عقيلة عائشة بن طويلة /يقظة فكر
العالم مسكونٌ بروح الإنسان منذ  الأزل، هذه الرّوح الممتدّة لأبعاد الكون والمتصلة ابتداءً بالوعي الجمعيّ للصنف البشريّ في سبيل تكوين عالم تتمحور أسسه في بقاء هذه الرّوح تُتوَارث جيلًا عن جيل بما يمكنه أن يقود الحِمل البشريّ والذاكرة الإنسانيّة نحو رؤية مستقبليّة للأرض كوطن والإنسان ككيان.
ولمّا ارتبط الإنسان بذاته وتعامل مع غيره، تميّز بقدرته في الجمع بين المتناقضات، وبالتالي كان وجوده محكومًا بمقياس الخير والشرّ اللذان لطالما كانا في صراعٍ دائمٍ ومستمر ابتداءً من “قابيل وهابيل” إلى “داحس والغبراء” ومن ثمّ  “الحربين العالميتين” إلى غاية يومنا هذا. صراعٌ لا ينفكّ أن يطال البشريّة جمعاء ويدخلها في دوّامة من الشقاء والبؤس اللا متناهي. ويتجسّد ذلك في استعمار الغريزة (1) البشريّة على الإنسان ككائنٍ واعٍ ومخلوقٍ عاقل، ولعّل أبرز ميادين هذا الصراع وساحاته، “السيّاسة” التي اعتبرها بورخيس النشاط الإنسانيّ الأكثر حقارة.
وبشيوع  التعصّب الفكري والانحياز الأيدلوجي كان القمع وتكريس الاستبداد وطغيان الإنسان على أخيه الإنسان، وبالتالي نشوب الحروب والنزاعات والمشاحنات التي لم تكد تبقِ على حضارةٍ إلّا وقوّضت عمادها وأهدرت دم عقلائها ومفكريها ومحورت أثمن رأسمالٍ في الوجود إلى آلة تُؤمر فتطاع وإلى وسيلةٍ لإشباع الرغبة الاستبدادية الأيديولوجيّة التي اعتقدت أن الإنسانية أثمن من الإنسان على قول أيزنهاور. وعليه يسود هزالٌ روحَ الإنسان الدّابة في أرضِ المستقبل وتفككٌ لكلّ ما من شأنه أن يعمل على بناء حضارةٍ وتخليد صرخة هذه الروح في كلّ نفسٍ لتنادي بالتحرر وتسعى لتأريخ إنسانيّة الإنسان.

إنّ ما يقدّمه جورج أورويل الحائز على جائزة نوبل للآداب على روايته “1984? هو التصور المحتمل للعالم في اللحظة التي يكون فيها النسيان فعّالًا. هذا النسيان الذي يكرّسه النظام القمعيّ المستبد تجاه الإنسان كهالات فكريّة وذاكرةٍ تاريخيّة وتجريد العقل الذي يناط به الخلقُ والإبداع إلى قوالب آليّةٍ تستمد وقودها من أيديولوجية الحزب الأوحد وحتميّة حب الأخ الكبير.

ففي مجتمع يستشري فيه الخوف المستديم من طرف المواطنين لخطرٍ محتمل الوقوع، مجتمع تُصادر فيه الحقوق وتُنتهك الحريّات وتكبت فيه كل محاولة للتفكير. مجتمع الشموليّة والطبقيّة والاستبداد، مجتمع شرطة الفكر والترصد والرقابة والمتناقضات. مجتمعٌ ينتهي به الماضي بالأمس ويجهض فيه الغد. مجتمع مواطنوه بلا ظلٍ ولا أبعاد. تغدو فيه الحياة على نحو رتيب خالٍ من المعنى، مفرغٍ من الحياة. فذي وزاراته الأربع، وزارة الحقيقة التي تزوّر الحقائق وتبتدع الأكاذيب، ووزارة الحب التي تسوم النّاس العذاب وتناهض العلاقة الجنسيّة بالمطلق، وكذا وزارة السلام المختصّة بشؤون الحرب والأسلحة، ووزارة الوفرة التي تعني بتجويع النّاس. وذا “الأخ الكبير” الشخصيّة الغامضة والزعيم الأوّل الذي يأتي في قمّة هرم الحزب يليه أعضاء الحزب الداخليّ فالخارجيّ وأخيرًا عامّة الشعب من الكادحين. أمّا شعارات الحزب فممثلة فيما يلي:
“الأخ الكبير يراقبك” -«Big Brother vous regarde»
“الحرب هي السلام..الحريّة هي العبودية..الجهل هو القّوة” – «La guerre, c’est la paix» «La liberté, c’est l’esclavage» «L’ignorance, c’est la force»
“من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي“

وفي خضم كلّ هذا كان وندسون سميث، مواطن يعمل بوزارة الحقيقة، يرى أمام ناظريه كيف يزوّر التاريخ ويُغيّر الماضي فلا يبقى له وجودٌ إلّا في ذاكرته. ومن هنا تأججت فيه رغبة السؤال وتخاطرت عليه الأفكار فلم يجد لها متنفسًا إلّا في مفكرةٍ كان قد اقتناها بعيدًا عن شاشات الرصد التي تحيط به من كلّ زاوية وجانب، وابتدأ عليها يخط قائلًا:

“لمن أكتب هذه المذكرات؟ أأكتبها للمستقبل؟ أم للأجيال القادمة؟

إلى المستقبل، أو الماضي، إلى الزمن الذي يكون فيه الفكر حرًّا طليقًا، إلى زمن يختلف فيه الأشخاص عن بعضهم البعض ولا يعيش كل  منهم في عزلة عن الآخر، إلى زمن تظل الحقيقة فيه قائمة ولا يمكن فيه لأحدٍ أن يمحُوَ ما ينتجه الآخرون. وإليكم من هذا العصر الذي يعيش فيه الناس متناسخين لا يختلف الواحد منهم عن الآخر. من عصر العزلة، عصر الأخ الكبير، من عصر التفكير المزدوج.. تحياتي.”

“سيرمونني بالرصاص بيد أنّي لا أبالي. سيطلقون النّار عليّ من الخلف غير أنّي لا أبالي. وليسقط الأخ الكبير.. إنهم دائما يطلقون النّار عليك من الخلف لكنّني لا أبالي. ليسقط الأخ الكبير. ليسقط الأخ الكبير..”

ويستمر وندنسون في تساؤلاته واستدلالاته محاولاً الوصُول إلى دليل يثبت صحّة فرضياته تجاه الحزب وطابعه الاستبداديّ، فيقيم علاقةً مع “جوليا” التي توافقه الرأي مكّنة للحزب الكراهيّة والمقت. ويحاولان معًا الانخراط في أيّ تنظيم للتآمر على الحزب ومحاولة تقويض أركانه. إذ كانت علاقتهما في حدّ ذاتها تحدّيًا سياسيّا وتفكيرهما ما يُطلق عليه “جريمة فكر” وبالتالي يكون قد انتقل من خطوة لأخرى، فالأولى كانت حصادَ عمليةٍ بدأها منذ سنوات وهي مجرّد فكرةٍ سريّة لا إرادية وأما الثانية فالمفكرة وكتابة المذكرات، وأما الثالثة  فهي الانتقال من الأفكار إلى الأقوال ومن ثم الأفعال.

وأخيرًا يتم القبض على الرفيقين ويُلاقي وندنسون بوزارة الحب على يد المحقق “أوبراين” من العذاب أعظمه ومن الخزي أشده ومن الألم ما لا يقوى بشرٌ على تحمّله، مارًّا بمراحل إعادة التأهيل الحزبيّ الثلاثة وهي التعلم ثم الفهم ثم القبول. إذ تبرز مقاومة وندسون الشديدة ضد الخضوع والركون المرتبط بإستراتيجيّة الحزب في محاولة محو كلّ شيء داخل الإنسان بل وإلغاءه وإعادته آلةً من صنعه.

فتجتمع بين سميث وأوبراين خطابات جدلية حول سياسة الحزب ووسائل حكمه وهيمنته على العقل بالأساس، ممثلةً في ما يلي:
شاشات الرصد:

يتعلّق الأمر بانتهاك الخصوصيّة وفرض الرقابة بإحصاء أنفاس المواطنين وحركاتهم ومصائرهم وتتبّع منحى تفكيرهم برصد كل ما من شأنه أن يغيّر بوصلة الولاء للأخ الكبير. باستخدام ما استحدث من تقنيات وتكنولوجيات، وبالتالي فنظام الحياة في المجتمع الأوقيانيّ مرهون بجعل الإنسان يعيش تحت هاجس المراقبة الدائمة. تحت شعار: “الأخ الكبير يراقبك”.

وهكذا يقول وندستون في مذكراته: “كان عليك أن تعيش بحكم العادة التي تحوّلت إلى غريزة مفترضًا أن كل صوتٍ يصدر عنك مسموع وأن كلّ حركة مرصودة، فالأخ الكبير يراقبك. عيناه تلاحقانك. على العملة، على الطوابع، على أغلفة الكتب على الأعلام، على علب السكاكر، في كل مكان ودائمًا عيناه تراقبانك و صوته يحيط بك وسواء كنت مستيقظًا أو نائمًا، داخل منزلك أو خارجه، في الحمام أو في الفراش، لا فرق.. لا مهرب لك. أنت لا تملك سوى تلك السنتيمترات المكعبة داخل جمجمتك“.
التفكير الازدواجي:

وهذا النوع من التفكير لا تنطبق عليه خصائص التفكير المنهجيّ الذي يسلّم بالمنطق كمقياس يخضع له الفكر البشري للصواب والخطأ، والذي يحتوي البديهيات كنقاط انطلاق لتكوين خواص جديدة، إلّا أن التفكير الازدواجي يقر بأن “2+2=4? في حين يقر ثانية أن “2+2=5? إذا  ما ألزم الحزب بذلك، وذلك دون أن تقع الأحكام الصادرة في أيّ تناقض.

وبالتالي فازدواجية التفكير هي: “أن تعرف ولا تعرف، أن تعي الحقيقة كاملة ومع ذلك لا تفتأ تقص الأكاذيب محكمة البناء. أن تؤمن برأيين متناقضين وأنت تعرف أنّهما لا يجتمعان، ومع ذلك تصدق بهما، أن تجهض المنطق بالمنطق، أن ترفض الالتزام بالأخلاق فيما أنت واحدٌ من الداعين إليها. أن تعتقد أن الديمقراطية ضربٌ من المستحيل في حين أن الحزب وصيّ عليها. أن تنسى كل ما يتعين عليك نسيانه ثم تستحضره في الذاكرة حينما تمس الحاجة إليه. ثم تنساه مرة ثانية فورًا. فالمفكر الحزبي يعرف الوجهة التي تأخذها ذكرياته عند تغييرها. ويعرف بناءا على ذلك أنه يتلاعب بالحقيقة ولكنّه بممارسة ازدواجية التفكير يقنع نفسه بأنه لم يدنّس الحقيقة، ذلك هو الدهاء الكامل أن تفقد الوعي عن عمد ووعي. وعليه، ففلسفة الحزب لا تنكر صلاحية التجربة فحسب وإنما تنكر أيضًا وبكياسة وجود الحقيقة الظاهرة.”.

ومن هنا يمكن الاستنتاج أنّ: كلما ازداد المرء فهما اتسعت هوة الوهم. وكلما اتقد ذكاؤه كان أقل حكمة. والمثال الأوضح على ذلك هو حقيقة أن هستيريا الحرب تتأجج كلما ارتقى المرء في السلم الاجتماعي إذ لا يقف من الحرب  موقفا عقلانيا إلا رعايا الأراضي المتنازع عليها.
إجهاض العقل وقتل التفكير:

إن المناخ الفكري في عصر الأخ الكبير، في “عالم 1984? يكون منعدما فيأخذ الصفر كقيمةٍ حديّة عظمى له. في حين يُسيطر الولاء الذي يعني انعدام التفكير، بل انعدام الحاجة إلى التفكير. الولاء هو عدم الوعي. وهذا ما يقزّم دور العقل ويهمّش أهميّته في التجديد ورفض كلّ أشكال التعنّت والطغيان.

“إنّ سبب وجودك هنا (المعتقل) يكمن في رغبتنا في مداواة علّتك، لنجعلك سليم العقل.. إننا لا نكترث للجرائم الحمقاء التي اقترفتها. فالحزب لا يهمّه ما تأتيه من أفعالٍ مكشوفة، إنما يهمّه أكثر ما يدور في رأسك من أفكار. نحن لا نحطم أعداءنا فحسب. وإنما نغير ما في أنفسهم.”

“إنّك العيب الذي شق النموذج العام، إنك الوصمة التي يجب محوها. ألم أقل لك قبل لحظات أننا نختلف عن طغاة الماضي؟. فنحن لا نقبل بالطاعة السلبية أو حتى بالخضوع. وعندما تُسلم لنا قيادك في النهاية يجب أن يكون ذلك نابعًا من إرادتك الحرة. إننا لا نحطم الضّال الذي خرج علينا عندما يقاومنا. بل إننا لا نقدم أبدًا على تدميره طالما أنه يقاومنا، وإنما نسعى لأن نغيره ونقبض على عقله الباطن فنصوغه في قالب جديد. إننا نبدد فكره ونجعله واحدًا منا قبل أن نقتله. إننا نجري للدماغ غسيلا شاملاً قبل أن نعصف به. نحن نختلف عن طغاة الماضي الذين يقولون: “يجب أن لا تفعل ذلك” وعن الاستبداديين الذين يقولون: “يجب أن تفعل ذلك” نحن نقول: “كن”.”

“إن أول ما يتوجب عليك فهمه هو أننا لا نسمح لأحد بأن يخرج من هذا المكان شهيدا. لا بد أنك قرأت عن الاضطهاد الديني في الماضي والذي مورس في العصور الوسطى تحت ما يسمّى بمحاكم التفتيش التي فشلت فشلًا ذريعًا، لقد أنشأت تلك المحاكم لاستئصال شأفة الهرطقة، لكنّها على العكس كرّست وجودها. ففي مقابل كلّ هرطقي يُحرق على شده على الخازوق كان يظهر الآلاف غيره، فما السبب يا ترى؟ السبب هو أن محاكم التفتيش كانت تقتل أعداءها جهارًا نهارًا وتجهز عليهم قبل أن يتوبوا. وفي الواقع كانوا يحرقون لأنهم لم يظهروا ندامتهم أو يعلنوا توبتهم، ومن ثم كان النّاس يُحرقون لأنهم يرفضون التخلي عن معتقداتهم الصحيحة، وبالطبع كان المجد كلّه يؤول إلى الضحيّة.  بينما يبقى كل الخزي من نصيب المحقق. وفيما بعد في القرن العشرين، ظهر ما يسمّى بالحكم الاستبدادي، فكان هناك النازيّون الألمان والشيوعيون الروس الذين كان سجلهم في اضطهاد مناوئيهم حافلا بقسوة تفوق ما اقترفته محاكم التفتيش. ومن ذلك كانوا يظنون أنهم تعلّموا من أخطاء الماضي، فقد كانوا على أي حال يدركون أنه ينبغي عليهم ألا يجعلوا من خصومهم شهداء. ولذلك كانوا لا يقدمون ضحاياهم للمحاكمات العلنيّة إلا بعد أن يستوثقوا من تحطيم كرامتهم وإذلالهم، إذ كانوا ينهكون قواهم بالتعذيب ويعزلونهم عن العالم حتى يتحولوا إلى مسوخ ذليلة وحقيرة ويعترفون بكل ما يوضع على ألسنتهم ويصمون أنفسهم بالخزي والعار، ويتهم بعضهم بعضًا ويتضرعون طلبًا للرحمة، ومع كل ذلك لم تكن تمر سوى بضع سنوات حتى يتكرر الشيء نفسه ثانية. إذ يتحول الموتى إلى شهداء بينما يُنسى ما لحق بهم من ذل وهوان. والسؤال لماذا حدث هذا؟ والجواب هو أولاً، لأن الاعترافات التي يدلون بها كانت كاذبة وتنتزع منهم قسرًا، أما نحن فلا نقترف مثل هذه الأخطاء. فكل الاعترافات تجري هنا صحيحة، إننا نجعلها كذلك، وفضلا عن كل ذلك نحن لا نسمح للموتى أن يبعثوا من قبورهم ليناهضونا. ولذلك يجب عليك أن تكف عن التوهم بأن الأجيال القادمة ستبرئ ساحتك وتجعل منك شهيدًا. إنهم لن يسمعوا عنك أبدًا لأنّك ستُزال تمامًا من سجل التاريخ. سنحيلك إلى غاز ثم نطلقك في الهواء. سنجعلك نسيًا منسيًّا. ولن يبقى منك شيء، لا اسمًا في سجل ولا أثرًا في ذاكرةٍ حيّة. ستمحى كل علاقةٍ لك بالماضي كما بالمستقبل وستصبح وكأنك لم تكن.”

“لا تتصور أنك ستنقذ نفسك يا ونستون، مهما كان استسلامك لنا مطلقا فما من امرئ انحرف مرّة عن جادة الصواب ثم أبقينا على حياته، وحتى لو اخترنا أن نتركك تعيش إلى أن ينقضي أجلك فتموت ميتة طبيعية فلن يمكنك أبدا أن تفلت من قبضتنا وما حدث لك هنا سيعيش معك أبد الدهر. فعليك أن تعي ذلك سلفا. إننا سنسحقك إلى درجة لا يمكنك بعدها أن تعود بحياتك إلى سيرتها الأولى. وستحدث لك أشياء لن يمكنك أن تبرأ من آثارها حتى لو عشت ألف عام وأبدا لن تقدر ثانيةً على الشعور بما يشعر به الأحياء، إن كل شيء سيموت داخلك ولن تعود قادرا على الحب أو الصداقة أو الاستمتاع بالحياة أو الضحك أو حب الاستطلاع أو الشجاعة أو الاستقامة. ستكون أجوف لأننا سنعصرك حتى تصبح خواء من كل شيء ثم نملأك بذواتنا.”
النظرة الماديّة:

وتتجلّى الماديّة في الحزب بإيمانه المطلق بالاعتقاد القائل بأنه لا وجود لشيء خارج إدراك الإنسان فينسبون لنفسهم قوانين الطبيعة وقدرتهم على الإخلال بنظامها بل وبما يمتلكونه من تقنية عالية التطور يمكنهم إنشاء نظام محسوس للسيطرة الشاملة بمقتضى عبارة “إننا نسيطر على المادة بسيطرتنا على العقل. والواقع يكمن في جمجمة الإنسان”.
الضعف الإنسانيّ:

إنّ الضعف الإنسانيّ ناهيك عن الألم الجسديّ وما يخلّفه من ضرر وسوء يتعدّى كل أشكال الألم ليواجه مكمن النقطة الحرجة الخّاصة بكلّ ذاتٍ بشريّة. ليواجه نقطة ضعفها فيسلبها كلّ إرادةٍ ويقهرها بالإذعان والاستسلام وهو ما انتهى إليه وندنسون في جملته الشهيرة: “لا تفعلوا ذلك بي، افعلوه بجوليا“.  وبذلك استطاع الحزب تحويل نقاط ضعف مناوئيه إلى نقاطك قوّة له لقهرهم إذ يقول أوبراين:

“إن الألم وحده لا يكون علاجا كافيا، فهنالك حالات يمكن للإنسان أن يحتمل الألم فيها ولو أدى ذلك إلى الموت. بيد أن هنالك شيئا لا يمكن لأحدٍ كائنًا من كان أن يتحمله بل لا يمكنه حتى التفكير فيه. إنّه شيء تستوي فيه الشجاعة والجبن، فإذا كنت تسقط من ارتفاعٍ شاهق فإنه ليس جبنًا أن تتعلق بحبل، وإذا أخرجت من أعماق المياه فليس من الجبن أن تملأ رئتيك بالهواء، فهذه الأعمال تتم بالغريزة ومن ثمّ لا يمكن قمعها. وهذا إنما ينطبق على “الجرذان” فهي بالنسبة إليك أمرٌ لا يحتمل، إنها نوعٌ من الضغط الذي لا يمكنك احتماله حتّى إذا أردت ذلك وحينئذٍ تجد نفسك تفعل ما يُطلب منك”
شعبٌ بلا تاريخ، شعب بلا ذاكرة، شعبٌ بلا مستقبل:

ذاكرة المجتمع بميزان هويّته الحيّة ونسيجه الضّام الذي تتناسق فيه الأفكار واللغة والأحداث والتواريخ  مشكّلة صورة حيّة للوعي الإنسانيّ الذي يمتد نحو خيوط المستقبل بتراكم طبيعي للماضي يتمثل في الحاضر والذي بدوره يبصر المستقبل.

ولمّا كان الاستبداد لوي عنق التاريخ وسُيطر على الماضي فضاعت ذاكرة المجتمع وبالتالي مستقبله. وهو ما يفسّر شعار الحزب الذي يجسّد النظرية السياسية: من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي

“هل تعلمين (يا جوليا) أن الماضي ابتداء من الأمس قد تم محوه تماما؟ إننا لا نكاد نعرف شيئا محددا عن الثورة والسنوات التي سبقتها. فكل السجلات تم إتلافها وكل كتاب أعيدت كتابته. وكل صورة أعيد رسمها. واسم كل تمثال وشارع وبناية جرى استبداله. وكل تاريخ جرى تحريفه. ومازالت هذه العملية متواصلة يوما بعد يوم ودقيقة بدقيقة. لقد وصلنا إلى نهاية التاريخ وانتفت صفة الوجود عن كل شيء عدا الحاضر الذي لا نهاية له والذي ينطق بأن الحزب دائما على حق. إنني أعلم أن الماضي يزيف. ولكن لن يكون بمستطاعي إطلاقا أن آتي ببرهان على ذلك حتى ولو كنت أنا الذي قمت بالتزييف. فبمجرد الانتهاء من التزييف يجري إحراق كل دليل حي والدليل الوحيد هو ذلك الذي يبقى داخل عقلي ولا أعرف يقينا إن كان هنالك إنسان آخر يشاركني في ما أحمل في ذاكرتي أم لا.”

ونقرأ في صفحات الرواية: “وبهذا يصبح التأريخ عبارة عن لوح ممسوح، يعاد نقشه كلما كان ذلك ضرورياً..كل شيء قد تلاشى, في عالم مضلل, أصبح فيه حتى تأريخ السنة, عرضةً للشك”
اللغة والفكر:

علاقة اللّغة بالفكر –بغض النظر عن المواقف الفلسفيّة- علاقة تكامل وتلاحم وظيفيّ، فتقدم الفكر يعني بالضرورة تقدم اللّغة وتطور طرق التعبير على النشاط الفكري ذاته. فاللغة باعتبارها نسقًا يتيح للإنسان إنتاج الفكر والتعبير عنه، إذ تساهم بشكلٍ مباشر في ضمان ديمومة واستمراريّة التفكير وقيام الحضارات وبلوغها الأوج والذروة.

وفي “عالم 1984? يتضح مدى البعد السياسيّ في تدمير اللّغة إذ  يأتي على لسان أحد شخوص الرواية (سايم) ما يلي:

“إننا نقوم بتدمير الكلمات –عشرات بل مئات الكلمات- كل يوم يجري تدميرها، إننا نسلخ اللغة حتى العظام، ألا ترى أن الغاية النهائية للغة الجديدة هي التضييق من آفاق التفكير؟ بحيث تصبح جريمة الفكر في نهاية المطاف جرما مستحيل الوقوع من الناحية النظرية، وذلك لأنه لا توجد كلمات يمكن للمرء من خلالها أن يرتكب هذه الجريمة. فكل مفهوم يحتاج إليه الناس سيتم التعبير عنه بكلمة واحدة محددة المعنى وغير قابلة للتأويل. أما معانيها الفرعية فسيتم طمسها حتى تصبح طي النسيان.

فكلّما تناقص عدد الكلمات عامًا بعد عام كلّا يتضاءل مدى الوعي والإدراك شيئا فشيئا. فالثورة تيلغ أوجها حينما تكتمل اللغة ويتم إتقانها.”.وبهذا تتضح أبعاد شعارات الحزب فيما سبق.

لقد كان وندنسون يعلم كل ذلك بيد أنّه لا يفهم الغاية من كلّ ذلك، إذ كتب يقول:” لقد فهمت “كيف” لكنّي لم أفهم “لماذا؟“” وهو ذا أوبراين يجيب: ” تفهم جيدا كيف يحتفظ الحزب بالسلطة ولكنك لا تفهم لماذا؟

إن الحزب يسعى إلى بلوغ السلطة لذاتها تلك السلطة المطلقة. السلطة غاية وليست وسيلة. لا نسعى وراء الثروة ولا الرفاهية ولا العمر المديد ولا السعادة. إننا ندرك أنه ما من أحد يمسك بزمام السلطة وهو ينتوي التخلي عنها. فالمرء لا يقيم حكما استبداديا لحماية الثورة وإنما يشعل الثورة لاقامة حكم استبدادي. إن الهدف من الاضطهاد هو الاضطهاد. والهدف  من التعذيب هو التعذيب وغاية السلطة هي السلطة. والسلطة هي سلطان على البشر، على أجسامهم وعلى عقولهم قبل كل شيء. أما أن يكون لك سلطان على المادة فليس بالأمر الهام إذ نحن نسيطر على المادة سيطرة مطلقة.”
إذا استطاع المرء أن يشعر بأن بقاءه إنسانا هو أمر يستحق التضحية من أجله حتى لو لم يؤد ذلك إلى نتيجة فإنه يكون قد ألحق بهم الهزيمة.

-         2+2=4

«La liberté, c’est la liberté de dire que deux plus deux font quatre.»

“الحرية هي حرية القول أن اثنين واثنين يساويان أربعة فإذا سلّم بذلك سار كل شيء آخر في مساره السليم”. وهكذا ثار وندنسون على قانون التفكير الازدواجي بأسس التفكير المعتمدة على المنطق والتسليم بالبديهيّات إذ يقول: البديهيّات الواضحة عليك أن تتمسك بها، إن العالم المادي موجود، وله قوانين لا تتغير، فالحجارة صلبة والماء سائل، والأشياء التي لا ترتكز على شيء تهوي نحو الأرض.

وبهذه المسلّمة استطاع أن يصل إلى حقيقة أن العقل ليس مسألة إحصائيّة بواسطة تمتماته بينه وبين نفسه وباستمراره في ستتواصل. فليس بمجرد إسماع الآخرين صوتك بل ببقائك سليم العقل يمكنك مواصلة حمل التراث الإنساني. على حد تعبير الكاتب.
لن يثوروا حتى يعوا ولن يعوا حتى يثوروا

إنّ إيمان وندنسون بضرورة قيام النضال المسلح والثورة الشعبية كان متأتيًا من سلوكيّات عامة الشعب وولائهم الذي لا يقر بالحزب وإنما ببعضهم البعض، فالخلود مرتبط بهم، والمستقبل ملكهم، إذ سوف تتحول القوة إلى وعي. وتوجد المساواة بوجود العقل، فالثورة المسلّحة تتطلب الوعي ولا يمكن تحقيقه إلّا بثورة العقول والأفكار، فيذكر في مذكراته:

“إن كان هنالك من أمل فالأمل يكمن في عامة الشعب وعليك الإيمان بذلك..”

“أمر الانتفاضة يعرف من نظرةٍ في العيون أو نبرة في الصوت أو في الغالب بكلمة يهمس بها من وقت لآخر. لذلك لو أمكن لعامة الشعب أن يدركوا مدى قوتهم لما كان هنالك حاجة للتآمر فكل ما يحتاجه الأمر أن ينتفضوا مثلما ينتفض الحصان لإزالة الذباب بعيدا عنه.”

“الناس الذين تظلهم السماء يتشابهون إلى حد كبير أينما كانوا. ففي جميع أنحاء العالم يعيش مئات ألوف من ملايين الأشخاص على هذا المنوال. حيث يجهل بعضهم وجود بعض. وتفصل بينهم جدران من الكراهية والأكاذيب ومع ذلك فإنهم متماثلون. أناس لم يتعلموا أبدا كيف يفكرون ولكنهم يختزنون في قلوبهم وبطونهم وعضلاتهم القدرة التي يمكن في يوم من الأيام أن تقلب نظام العالم.”

“لا بد أنهم سيستيقظون في نهاية الأمر إذ أنهم أحياء رغم كل الظروف مثل الطيور تنقل الحيوية من جسم إلى جسم من دون أن يتمكن الحزب من تقاسمها معهم أو حتى قتلها.”

“إن الطيور تغني والعامة تغني بيد أن الحزب لم يغني. وفي جميع أنحاء العالم في لندن ونيويورك وإفريقيا والبرازيل وفي الأراضي المحرمة الواقعة وراء الحدود والتي يلفها الغموض وفي شوارع باريس وبرلين وفي قرى السهول الروسية الشاسعة وأسواق اليابان والصين. في كل مكان تنتصب شبيهات هذه المرأة ذات القوام الصلب الذي لا يكل ولا يمل واللائي تضخمت أجسامهن من جراء العمل وإنجاب الأطفال والكدح من المهد إلى اللحد ومع ذلك يغنين. ومن أصلاب هؤلاء سيخرج حتما جيل واع. فإذا كنا من الأموات فإن المستقبل لهم. إلا أنه من الممكن المشاركة في ذلك المستقبل إن استطعنا إبقاء العقل منا حيا كما يبقون هم أجسادهم حية. ونقلنا العقيدة السرية التي مفادها أن اثنين واثنين يساويان أربعة إلى القادم من الأجيال.”
“تحت شجرة الكستناء ذات الأغصان الوارفة

بعتك وبعتني..”

وهكذا يؤول نضال وندستون إلى الفراغ والموت، الذي انطوى على غسيل المخ الذي مُورس عليه. فصار بما يُطلق عليه الحزب “المواطن المثالي” فيختم نهايته: “وهكذا انتصرت على نفسي وصرت أحبّ الأخ الكبير“.

هو ذا التصور الذي أسهب به جورج عن عالمٍ متصدّع تتحكم فيه الأيديولوجيّة الحزبيّة، ويلغى فيه العقل وتجرّد منه الإنسانيّة من كلّ مظاهرها، “عالم 1984? يصلح أن يكون أحد دروس “كيف تكون مستبدًا”. ورغم الطابع السوداويّ الذي أفضت إليه الرواية. إلّا أنها حملت الكثير عمّا حدث ويحدث في العالم. كما أنّها حملت الحلم الذي انتفضت به شعوب الربيع العربيّ. الرواية التي أثبتت لي أن الجنون هو السبيل وأن مسألة العقل ليست مسألة إحصائيّة.

ومن هنا أقول: لم يخن وندستون جوليا التي أخبرته أنّ قلبه المكنون والذي لا يمكنه نفسه سبر أغواره يظل حصنًا منيعًا عليهم!” كما أنّ جوليا لم تخنه. ولم يخن وندستون عامة الشعب وذاته، لم يخن حلمه. ظلّ مخلصًا. كما ظلَّت بذور الوفاء تستنشقها الأجيال المتلاحقة إلى يومنا. وذلك لأنّه أثبت في عصر الأخ الكبير أنّه طفرة وراثية في عصر التفكير المزدوج، وأنّ قوة العقل لا بدّ أن تنتصر حتّى وإن أبيدت في سياق ما توقعه جورج وأسبل لنا وقائعه.

إنّ قوى الشّر مهما قوت شوكتها واستغلظت عزيمتها فلا بدّ أن تنحي تحت وطأة رجل الفطرة الذي يهديه عقله لجادّة الصواب وعين الحقيقة البيّنة بيان الشمس. فروح الإنسان لن تفتأ تضلّ الطريق حتّى تبلغ العقل المفكر والناقد الممحص الذي يقود الأمم نحو الرقيّ بالإنسان وتخليد ذاكرته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع كتاب استعمار الغريزة للمهندس محمد صالح البدراني.

*رواية “1984? لجورج أورويل.

JoomShaper