لفضيلة الشيخ "محمد بن إسماعيل المقدم"
لها أون لاين
كتاب "هُوِيّتُنا أَو الهِاويَة
قضية الهوية الإسلامية للأمة هي من المسلمات التي لا تحتاج إلى كثير من البراهين والدلائل، فقد ظلت الأمة على مدار القرون متمسكة بهذه الهوية تنصرها وتدافع عنها، لكن في القرن الماضي ومع بداية الاحتلال الغربي للعالم الإسلامي سعى المحتل لطمس هذه الهوية، واستبدالها بهويات أخرى، إدراكا منه أن مصدر قوة الأمة الإسلامية هو في عقيدتها وشريعتها؛ لذلك فقد استخدم حيل شتى لتنحية هذه العقيدة جانبا من حياة المسلمين.
وعلى الرغم من إخفاقه في هذه المهمة وخروجه من بلاد المسلمين مدحورا مهزوما، إلى أن هناك بعضا من شذاذ الآفاق من أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا تأثروا بدعايته، وظلوا على عهدهم له بعضهم بحسن نية، وأكثرهم بسوء نية لتقاطع مصالحهم مع مصالح عدو الأمة.. والكتاب الذي بين أيدينا "هُوِيّتُنا أَو الهِاويَةُ" لفضيلة الشيخ الدكتور "محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم" هو من الكتب المهمة التي ترد على هذه الشرذمة، مؤكدا أنه لا بديل عن الإسلام هوية لأمتنا.
ويبدأ المؤلف كتابه بتعريف هوية الفرد بأنها: هي حقيقة الشخص التي تميزه عن غيره, فهي ماهيته, وما يوصف به من صفات:عقلية, وجسمية,وخلقية, ونفسية, فالهوية هي المفهوم الذي يكونه الفرد عن فكره وسلوكه اللذين يصدران عنه من حيث مرجعهما الاعتقادي والاجتماعي, وبهذه الهوية يتميز الفرد ويكون له طابعه الخاص, وكما أن للفرد هوية، فكذلك للمجتمع والأمة هوية مستقلة تتميز بها عن غيرها، وإلا تشابهت الأمم كالأسماك في الماء, وكلما توافقت هوية الفرد مع هوية المجتمع كلما تعمق إحساسه بالانتماء لهذا المجتمع, واعتزازه به, وانتصاره له, أما إذا تصادمتا فهنا تكون أزمة "الاغتراب", قال صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام بدأ غريباً, وسيعود كما بدأ غريباً, فطوبى للغرباء " رواه مسلم في "صحيحه" ( 14 ) , والإمام أحمد في "المسند" ( 5/ 296 ), والترمذي (2631) , وابن ماجه (3889 ).
ويشير المؤلف إلى أن الانتماء الوجداني والانتساب إلى((الهوية)) ينبع من إرادة النفس, فَهي قابلة له, راضية عنه, معتزة به, وهذا الانتماء هو الزمام الذي يملك النفس, ويحدد أهداف صاحب الهوية, ويرتب أولوياته في الحياة, فتنصبغ النفس به, وتندمج فيه, وتنتصر له, وتوالي وتعادي فيه, مع نفي الانتساب إلى الهوية مضادة أو مزاحمة, أي: أن هذا التفاعل النفسي ينتج عنه بناء حواجز نفسية بين الشخص وبين من يخالفونه الهوية.
أثر الهوية على الفرد والمجتمع
بالنسبة للفرد فإن الهوية هي الموجه لاختياره عند تعدد البدائل, وهي التي تقوم "بتهديف" سلوكه, بحيث تجعل هذا معنى وغاية, كما أنها تؤثر تأثيراً بليغاً في تحديد سمات شخصيته, وإضفاء صفة "الثبات والاستقرار, والوحدة" على هذه الشخصية, فلا يكون إمعة, ولا منافقاً, ولا ذا وجهين.
وبالنسبة للمجتمع فإن الهوية تصبح الواحة النفسية التي يلوذ بها أفراد الجماعة, والحصن الذي يتحصنون بداخله, والنسيج الضام, أو المادة اللاصقة التي تربط بين لبناته, والتي إذا فُقِدت تشتت المجتمع, وتنازعته التناقضات.
أهم مقومات الهوية
من أهم أركان الهوية: العقيدة, ثم التاريخ, واللغة.
فإذا تكلمنا عن الهوية الإسلامية نجد أنها مستوفية لكل مقومات الهوية الذاتية المستقلة, بحيث تستغني تماماً عن أي (لقاح) أجنبي عنها, فهي هوية خصبة تنبثق عن عقيدة صحيحة, وأصول ثابتة رصينة, تجمع وتوحد تحت لوائها جميع المنتمين إليها, وتملك رصيداً تاريخياً عملاقاً لا تملكه أمة من الأمم, وتتكلم لغة عربية واحدة, وتشغل بقعة جغرافية متصلة ومتشابكة وممتدة, وتحيا لهدف واحد هو: إعلاء كلمة الله, وتعبيد العباد لربهم, وتحريرهم من عبودية الأنداد.
هويتنا عقيدتنا
والهوية الإسلامية في المقام الأول انتماء للعقيدة, يترجم ظاهراً في مظاهر دالة على الولاء لها, والالتزام بمقتضياتها, فالعقيدة الإسلامية التوحيدية هي أهم الثوابت في هوية المسلم وشخصيته, وهي أشرف وأعلى وأسمى هوية يمكن أن يتصف بها إنسان, فهي انتماء إلى: أكمل دين, وأشرف كتاب نزل على أشرف رسول إلى أشرف أمة, بأشرف لغة, بسفارة أشرف الملائكة, في أشرف بقاع الأرض, في أشرف شهور السنة, في أشرف لياليه وهي ليلة القدر, بأشرف شريعة وأقوم هدي.
خصائص الهوية الإسلامية
إن الانضواء تحت (الهوية الإسلامية) والاندماج فيها ليس أمراً اختياريا, ولا مستحباً, ولكنه فرض متعين على كل بني آدم المكلفين, إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, روى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفس محمد بيده, لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" صحيح مسلم ( 153 ).
ووظيفة هذه الأمة: دعوة جميع البشر إلى الهوية الإسلامية.
• إنها هوية تستوعب كل مظاهر الشخصية, وتحدد لصاحبها بكل دقة ووضوح هدفه ووظيفته وغايته في الحياة.
• وهي مصدر العزة والكرامة: قال تعالى: "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [(8) سورة المنافقون] ، وقال عمر رضي الله عنه: "إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإِسلام, فمهما نطلب العِزَ بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله " [رواه الحاكم (1/61-62) , وصححه على شرطهما , ووافقه الذهبي , ثم الألباني كما في الصحيحة(51)].
• وهي هوية متميزة عما عداها: لكي يبقى هذا التميز ثابتاً في كل حين أوجب الله علينا أن ندعوه في كل يوم وليلة سبع عشرة مرة أن يهدينا الصراط المستقيم المغاير بالضرورة لمنهج الآخرين: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [(7) سورة الفاتحة], وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من عمل بسنة غيرنا "[رواه الطبراني في " الكبير " والديلمي في (مسند الفردوس), وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" ( 5/102)].
علاقة الهوية الإسلامية بالوطنية
الهوية الإسلامية لا تعارض الشعور الفطري بحب الوطن الذي ينتمي إليه المسلم, ولا الحرص على خير هذا الوطن, بل المسلمون الصادقون هم أصدق الناس وطنية, لأنهم يريدون لوطنهم سعادتَي الدنيا والآخرة بتطبيق الإسلام, وتبني عقيدته, وإنقاذ مواطينهم من النار. وحمايتهم من التبعية لأعدائهم الذين لا يألونهم خبالاً, وقد تجلى هذا المفهوم واضحاً في قصة مؤمن آل فرعون في سورة غافر, ويتجلى في عصرنا في مواقف وجهاد وصمود, رموز الدعوة الإسلامية في كافة البلاد الإسلامية.
لكن "الوطن" الحقيقي في مفهوم "الهوية الإسلامية" هو (الجنة) حيث كان أبونا آدم في الابتداء, ونحن في الدنيا منفيون عن هذا الوطن, ساعون في العودة إليه, و"المنهج الإسلامي" هو الخريطة التي ترسم لنا طريق العودة إلى الوطن الأم, كما أعرب عن ذلك الإمام المحقق ابن القيم بقوله:
فحي على جنات عدن فإنها منازلِنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلمُ ؟
- أما في الدنيا, فأحب الأوطان إلى الدنيا مكة المكرمة , والمدينة النبوية, وبيت المقدس, وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن محبته مكة المكرمة مبينة على أنها "أحب بلاد الله إلى الله" , فمحبتها إلى هذه البقاع التي أختارها الله, وباركها, وأحبها فوق محبتنا لمسقط الرأس, ومحضن الطفولة, ومرتع الشباب.
- وأما ما عدا هذه البلاد المقدسة فإن الإسلام هو وطننا وأهلنا وعشيرتنا, وحيث تكون شريعة الإسلام حاكمة وكلمة الله ظاهرة فثم وطننا الحبيب الذي نفديه بالنفس والنفيس, ونذود عنه بالدم والولد والمال.
ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً *** الشام فيه ووادي النيل سيان.
وحثيما ذكر اسم الله في البلد *** عددتُ أرجاءه من لب أوطاني.
أما الوطنية بمعناها المحصور في قطعة أرض رسم حدودها أعداؤنا, أو عِرق, أو لون, أو جنس, فهذا مفهوم دخيل لم يعرفه السلف ولا الخلف, وإنما طرأ علينا ضمن ركام المفاهيم المخربة التي زرعها الغربيون وأذنابهم لمزاحمة الانتماء الإسلامي, وتهوين الهوية المسلمة, التي ذوبت قوميات الأمم التي فتحتها في قومية واحدة هي ((القومية الإسلامية)) ودمجتها في ((أمة التوحيد)), وهاك شهادة ((شاهد من أهلها)) هو المؤرخ اليهودي ((برنارد لويس)) الذي قال: (كل باحث في التاريخ الإسلامي يعرف قصة الإسلام الرائعة في محاربته لعبادة الأوثان منذ بدء دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم- , وكيف انتصر النبي – صلى الله عليه وسلم- وصحبه , وأقاموا عبادة الإله الواحد التي حلت محل الديانات الوثنية لعرب الجاهلية, وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى, ولكنها ليست ضد اللات والعزى وبقية آلهة الجاهليين, بل ضد مجموعة جديدة من الأصنام اسمها: الدولة, والعنصر, والقومية.
وفي هذه المرة يظهر أن النصر حتى الآن هو حليف الأصنام, فإدخال هرطقة القومية العلمانية, أو عبادة الذات الجماعية كان أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط, ولكنها مع كل ذلك كانت أقل المظالم ذكراً وإعلاناً.. " ا.هـ .
إن الغرب يكيل لنا بمكيال واحد لا بمكيالين, والمكيال الواحد هو مكيال التعصب الأعمى, والحقد الأسود, والظلم الصارخ للمسلمين فبينما يقوم بإلغاء الحدود بين بلاده, ويوحد عملته, ويوطد وحدته, إذا به يمزقنا إرباً إرباً.
والعقيدة الإسلامية هي المرشح المهيمن "الذي يقوم بترشيح" التراث التاريخي " ليحدد ما يقبل منه وما يُرفض: ففرعون وملؤه كانوا مصريين لكنهم كانوا كفاراً وثنيين، وكان موسى عليه السلام وأتباعه على الإسلام مؤمنين, فواجب المؤمن أن يعادي أعداء الله, ويبرأ منهم, ولو كانوا من جلدته, ويتكلمون بلسانه, ويوالي حزب الله وأولياءه, مَن كانوا وأين كانوا, ومتى كانوا, قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [(22) سورة المجادلة].
ويشرح الكاتب هذه الفكرة قائلا: فنحن أولى بموسى من اليهود, ونحن على دين موسى دونهم, ولو بُعث موسى وداود وسليمان لحاربوا اليهود, والنصارى, والعلمانيين , وسائر الملحدين, ولعبدوا الله في المسجد الأقصى على شريعة الإسلام كما كانوا يعبدونه وحده فيه قبل نسخ شريعتهم, ولرفعوا راية الجهاد في سبيل تطهير فِلَسطين من قتلة الأنبياء, إخوان القردة والخنازير, الملعونين على لسان الأنبياء.
وحين تقرأ القرآن الكريم وهو يسرد عليك قصة موسى ـ عليه السلام ـ وفرعون إلى أين تتجه عاطفتك: إلى بني جلدتك المصريين أم إلى موسى وحزب الله المؤمنين؟ إلى بني جنسك المصريين أم إلى سحرة فرعون عندما واجهوه وتحدوه؟ فتحبهم لإيمانهم, وإذا قرأت قوله تعالى: {هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [(15) سورة القصص ], فإنك تنحاز بلا ترد إلى موسى وشيعته المسلمين ضد أعدائهم ولو كانوا من بني جلدتك.
وما أحسن ما قال صاحب" الظلال" _ غفر الله له ورحمه:
(عقيدة المؤمن هي وطنه, وهي قومه, وهي أهله.. ومن ثَم يتجمع البشر عليها وحدها, لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلاٍ ومرعى وقطيع وسياج.
والمؤمن ذو نسب عريق, ضارب في شعاب الزمان, إنه واحد من ذلك الموكب الكريم, الذي يقود خطا ذلك الرهط الكريم: نوح, وإبراهيم, وإسماعيل, وإسحاق, ويعقوب, ويوسف, وموسى, وعيسى, ومحمد عليهم الصلاة والسلام.... {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [(52) سورة المؤمنون]ا.هـ. يتبع.
قراءة في كتاب "هُوِيّتُنا أَو الهِاويَةُ"(1) ...
- التفاصيل