المتتبع لسير الصالحين عبر التاريخ يقف أمام حقائق خالدة وبطولات راسخة صنعت أمجادها قلوب صلبة، وعقول واعية، كان لها من القوة في إظهار الحق والصبر على البلاء ما يجعلنا ننحني إجلالا وإكبارا لعظيم صنيع عطّر ذاكرة الإنسانية بعبق الفضيلة والأنفة.
تحدي أكبر الظلمة على وجه الأرض ومدعي الألوهية.. هي قصة بطولية صنعت أحداثها امرأة.. نعم امرأة زلزلت عرش فرعون الطاغية.. امرأة ألقى المولى عز وجل الشجاعة في قلبها فصدحت بالحق في زمان ومكان لم يكن أحد يتوقع منها، أو من أمثالها ذلك.
هي حكاية امرأة كتب المؤرخون اسمها بحروف من ذهب على مدار التاريخ، وذاع صيتها في الأرض والسماء، وشم رسول الله صلى الله عليه وسلم رائحتها العطرة في رحلة الإسراء والمعراج..
هذه المرأة وإن لم تكن ذات جاه ومكانة في قومها، إلا أن الله حفظ اسمها أكثر من أسماء: الملوك والزعماء والأغنياء وأصحاب النفوذ، الذين طحنهم الثرى، وطوت بهم الأرض، فليست الشهرة بالمناصب وكثرة الظهور وإنما بتقوى الله وذكره سبحانه.
المرأة هي ماشطة ابنة فرعون التي ضحت بأبنائها الخمس في سبيل إعلاء كلمة التوحيد، ولنتعرف على قصتها يكفي أن نقف عند الحديث الصحيح:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ.
فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟
فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلَادِهَا.
قَالَ: قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟
قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ سَقَطَتْ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ.
فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟
قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ.
قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ؟
قَالَتْ: نَعَمْ.
فَأَخْبَرَتْهُ ، فَدَعَاهَا، فَقَالَ: يَا فُلَانَةُ وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي.
قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ. (وفي رواية ابن حبان: قَالَتْ رَبِّي وَرَبُّكَ مَنْ فِي السَّمَاءِ)
فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلَادُهَا فِيهَا.
قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً.
قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟
قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا.
قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنْ الْحَقِّ.
قَالَ: فَأَمَرَ بِأَوْلَادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ.
قَالَ: يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِي فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَاقْتَحَمَتْ.
قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ صِغَارٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ ، وَابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ".