محمد رجب البيومي
ظهرت بحوث شتى عن الحضارة الإسلامية، كتبها أناس يكتبون للإسلام بغضاً متأجج اللهيب، وقد كان جهدهم مضاعفاً في هذا الطريق، لأن الحقائق الواضحة الناطقة بفضل الإسلام على الحضارة الإنسانية ذات معالم بارزة، لا تخفى على الدارس، ومحاولة إنكارها تتطلب جهداً شاقاً في التبرير والتحليل وطمس الحقائق، وهذا ما قام به نفر من أدعياء البحث تغلفهم أحقاد لا يستطيعون الخلاص من تأثيرها، وقد حاول المنصفون في البحاث شرقاً وغرباً أن يقروا الحق في نصابه، فأتوا بما يدحض الباطل من آراء مخلصة كانت موضع ارتياح المحققين.
وفي هؤلاء المنصفين من لا ينتمي إلى الإسلام، بل فيهم من ينكر الأديان قاطبة، ولكن إخلاصه للبحث التاريخي دفعه إلى إنصاف الحضارة الإسلامية، فكتب صحفاً بيضاء تنطق بمآثر الحضارة الإسلامية حين أخرجت الناس من الظلمات إلى النور، وكان علينا أن نترجم كل ما قاله هذا النفر المخلص، وفي طليعتهم الباحث الاجتماعي الكبير “جوستاف لوبون” في كتابه عن حضارة العرب، فقد جلى من الحقائق الباهرة ما يعد مفخرة كبرى للحضارة الإسلامية حين حملت مشعل النور في عالم الظلام.
وكان علينا أن نقف من هؤلاء موقف المُعجب الشاكر! وطبيعي أننا لا ننتظر من باحث مادي لا يؤمن بالأديان بعامة أن يوافق ما يعتقده الموحدون في كل شيء! وحسبه أن يتصفح آثار الغابرين، وأن يقف على أدوار التاريخ الإنساني ليبرر فضل الحضارة العربية الإسلامية وليفتح عيوناً عميا تعشى بالضوء الساطع فلا تتبين الطريق، كان علينا أن نقدر ما وصل إليه أمثال جوستاف من الحقائق الباهرة فنعدّه مرجعاً أصلاً في بابه، ولكن قوما لدينا أخذوا يتربصون له في كل ناحية ليأخذوه ببعض ما لا يسلم منه باحث مهما اجتهد، وفيهم من يلتمس بعض تقريراته المختلفة مع الإسلام ليشن عليه حرباً أي حرب!! والرجل قد تعرض لهجوم صارخ من أعداء الحضارة الإسلامية حين أنصف الحق وشهد بفضل الإسلام. ومن يهاجمه من أعداء هذه الحضارة منطقي مع نفسه، فهو يحاول إطفاء نور يمتد في سطوع ليشفي أواراً يلتهب في أحنائه، ولكن لا أعرف مدعاة الهجوم على جوستاف لوبون من بعض المسلمين الذين يؤمنون بما أسداه الإسلام للبشرية من إسعاد! أكانوا يتوقعون من فيلسوف فرنسي مادي أن يتقيد بكل ما يقوله المسلمون!! إن حسبهم منه أن يدرس الباحث الكبير تاريخهم درساً منصفاً، وأن يهتدي إلى عظم رسالتهم الإنسانية فيسجل كل ما نفعت به البشرية من أمجاد! ولا عليهم إذا خالفهم في بعض الحقائق، فلهم دينهم وله دين، وقد لاقى الرجل أعنف ضروب التشهير من صنائع التبشير ممن يتسترون في ثوب الباحثين، أفنكون نحن إلبا عليه مع هؤلاء!!

إننا حين نقرأ ما كتبه خصوم الحضارة الإسلامية من باحثي الغرب، نعجب كيف استطاع الغرض الحاقد أن يطمس عيونا صحيحة فيجعلها تتخبط في دياجير الضلال! وقد يكون الرد على هؤلاء من باحث أجنبي عن الإسلام أقوى حسماً، وأشد نفاذاً، وهذا ما قام به الباحث الكبير جوستاف لوبون في كتابه عن حضارة العرب، فحقه  علينا أن نبذل الجهود في تحليل آرائه، لأن منطقه الصادق ذو إقناع ملزم لمن سلم من الغرض ولقي الحقائق بقلب سليم!.

لقد كان القرنان الثامن عشر والتاسع عشر مبعث شرور آثمة نضحت بها أقلام الكاتبين ضد الحضارة الإسلامية في أوربا حتى جعل أكثرهم أبحاثه (العلمية) شتائم قذرة توجه إلى الإسلام دون حياء، وقد ظن هؤلاء المغرضون أنهم بهذا الافتراء الصارخ سيغيرون وجه الحقيقة، ولكن الحق يجد أعوانه في كل زمان ومكان لأنه صوت الله الذي يتلمس طريقه إلى الأسماع المخلصة فيريها الحقيقة الناصعة ويدفعها إلى إعلانها في حرية ونزاهة، وقد صدق شوقي حين قال:
إن الذي جعل الحقيقة علقماً     لم يخل من أهل الحقيقة جيلا

وإذا وجد من يتعاظمه أن يجعل بعض الباحثين كتاباتهم العلمية شتائم قذرة توجه إلى الإسلام دون حياء، فليستمع إلى ما قاله (أندريه سرفيه) في كتابه (الإسلام ونفسية المسلم):

“لم يكن الإسلام شعلة بل مطفأةً نشأ من قبل متوحش، لأمة متوحشة، فكان ولا يزال عاجزاً عن أن يجاري الزمن، ويساير التمدن، ولقد أثبت في كل بقعة ارتفعت فيها أعلامه أنه وقف صخرة ناشزة في سبيل التقدم، وأنه خنق نشوء المجتمع الإنساني، والمدنية الإسلامية أقل من أن يعتني بدراستها، إذ هي تقليد مشوه لمدنيتي اليونان والرومان، سقط العرب على مادتها في الكتب السريانية فاقتبسوها دون أن يعرضوا لها بما يستحق الذكر من النقد، لأن العربي قد أثبت أنه لا قابلية له على استقصاء البحث بصورة جدية، وأن لا قدرة له على إبداع شيء من عنده، ولم يتقن العرب من العلوم إلا التي لا تحتاج إلى عناء في التفكير، أو مشقة في البحث، وكانت سبيلها سهلة ميسورة”.

فهذا باحث يؤلف كتاباً كبيراً عن الإسلام، وهو يجهل من تاريخه ما يعرفه طلبة المدارس في بلاده، فجميع جامعات العالم تدرس موجزاً عن تاريخ الإسلام تعرف منه أن الحضارة الإسلامية قد مدت رواقها المضيء على العالم في ثلاث خلافات زاهرة في بغداد وقرطبة والقاهرة، فحين كان العباسيون والفاطميون والأمويون يحكمون أزهر حواضر العالم في أيامهم الزاهرة، كانت أوربا تتخبط في الظلام! فكيف وقف الإسلام إذن صخرة في سبيل التقدم؟ وبأنواره استضاء الجزء المظلم من القارة الأوروبية حين سطع النور من الجزء المضيء بالأندلس! وكيف أخذ العرب تراث اليونان دون أن يضيفوا إليه، وكل من كتبوا عن اليقظة الأوروبية يذكرون شروخ العرب على تراث اليونان، ويؤكدون أن صحوة أوربا قد استيقظت على صوت ابن رشد، ولسنا نبين الآن أثر الإسلام في التقدم الحضاري للعالم فلذلك موعده وموضعه القريبان، ولكننا نسجل أن الغرض الأعمى قد أنسى من يؤلف كتاباً عن الإسلام أبسط ما يعرفه تلاميذ المرحلة الثانوية من معلومات، وأغرب ما في أمر هؤلاء المرجفين أن أحدهم يكذب الكذبة الشنيعة، ويدونها في غير حياء، فتجد تصديقها الظاهري لدى من يسارع إلى تسجيلها، ناسباً إياها لصاحبها! ليعلن أنه لا يتحدث عن رأيه وحده بل يستند إلى سواه من المحققين، حتى يتوالى علينا سيل من الأراجيف ينقلها خالف عن سالف، وهي في لبابها الصميم أكاذيب لا تنهض على دليل، ولكنها تُروى وتنقل من كتاب إلى كتاب.

إنك لتلمس أصداء أندريه سرفيه في كتابات كثيرة توالت من بعده، تلمسها حتى لدى من يكتبون عن الآثار بعيداً عن الحديث في تعاليم الإسلام، فهذا العالم الأثري “كلرمون جانو” يقول: أن المدنية العربية ليست سوى كلمة خداعة، لا وجود لها أكثر من فظائع الفتح العربي، وأنها آخر أنوار المدنية الرومانية واليونانية أطفئت بأيد خرقاء ولكنها محترمة، هي الإسلام.

وإذا كان الرجل عالم آثار فحسب، فقد تكون دراسته بعيدة عن رصيد معارك الفتح الإسلامي حين وصمها بالفظائع جهلاً دون علم، ولكن ما باله وهو الأثري المتخصص يزور أسبانيا فيجد علائم المدنية العربية في آثارها الإسلامية الرائعة، وما باله يجد صدى هذه الآثار فيما حاكاه المقلدون في أوربا من نماذج معمارية تنتسب إلى الطراز الإسلامي في الأندلس، ثم يزعم بعد العيان الواضح أن المدنية العربية كلمة خداعة، وأن آثار اليونان والرومان قد أطفئت بأيد خرقاء وجميع حقائق العيان تنطق بتكذيبه، نطقاً جعل نفراً من أبناء ملته يصار حوله بخطئه، ويجزمون بأنه اعتسف الطريق اعتسافاً إلى الباطل حين أغمض عينيه عن دلائل الحق، فهذا صاحب كتاب (تاريخ العرب العام) “سيدليو” يعفى على هذا الهراء بقوله، ترجمةً عن الأستاذ المحقق محمد كرد علي في الجزء الأول من (الإسلام والحضارة العربية) ص 17:

“ما زال الفرنج إلى الآن ينسبون إلى العرب جميع التخريب الذي يرون آثاره في الأقطار التي أغاروا عليها، وقد هوّلت الفرنج في شأنهم، مع أنهم كانوا في جميع المواقع ذوي لطف عند الانتصار، وسبب ذلك ما رسخ في عقول الإفرنج من الخوف والنفرة من العرب”.

وهذا إجمال يحتاج إلى تفصيل، ومن محاسب الصدف أن يقوم الكاتب الاجتماعي الكبير جوستاف لوبون بهذا التفصيل الناطق بالشواهد، المؤيد بالآثار، المصدق بالنصوص الملزمة، فإذا أدى الفيلسوف الاجتماعي الكبير ضريبة الحق في بحثه المنصف عن الحضارة العربية، وأظهر من فضائلها اللامعة ما لم يكن معلوماً لدى الخاصة بل العامة، إذا كان جوستاف لوبون قد قام بهذا الجهد الحافل خدمة للحقيقة! فما بال نفر من نقدة المسلمين يحاول أن يطمس لؤلؤه الساطع فيظهر ما بكتابه من بعض ما يخالف تعاليم الإسلام، وكأنه كاتب مسلم يحاسب على ما أذنب وأساء!! حسبنا من الرجل أن يكتب تاريخ الحضارة في إنصاف، فإذا خالف في شيء فهي مخالفة متوقعة الحدوث إذ لا ينتظر من مثله أن يقول بكل ما يقول المسلمون! وإذا كان قد جلّى الحضارة الإسلامية تجلية زاهية في كتابه فلا بد أن نستمع إلى منصتين.

-2-

ظهرت بحوث تتحدث عن انتشار الإسلام وبواعثه الأصيلة التي جعلته يمتد إلى ثلاث قارات في أقل من قرن واحد، وقد أفاض الكاتبون في تحليل هذه البواعث، ورجعوا إلى شخصية رسول الله وما اتصف به من سمات عالية أهلته إلى نجاح الرسالة، وأسهبوا في رصد مواقفه العملية في كل مأزق، ليشرحوا أسباب نجاحه الموفق، كما رجعوا إلى مبادئ الإسلامي التي دفعت ذوي العقول إلى اعتناقه، ولعل أهمها تأثيراً هو موافقته للفطرة الإنسانية بحيث ينسجم مع ميولها العاقلة ولا يكلف نفساً إلا وسعها، فقد دعا الإسلام إلى محو آثار الجاهلية وإلى تجريد العمل لله وحده كيلا يسيطر على المؤمن غير خالقه، وإلى تكريمه للفضائل الخلقية وإلى قرن العلم بالعمل مع الارتكان إلى العقل الصائب، والمواءمة بين مطالب الروح ومطالب الجسد، والنهوض بالمدنية إلى أرقى مستوى فاضل، ومراعاة الحقوق الطبيعية بين الأفراد بحيث لا يجور كبير على صغر، وكل هذه العناصر أبواب واسعة تحتاج إلى كاتب بارع يفيها حقها من التبيين، وقد قام الأستاذ محمد فريد وجدي رحمه الله بتحليلها في مقالات ضافية صادفت توفيق الله، وإعجاب المنصفين، ولكن بحوث الأستاذ وجدي وأمثاله من رجال الفكر الإسلامي تجد تياراً معاكساً من ذوي الغرض، فهم يصرفون عقولهم عن التفكير في هذه المناقب الساطعة، ليتجهوا وجهة الحاقد المتعصب إذ يحاولون أن يطمسوا لآلئ الحق بصدأ شأنه يورث البلبلة والحيرة، فحين راعهم أن ينتشر الإسلام في بقاع الأرض بهذه السرعة الواثبة لم ينظروا إلى مبادئه الراقية ومواءمته للفطرة الإنسانية، بل ذهبوا مذاهب متناقضة يُوجى بها الافتيات الآثم، فبعضهم ذهب إلى أن الإسلام قد استهوى النفوس بما أباح من الملذات، وبعضهم ذهب إلى أن الإسلام قد انتشر بقوة السيف وحده، كما ذهب آخرون إلى أن في الإسلام جبرية ذات اضطرار تفقد المسلم تصرفه فيتبع كل داع، وهذا ما دفع بالملايين إلى اعتناقه! ومثل هذه الأراجيف وجدت من يصدقها ممن لا يكلفون أنفسهم عناء البحث، كما وجدت من المسلمين من كشف باطلها الزائف، وأعظم من هذا أنها وجدت من الأوروبيين أنفسهم من خلصت بحوثه للحقيقة، فتابع النظر حتى وقف على بطلان هذه المزاعم، وجوستاف لوبون أحد الأفذاذ الذين وقفوا أمام هذه المزاعم وقفات عاقلة بصيرة فكشف القناع عن بهتانها الصريح، وأيد كلامه بنقل عمن سبقه من باحثي الغرب، يقول صاحب كتاب حضارة العرب([1]):

“قضى أعداء الإسلام العجب من سرعة انتشار القرآن العظيمة، فعزوها إلى ما زعموه من تحلل محمد وبطشه، ويسهل علينا أن نثبت أن هذه المزاعم لا تقوم على أساس، لأن من يقرأ القرآن يجد فيه ما في  الأديان الأخرى من الصرامة، وأن ما أباحه القرآن من تعدد الزوجات لم يكن غريباً على الشعوب المسلمة التي عرفته قبل ظهور محمد، وأن هذه الشعوب لم تجد نفعاً جديداً لهذا السبب.

وما قيل من دليل حول محمد نقضه العلامة الفيلسوف “بيل” منذ زمن طويل، فقال بعد أن أثبت أن ما أمر به النبي بالتزامه من قيود الصيام وتحريم الخمر ومبادئ الأخلاق هو أشد مما أمر به النصارى!”.

يريد الفيلسوف أن يقول أن ما تدّعونه من استجابة الإسلام للشهوات الراغبة باطل منقوض، لأن تعاليم الإسلام أشد صرامة في ضوابطها الخلقية من النصرانية، فقد حرمت الخمر وألزمت المسلم بصوم أشق من صوم النصارى ودعت إلى مبادئ خلقية تكبح جماح الرغبة وهذا ما عناه الفيلسوف بيل حين قال:

“إن من الضلال إذن أن يعزى انتشار الإسلام السريع في أنحاء الدنيا إلى أنه يلقي عن كاهل الإنسان ما شق من التكاليف والأعمال الصالحة، وأنه يبيح له البقاء على سيء الأخلاق، وقد دون (هوتنجر) قائمة طويلة بالأخلاق الكريمة، والآداب الحميدة عند المسلمين، فأرى مع القصد في مدح الإسلام أن هذه القائمة تحتوي أقصى ما يمكن أن يؤمر به إنسان من التحلي بمكارم الأخلاق، والابتعاد عن العيوب والآثام، وأن ملاذ الجنة التي وعد به المسلمون لا تزيد على ما وعد به النصارى في الإنجيل”.

وموضع العجب من الذين يختلقون على الإسلام دعوته إلى التحلل من الأخلاق، ويعدونها سبباً كبيراً في انتشاره، أن القرآن بين أيديهم، وأنهم أوسعوه بحثاً وفحصاً، فوقفوا على فصائله البارزة وعلموا كيف أمر بالمثل العليا للفضائل أمراً لا هوادة فيه! ثم خالفوا ضمائرهم حين افتروا عليه الكذب! وإذا تعمد باحث أن يطمس الحقيقة، فهو دجال يتزيا بزي الباحثين، وأعجب من عجبنا الأول أن يسمعه أشياعه ممن يعرفون كذبه ثم يرددون ما قال! والقرآن بين أيديهم يرد على إفكهم الصريح.

أما القول بأن في الإسلام جبرية تفقد المرء تصرفه إذ أن إيمانه بالقدر يجعله سلبياً لا إيجابياً إذ يعتقد أن كل شيء قد قدرت نتائجه المحتومة، فسعيه هباء لا جدوى معه، هذا القول يجهل معنى القدرية في الإسلام، إذ أن معناها أن الله قد أحاط علما بما سيكون، وليس معناها أنه سلب المرء حرية العمل، إنه دعا إلى حسن العمل، وتقدير الملابسات، والاحتكام إلى العقل في كل تصرف حيث توضع الخطط ويرسم المنهج ليسير كل شيء في طريقه المرسوم، فيصل الإنسان إلى النتيجة المرجوة، فإهمال النظر، وترك الأمور تضطرب بها الأحوال دون هدف مقصود، لا ينتج غير البوار، وتاريخ الإسلام في انتصاراته الحربية وتفوقه الحضاري يدل على ما بعثته العقيدة الدينية من توثب ناهض نحو الكمال، ولم تخرج الأمة العربية من بداوتها الساذجة إلى حضارتها العريقة لأنها تركت أسباب العمل، وأغفلت واجب التدبير، واعتقدت أن ما قدر سيجيء دون مسعى، بل لأنها صدعت بأمر الإسلام في إظهار الحق، ونظافة المسعى، والدعوة إلى الارتقاء الإنساني، لتخرج البشرية من الظلمات إلى النور، أما النتائج فهي معلومات عند الله، وعلم الله إياها لا يمنع مجتهداً أن يشق الأرض ويضع البذر، ويتعهد الغراس رياً وتشذيبا حتى يؤتي أكله، وهذا ما كان حين ازدهر العمران الحضاري في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة، وفي كل مكان رفرفت عليه راية الإسلام.

على أن اعتقاد المسلم أن الله قد قدر له ما سيكون من أمره، لم يدفعه إلى الكسل، وإطراح الأعباء بل جعله يقتحم المهالك ويستسهل الصعاب، مستهيناً بالعاصفة، فإذا كانت النتيجة انتصاراً فقد بلغ مناه في الدنيا، وادّخر جزاء الله في الآخرة، وإذا صادفته المنية في نضاله فقد رزق الشهادة وكسب أعظم ما يدخره الله، لمجاهد بذل دمه نصرة لدين الله!! أفكان هذا الاعتقاد مبعث توار وانخذال! أم كان مبعث توثب واندفاع! لنقرأ صحف التاريخ لنعرف أن المسلمين لم يقودوا العالم إلا حين فهموا معنى القدر على حقيقته فاندفعوا لخلافة الله في الأرض، كما نعرف أن المسلمين لم يعانوا كوارث الاستعمار إلا حين تركوا نهج السلف في العمل الحافز، والنشاط المتحفز، واحترام موهبة العقل في تدبير الخطة، وإحكام العمل، والسعي إلى الغاية في بصيرة واعتداد.

وقد فطن العلامة جوستاف لوبون إلى أن معنى الجبرية كما جاءت بها الأديان جميعها (لا كما جاء بها الإسلام وحده) هو معنى من التسليم الهادئ الذي يعلم به الإنسان كيف يخضع لحكم القدر من غير تبرم وملامة فهو تسليم يدل على مزاج معتدل لا تستبد به الهواجس، أو تثيره الشكوك، يقول الكاتب الكبير:

“وكتب الأديان جميعها مفعمة بالجبرية التي يسميها القدماء بالقدر، ولم يكن محمد (ص) جبرياً أكثر من مؤسسي الأديان الذين ظهروا من قبله، بل لم يسبق محمد في جبريته علماء الوقت الحاضر الذين يؤيدون قول القائل: (أنه إذا وجد ذكاء يعرف لوقت ما جميع قوى العالم، ومواضع ما فيه من الموجودات، ويستطيع أن يحللها، ويحيط بمحركاتها فإنه لا يبقى شيء غير معين، ويصبح الماضي والمستقبل حالا في نظره)”.

ومعنى هذا القول أن العالم يسير على نظام دقيق، فلو أتيح لعقل ما أن يحيط بطريقة سبر الوجود، وعرف كيف تسري الكواكب في أفلاكها، وكيف تتحرك الأجرام الكبيرة والصغيرة في مجراها الطبيعي لأصبح المستقبل واضحاً أمام من يعرف طريقة المسير! والمسلمون يعرفون أن الله قد أحاط بكل شيء علماً، فهو إذن يعلم ما سيكون كما علم ما كان! واعتقاد المسلم ذلك لا يجعله مكتوب اليد، منزويا في جانب هامشي حتى يحين أجله، بل يجعله يضرب في الأرض لينال ما يبعثه العمل من ثمار! وقد كان رينان الفرنسي في طليعة من رمى المسلمين بالكسل، خضوعاً لما يفهمونه من معنى القدر، وقد توالت الردود عليه بما جعله يدرك أن مفهوم القدر الإسلامي لديه كان غير صحيح.

- 3 –

ننتقل إلى دعوى انتشار الإسلام بالسيف، وهي دعوى يعرف الهاتفون بها أنفسهم أنها مكذوبة داحضة لأن الذين يدونونها في كتبهم هم أساتذة التبشير في أوربا، وعمال وزارات المستعمرات من قبل، وهؤلاء يعرفون قبل غيرهم كيف كان انتشار الإسلام في أفريقيا وآسيا، ولهم كتب خاصة تسجل كيف قاموا في الحبشة بمحاولة تنصير المسلمين دون جدوى فأغلقوا مدارس القرآن، وصادروا أملاك المسلمين، ودفعوا بالعلماء إلى السجون، وفي أريتريا وزنجبار وتنجانيقا وتنزانيا أخذ أشياع الاستعمار يشجعون النصرانية في معاقل الإسلام، فغيروا أسماء البلاد الإسلامية إلى أسماء أجنبية ليقطعوا الصلة بين الأفريقيين والعرب المسلمين فإذا بحثت عن جهود التبشير الأوروبي في مالي والسنغال ونيجيريا وغينيا والكاميرون وساحل العاج وداهومي والغابون رأيت أهوالاً قاساها المسلمون ليخرجوا عن دينهم الذي تلقوا هدايته على أيدي التجار من المسلمين، دون أن تكون هناك حروب يتكلم فيها السيف كما يزعمون”! ومع هذه الأهوال ثبت المسلمون على دينهم، وازداد مد الإسلام يوماً بعد يوم، وما يقال عن الأفارقة يقال في بلاد آسيا التي اعتزت بالإسلام كأندونيسيا وماليزيا وبروتي والهند وأفغانستان –كان الله لها في محنتها القاسية- فكيف يقال أن الإسلام ينتشر في ربوعه بالسيف!! ومروجو هذا الإفك هم أتباع وزارات الاستعمار، وقد بذلوا الجهود لمحاربة المسلمين العزل، فما زادهم الاضطهاد غير ثبات ورسوخ!.

فإذا تركنا هذا العصر إلى العهود الأولى منذ بزغ نور الإسلام، نرى أن نبي الدعوة الإسلامية لم يكن حين صدع بأمر ربه حاكماً ذا جيش نافذ الأمر، ولكنه دعا إلى الله وحيداً لا يملك غير البرهان العقلي فآزرته قلة قليلة بمكة صبرت على الاضطهاد، ولاقى المستضعفون منهم بلايا التعذيب، وفيهم من قتل ومن هاجر! حتى فرَّ المسلمون إلى المدينة لا ليأمنوا على أنفسهم بعيداً عن أذى المشتركين بل ليصادفوا تجمع المشركين واليهود والمنافقين على استئصال الإسلام! ولولا أن الله متم نوره ولو كره الكافرون، ما جاء نصر الله والفتح المبين، وحين تقدمت الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس والروم والأسبان لم تتقدم لتكره الناس على الإسلام، فلا إكراه في الدين، بعد أن تبين الرشد من الغي، ولكن الجيوش الزاحفة خيرت أصحاب البلاد بين الإسلام وبين ضريبة الدفاع يبذلها من لم يرد دين الله، ليجد من يحميه من الأعداء حين الهول، وقد وازن أهل البلاد بين اعتقاد واعتقاد، وأخلاق وأخلاق، فارتضوا وجهة الإسلام عن محبة! ولن نستشهد بأقوال مؤرخي الإسلام، ولكننا ننقل عن المنصفين من مفكري الأوروبيين ممن عرفوا وجه الحقيقة فكشفوا عنها اللئام.

لقد عقد جوستاف لوبون باباً في كتابه عن حضارة العرب قال فيه إن القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن، فقد ترك العرب المغلوبين أحراراً في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض النصارى الإسلام واتخذوا العربية لغة لهم، فذلك لما رأوا من عدل العرب الغالبين مما لم يروا مثله من سادتهم السابقين ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفها العرب من قبل.

وقد أثبت التاريخ أن الأديان لا تُفرض بالقوة، فلما قهر النصارى عرب المسلمين في الأندلس (وغير العرب أيضاً) فضل هؤلاء القتل والطرد عن آخرهم على ترك الإسلام.

لم ينتشر القرآن بالسيف إذن، بل انتشر بالدعوة الإسلامية وحدها وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند، التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل، ما زاد معه عدد المسلمين على خمسين مليون نفس (كان ذلك في منتصف القرن التاسع عشر)، ويزيد عدد المسلمين يوماً بعد يوم، مع أن الانجليز –حينئذ- يجهرون البعثات التبشيرية ويرسلونها تباعاً إلى آسيا لتنصير المسلمين على غير جدوى، ولم يكن الإسلام أقل انتشاراً في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط.

ورجع جوستاف لوبون في تعليل انتشار الإسلام إلى سهولة مبادئه، ولا سيما في التوحيد المطلق الذي هو أصل أساسي من أصول الإسلام، فالإسلام بهذا التوحيد يقدم العقيدة السهلة إذ خلا مما نراه في الأديان الأخرى ويأباه الذوق السليم من المتناقضات والغوامض، فلا شيء أكثر وضوحاً وأقل غموضاً من أصول الإسلام القائلة بوجود إله واحد، وبمساواة جميع الناس أمام الله عز وجل، وببضعة فروض يدخل الجنة من يقوم بها، ويدخل النار من يعرض عنها، فإنك لو اجتمعت بأي مسلم من أي طبقة رأيته يعرف ما يجب عليه أن يعتقد، فيسرد لك أصول الإسلام في بضع كلمات سهلة، وهو بذلك عكس النصراني الذي لا يستطيع حديثاً عن التثليث والاستحالة وما ماثلها من الغوامض من غير أن يكون من علماء اللاهوت الواقفين على دقائق الجدل.

وبلغ الفيلسوف الفرنسي الكبير مقطع الصواب حين قال:

“وساعد وضوح الإسلام البالغ وما أمر به من العدل والإحسان كل المساعدة على انتشاره في العالم وتفسر بهذه المزايا سبب اعتناق كثير من الشعوب النصرانية للإسلام، كالمصريين الذين كانوا نصارى أيام حكم قياصرة القسطنطينية فأصبحوا مسلمين حين عرفوا أصول الإسلام، كما تفسر السبب في عدم تنصر أية أمة بعد أن رضيت بالإسلام ديناً، سواء كانت هذه الأمة غالبة أم مغلوبة”.

وإذا كان الذين يدعون أن الإسلام قد انتشر بالسيف يجعلون القوة وحدها سبب خلود الإسلام، فإن ما عرف من غزوات قام بها غير المسلمين من أمثال جنكيز خان والإسكندر لم يكتب لنتائجه البقاء أمداً طويلا، إذ خلا من كل هدف إنساني يجمع حوله القلوب، أما الفتح الإسلامي فقد ضمن بقاءه الأدنى لما يحمل من معان إنسانية حاول الخصوم أن يسدلوا عليها الغشاء فلم يستطيعوا، وجاء من غير المسلمين من جابههم بالحقائق الصارخة التي تتجلى في مثل قول العلامة جوستاف لوبون:

“لم تقل براعة الخلفاء الأولين السياسية عن براعتهم الحربية التي اكتسبوها على عجل، لقد كانت الطريق التي يجب عليهم أن سلكوها واضحة فعرفوا كيف يحجمون عن حمل أحد بالقوة على ترك دينه، وعرفوا كيف يبتعدون عن أعمال السيف فيمن لم يسلم، وأعلنوا في كل مكان أنهم يحترمون عقائد الشعوب وعرفها وعاداتها، مكتفين بأخذهم في مقابل حمايتها جزية زهيدة تقل عما كانت تدفعها –هذه الأمم- إلى ساداتها السابقين من الضرائب”.

كان العرب قبل أن يسعوا إلى فتح بلد، يرسلون رسلاً حاملين إليه شروطاً للوفاق، وتكاد هذه الشروط تكون مماثلة للشروط التي عرضها عمرو بن العاص على أهالي غزة حين حصاره لها في السنة السابعة عشر من الهجرة، وللشروط التي عُرضت على المصريين وأهل فارس، وتلك الشروط التي عرضها ابن العاص هي كما رواها المؤرخ الغربي المكين، ما يأتي: “أمرنا صاحبنا أن نقاتلكم إلى أن تكونوا في ديننا، فتكونوا أخوتنا، ويلزمكن ما يلزمنا، فلا نتعرض إليكم، فإن أبيتم أعطيتم الجزية في كل عام أبدا ما بقينا وما بقيتم ونقاتل عنكم من ناوأكم، إن تعرض إليكم بوجه من الوجوه، ويكون لكم عهد علينا فإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا السيف فنقاتلكم حتى تفيئوا إلى أمر الله”.

ويعرض المؤرخ لمواقف تاريخية تدل على تسامح الفاتحين الإنساني ليختم هذا الباب الحافل بقوله:

“ظهر مما تقدم أن العرب احترموا منذ دور الفتح الأول الأمم التي آثار التي ملكوها، ولم يفكروا في غير الانتفاع بحضارتها وترقيتها، وذلك خلافاً لكثير من الأمم الفاتحة التي جاءت بعدها، وأن العرب الذين كانوا أميين في بدء الأمر لم يلبثوا أن فاقوا أساتذتهم، وأن تعلموا بسرعة ما كانوا يجهلون من فنون الحرب، واستعمال آلات الحصار الرومية فسبقوا أعداءهم في ذلك، وأنهم بعد أن كانوا مبتدئين في العلوم والفنون ماثلوا الأمم الأخرى فيها بفضل ما أنشأوا من المدارس، ثم تقدموا هذه الأمم.

وكان من الممكن أن تعمي فتوح العرب أبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين، ويكرهوهم على اعتناق دينهم، ولو فعلوا ذلك لتألبت عليهم جميع الأمم التي كانت غير خاضعة لهم بعد، ولأصابتهم مثل ما أصاب الصليبيين في بلاد سورية مؤخراً، ولكن العرب اجتنبوا ذلك، وأدركوا أن النظم والأديان ليست مما يفرض قسراً، فعاملوا أهل سورية ومصر وأسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم، تاركين لهم قوانينهم ومعتقداتهم غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة، فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب ولا ديناً مثل دينهم”.

لقد أكثرنا النقل عن جوستاف لوبون لا لأن ما قاله مجهول غير معلوم، بل لأن نفراً من ذيول الغربيين يشيحون عن كل ما يقوله أبناء الغرب، ويدعون أنه من قبيل الحماسة الخطابية، وإن سار على منهج صحيح، فإلى هؤلاء نتقدم إليهم بأن يقرءوا كتاب حضارة العرب لجوستاف لوبون لأن الرجل ممن لا يعقل أن يتعصب للعرب فيكيل لهم المدائح دون دليل، وله نظراء كبار جعلوا الحق وجهتهم فيما يكتبون، ولا أنسى أن أذكر أني اعتمدت على الترجمة الأمينة التي خطها الكاتب العربي الكبير الأستاذ عادل زعيتر فأسدى لأبناء دينه ما أسداه للحقيقة الناصعة من يد لا تجحد رحمة الله رحمة واسعة، وجزاه أحسن ما يجزي به كل مثابر أمين.


([1] ) حضارة العرب ص 127، ترجمة الأستاذ عادل زعيتر.

JoomShaper