر، لذا فالنظافة الشخصية والعامة علي سلم أولوياته، والحرص والحض عليها.. وضوءا واغتسالا وتطهرا ( بدنيا ونفسيا).. بداء من الفم واستعمال السواك: "فعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ مَا لَا أُحْصِي أَوْ أَعُدُّ ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ جَابِرٍ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَخُصَّ الصَّائِمَ مِنْ غَيْرِهِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ"(8)، وقال تعالي: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ.."(المائدة:6).

ونظافة الأفنية والطرقات وإماطة الأذى عن الطريق ومصادر المياه: عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عُرِضَتْ عَلَيَّ أُمَّتِي بِأَعْمَالِهَا حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ فَرَأَيْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا إِمَاطَةَ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَرَأَيْتُ فِي سَيِّئِ أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ فِي الْمَسْجِدِ لَا تُدْفَنُ(9).

وللوقاية من الأمراض الجنسية التي تأتي عبر الممارسات الجنسية غير الشرعية: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا)- (الإسراء: 32) ، وعن آثار انتشار الزنى واللواط في المجتمعات يقول صلى الله عليه وسلم: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها الا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا" (10). ولقد طالبت مؤخرا منظمة الصحة العالمية وبرنامج الأمم المتحدة لمكافحة الإيدز بإدراج ختان الرجال (الذي يقلل بنحو 60% من مرض الإيدز) ضمن إستراتيجيات الوقاية من مرض نقل فيروس الإيدز.، أشادت  بالموروث الثقافي ذو الأثر الفعال في الحد من بعض الأمراض..( كتحريم شرب الخمر، والممارسات الجنسية غير المشروعة) (11). 

ولقد أكدت إرشادات الشريعة الغراء علي مبدأ الحجر الصحي ومنع الاختلاط بكل ما من شأنه أن ينقل المرض مسببات المرض.. وحاملي العدوى: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ قَالَ مَالِك قَالَ أَبُو النَّضْرِ لَا يُخْرِجُكُمْ إِلَّا فِرَارٌ مِنْهُ (12)، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا يُورَدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ " (13). وفي صحيح مسلم: بَاب لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ وَلَا نَوْءَ وَلَا غُولَ وَلَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ ، كما ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ"(14).

لقد توافق الطب الوقائي الحديث مع هدي الإسلام فأكد في موضوع أنفلونزا الطيور علي: أمان أعلاف ومشتقات الدواجن المتداولة في السوق العالمية، والسلامة الغذائية، والحجر الصحي، والقيود الواجب فرضها على التنقّل، وعمليات إعدام الدواجن الموبوءة، والتشخيص، والترصد، من الوكالات البيطرية والزراعية الدولية. كذلك أساليب التشخيص وتحديد سمات الفيروس واللقاحات المناسبة، واستراتيجية المكافحة على الصعيد العالمي والقضايا المرتبطة بالدور الذي تؤديه الطيور المهاجرة.

جملة القول: إن معرفة الآليات المسئولة عن سلامة الغدد والأعضاء والأجهزة وعافيتها أهم بكثير من معرفة منتجاتها وإفرازاتها، ويبني الطب الوقائي علي الشق الأول، بينما يذهب الطب الدوائي للتعامل مع الجانب الثاني. وربما يبدو الطريق الأول اشق واصعب بيد أنه الأنجع، ولكن الطب لفترات طويلة فضل السير في الطريق الأسهل. فالصحة الوقائية تحرص علي سلامة الناس وعافيتهم، فتعرفهم أسباب المرض وكيفية تجنبها فلا يقعون في حبائله.. وتؤكد علي الاهتمام بنمو جميع اوجه نشاطنا العضوي والعقلي والنفسي والاجتماعي نموا متوازنا ومتناسقا ومتوازيا.. وتبقي الصحة الوقائية خير من الصحة الدوائية.

الهوامش
1- راجع موقع منظمة الصحة العالمية علي الشبكة الدولية للمعلومات www. WHO. int
2- انظر مقال لكاتب هذه السطور، ا.د. ناصر احمد سنه: زيادة استهلاك الدواء هل حققت مناعة الأجسام وعافية الأبدان، مجلة الوعي الإسلامي : 494، ذو القعدة 1427هـ ـ نوفمبر- ديسمبر 2006م ، ص:62 -64، الكويت.)
3- بتصرف: الكسيس كارليل: "الإنسان ذلك المجهول، الهيئة العامة للكتاب، 1973م.

4- رواه البخاري، من حديث النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنه، كتاب الأدب، برقم: 5552.

5- موقع منظمة الصحة العالمية علي الشبكة الدولية للمعلومات  .

6- راجع في هذا الصدد حلمي الخولي: الصلاة وصحة الإنسان، الزهراء للأعلام العربي، ط1، 1993م.

7- د. محمد شاكر مشعل: الدور العربي في التراث العلمي العالمي، ج1، 1983م، مطبعة الأيمان ، مصر، ص 127ـ133

8- رواه البخاري.

9- مسند احمد: كتاب مسند الأنصار، برقم 20570.

10- رواه ابن ماجة.

11- الفرنسية ، وموقع قناة الجزيرة الفضائية.

12- موطأ الإمام  مالك برقم: 1392.

13- من حديث أُسَامَةُ بن زيد رضي الله عنه، مسند احمد ،كتاب السلام: 8895.
14- مسند احمد ، وسنن ابن ماجة.

JoomShaper