1500 عام على مولد خديجة بنت خويلد( 68 ق. هـ)
أعظم سيدة عرفتها الإنسانية.. وخير قدوة لنساء الأمة الإسلامية
نعيم نعيم السلاموني
أبوها هو خويلد بن أسد بن كلاب بن قصي، وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأحم بن بني عامر بن لؤي، وفاطمة هي عمة الصحابي الجليل بن أم مكتوم.
ولدت سنة 68 قبل الهجرة في مكة، أبوها من أشراف قريش، تربت في بيت مجد وبيئة ميسورة ونشأت على الأخلاق الحميدة، وكانت تلقب في الجاهلية بالطاهرة لفطرتها النقية الطاهرة وأخلاقها العالية السامية، اجتمع فيها ما لم يكن لأحد من نساء العرب، وضربت الأمثلة الصالحة للنساء على مر العصور في النبل والطهارة وإنكار الذات والتضحية، يروى أنها تزوجت مرتين قبل زواجها بالنبي ص من سيدين من سادات قريش، هما عتيق بن عابد المخزومي وأبوهالة بن زرارة التميمي، وبعد وفاتهما عملت في التجارة وبدأت تشق الحياة من جديد وتنافس كبار التجار في قبيلتها، وكانت ذا ذكاء، شعارها دائمًا الأمانة، وبهذه الصفة ابتدأت تجارتها تزدهر وتتسع ويزداد مالها يومًا بعد يوم، وتزداد شهرتها في التجارة، وكانت بضاعتها دائمًا موضع ثقة وتقدير وإقبال ورواج، وكانت كلما ازداد ربحها سعت إلى ذوي الحاجات فأعطت عن طيب خاطر، فلا عجب أن يهديها الله للاستعانة بالصادق الأمين، وكانت تتخير الرجال الذين عرفوا بالأمانة والصدق، واشتهرت سيرتهم بالعفة وضبط النفس والحلم، وقد اختارت السيدة الفاضلة اللبيبة الكريمة خديجة «رضي الله عنها» محمدًا ص ليتاجر لها في مالها، وقد وافق وخرج فعلًا بتجارة إلى الشام في رحلة الصيف التي تضم قوافل قريش كلها، ورغم صغر سنة وعدم خبرته فإن التوفيق كان حليفه بدرجة مدهشة، فلقد تدفقت الأرباح والمكاسب وكانت خديجة سعيدة بالربح، إلا أنها سعدت أكثر من تقرير ميسرة الذي رافق محمدًا ص وكان مسلك محمد ص فيها مطابقًا لما تمنته العمر كله، من رجل شريف الأصل، ولم تجد له مثيلًا ولم يكن في الأمر سوى أن محمدًا ص كان فقيرًا، لقد خفق قلب السيدة خديجة وهفا نحو محمد بن عبدالله ص قبل أن تراه بعد أن سمعت عن أخلاقه وصدقه وأمانته، فقالت له: إني دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلًا من قومك، وخديجة بقوة شخصيتها أرادت أن تعرف قراره بالزواج منها بعد أن بهرت بأمانته وصدقه فقالت له: يا محمد ألا تتزوج فرد عليها الصادق الأمين: من؟ قالت: أنا، قال: ومن لي بك؟ قالت: يابن عمي إني رغبت فيك لمنزلتك وسط قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، فأرسلت إلى عمها عمرو بن أسيد ليزوجها، فحضر وأسرع محمد بن عبدالله إلى عميه «العباس وحمزة» فباركا الزواج وتزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة، وعاشت خديجة رضي الله عنها مع رسول الله ص حياة سعادة ووئام طوال حياتها معه، فكانت نعم الزوجة الصالحة واستمر الزواج خمسة وعشرين سنة مليئة بالألفة والاستقرار، وقد أنعم الله عليهما فرزقهما البنين والبنات (القاسم وعبدالله وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة) وقد ذاقت مرارة فقد الولدين القاسم وعبدالله إلا أنها صبرت وأصبحت أم البنات في بيئة مفتونة بالبنين لكنها أدركت أن الأمر لله وحده وعاشت الأسرة في هدوء.
وقد تركت لزوجها ص أموالها يشرف عليها، كما هيأت له أسباب التأمل والعبادة، فأعانته على التعبد في غار حراء قبل نزول الوحي على رسول الله ص ، وكان يأخذ معه الزاد ليتفرغ لعبادة ربه، بينما تقوم هي بالعناية بأبنائها وإدارة أمور بيتها، فكان زواجه ص من خديجة (رضي الله عنها) عونًا له على التفرغ للعبادة، وأن يطرح عن كاهله شواغل الدنيا، وكأنما أراد الله تعالى بزواجه منها في سنها هذه أن تكون له عونًا في رسالته في مهدها، ودافعًا له في تحمل مسؤوليتها دون أن يكون لها مطالب خاصة، ونزل عليه جبريل فقال: اقرأ.. ورجع النبي ص إلى خديجة يرتجف فؤاده فقال: زملوني زملوني، وأخبر خديجة قائلًا لقد خشيت على نفسي فهدأت من روعه وطمأنته قائلة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الدهر، وكانت خديجة تذهب إلى غار حراء تحمل الماء والزاد لرسول الله ص ، فوصلت إليه وهو مستغرق في العبادة فأتاه في تلك اللحظات جبريل \ وقال له: «يا محمد هذه خديجة قد أتت ومعها إناء فيه إدام وشراب إذا هي أتتك فاقرأ عليها من ربها السلام، وحين بلَّغها رسول الله ص بذلك قالت رضي الله عنها تخاطب رسول الله ص «إن الله هو السلام ومعه السلام وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله»، وهكذا تعلن خديجة استجابتها على الفور برسالته مصدقة لما يقول، وامتلأ قلبها بالفرحة حين أدركت أنه نبي هذه الأمة وصدقت وآمنت به وبربه الكريم، ومنذ تلك اللحظة وهي واقفة بجواره تشد أزره وتعينه علىاحتمال أقصى صنوف الأذى والاضطهاد من قومه، وبذلت من مالها وضحت في سبيل ما جاء به، وذاقت مرارة الحرمان عندما حوصر الرسول ص في شعب بني هاشم، وبالرغم من أنها صاحبة عز وجاه، فإن حبها لعقيدتها جعلها تصبر على أقصى أنواع البلاء بجوار زوجها الوفي، وكانت خديجة (رضي الله عنها) ترى ما كان يتعرض له الحبيب ص من الإيذاء والسخرية فتواسيه وتخفف عنه وتهون عليه، فكانت بذلك مثلا عظيمًا وفريدًا، بل وقدوة لكل أخت مسلمة، ولقد وجدت خديجة في الصادق الأمين خير الأزواج، فصبره مثل شجاعته مثل كرمه، وكرمه مثل حلمه، وحلمه مثل رحمته، ورحمته مثل مروءته، فقد كانت على مر الأيام وطوال ربع قرن تزداد يقينًا بأن الرجل الذي اختارته لنفسها هو أصلح أهل الأرض لأداء رسالته والنهوض بأمته، وذكر بعض العلماء أن خديجة هي أول فقيهة في الإسلام، حيث فقهت- أي فهمت- منذ الوهلة الأولى مكانة محمد رسول الله ص ومنزلته عند الله تعالى، وكانت وزير صدق لرسول الله ص ، ومستشارًا، وهي أول من بشرها بالجنة من أزواجه، وأول من أقرأها ربها السلام، وأول من أسلمت وأول من صلى مع رسول الله ص ، وأول من تلا القرآن بعدما سمعته من فم الرسول ص ، وبيتها هو أول مكان تلي فيه وحي الله بعد غار حراء، وذكر الطبري أن دار خديجة (رضي الله عنها) أفضل الأماكن بمكة المكرمة بعد المسجد الحرام، ولعل ذلك يرجع لطول سكن النبي ص ، ونزول الوحي عليه فيها، ومن فضل هذا البيت أنه خرج منه زيد بن حارثة الذي لم يذكر الله تعالى في كتابه اسم صاحبي غيره فقال تعالى: {فلما قضى زيد...} (الأحزاب: 17)، وفي هذا البيت نشأ علي بن أبي طالب، وكان أحد العشرة المبشرين بالجنة، وكان بيت الرسول ص أيضًا هو خير البيوت في الأرض، فمنه خرجت خديجة سيدة نساء العالمين، ومنه خرجت ابنتها فاطمة سيدة نساء أهل الأرض، وتوفيت خديجة في السنة العاشرة من البعثة وهي في الخامسة والستين من عمرها، وحزن ص لموتها حزنًا شديدًا، بل سمى العام الذي توفيت فيه بعام الحزن لاجتماع وفاتها مع وفاة عمه أبي طالب، وكان فقدهما خسارة كبرى للنبي ص ، إذ فقد المواساة والطمأنينة والملجأ الذي يخفف عنه عناء ما يحدث له من أذى واضطهاد، ولم يستطع النبي ص أن ينساها أبدًا، وكان يحمل لها الوفاء، فقد كانت بمنزلة الأم الحنون والأخت البارة والزوجة الكريمة، تواسيه وتخفف عنه الآلام عندما يرجع مهمومًا، وكانت ذكراها الطيبة العطرة، على لسان الرسول ص ، وخيالها لم يفارقه، ولذلك كانت عائشة تقول «كان الرسول ص إذا ذكر خديجة أثنى عليها وأحسن الثناء فغرت يومًا وقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين، هلكت من الدهر، وقد أبدلك الله خيرًا منها، فتغير وجهه ص وزجر عائشة وقال: «والله ما أبدلني الله خيرًا منها.. آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء»، فقلت بيني وبين نفسي «لا أذكرها بسوء أبدًا» ولم يكن ص يسأم من الثناء عليها والاستغفار لها، وكان إذا ذبح شاه يقول: اذهبوا بهذه إلى أصدقاء خديجة، وكثيرًا ما كان يذكر أصدقاءها بالخير، وكان يرتاح لأقربائها، ومن وفائه لزوجته ص أنه ذات يوم جاءته إمرأة عجوز من صاحبات الطاهرة خديجة فأحسن لقاءها وأكرم مثواها وبسط رداءه فأجلسها عليه وصار يسأل عن أحوالها وما صارت إليه، فقالت عائشة لما خرجت يارسول الله أقبلت على هذه السوداء هذا الإقبال فقال ص «إنها كانت تدخل على خديجة وإن حسن العهد من الإيمان» (رواه أحمد)، ومن وفائه لها ص عدم زواجه في حياتها رغم كبر سنها.
يا لها من زوجة فقيهة ذكية تعلمت الأدب كله وتعايشت معه في بيت النبي ص الذي جمع الله له كل الفضائل والمناقب والمكارم، فقال جل وعلا {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم :4)، وهي أولى أمهات المؤمنين وأول الناس إسلامًا على الإطلاق ومثال الزوجة الصالحة الأنيسة الودودة التي تقف عند الشدائد موقف الساعد والظهر، فهي لا ترعى الرسول ص وحده وإنما تحمل هم الدعوة إلى الله في أول مراحلها وتكوناته، وكانت خديجة (رضي الله عنها) سببًا في دخول كثير من نساء العرب في الإسلام، فهي قدوة للمرأة المسلمة الداعية، وقد آزرت زوجها في أحرج الأوقات، وتحملت كيد الخصوم وآلام الحصار ومتاعب الدعوة، وساندته في محنته وواسته في كربته، وآنسته في وحدته وهي بذلك لها فضل كبير على كل مسلم ومسلمة إلى قيام الساعة.
يالها من زوجة فقيهة.. ذكية تعلمت الأدب كله وتعايشت معه في بيت من جمع الله له كل الفضائل
كاتب مصري