للدكتور: عبدالحكيم الأنيس
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه.
وبعد:
فإنه لا يخفى علينا الدور المهم الذي تحتلُّه الأسرة في المجتمع؛ فهي اللَّبنة الأساسية في بنائه، وقد أَولاها الإسلام اهتمامًا خاصًّا؛ حيث ذُكرت الأسرة في كثير من آيات القرآن والأحاديث.
وقد اخترتُ عرض هذا الكتاب: (رعاية الأسرة المسلمة للأبناء: شواهد تطبيقية من تاريخ الأمة؛ للدكتور الشيخ عبدالحكيم الأنيس)؛ لما رأيتُ فيه من اختلاف وتميُّز عن بقية الكتب، فقد جاء بمواقف فيها تطبيقٌ عملي على التأصيل الذي ذُكر في التاريخ الإسلامي عن تربية الأبناء، وقد نسقها المؤلف بأسلوب جميل، مشوِّق، يَجذب القارئ ويبعده عن الملَل، فهو يفتح لنا نافذةً جميلة على ماضي الأمَّة الإسلامية، واهتمامها بالأطفال وتنشئتهم النَّشأة الصالحة التي تعدهم لتحمل المسؤوليات.
وقد بدأ المؤلِّف الكتابَ بتمهيد موجز؛ ذكر فيه مفهومَ الأسرة، ثمَّ بعض القصص الناجحة لأشخاص معروفين في التاريخ الإسلامي، والذين كانوا ثمرة التطبيق الصحيح لتعاليم
الإسلام في تربية الأبناء.
وقسَّم المؤلف الكتابَ إلى اثنين وعشرين عمودًا، تحدَّث في كلٍّ منها عن ركن أساسي من أركان الرعاية الأسرية، وجاء بأمثلة متنوعة، وقصص من التاريخ تدعمها وتبينها، وتجعلها ثابتة في ذاكرتنا.
أمَّا العُمُد التي ذُكرتْ في الكتاب فهي كالآتي:
العمود الأول: الصَّلاح الذاتي.
العمود الثاني: استحضار حقوقهم في الذِّهن والاهتمام بذلك.
العمود الثالث: الدعاء والْتِماس الدعاء لهم.
العمود الرابع: عرضهم على الصالحين.
العمود الخامس: إطابة مطعمهم.
العمود السادس: تربيتهم وتوجيههم إلى العلم والعمل به نصحًا وتطبيقًا.
العمود السابع: إحضارهم مجالس العلم وهم صغار.
العمود الثامن: مباشرة تعليمهم بالنفس.
العمود التاسع: تفخيم أمر العلم في قلوبهم وعقولهم ونفوسهم.
العمود العاشر: النفقة عليهم في تعلُّم العلم النافع.
العمود الحادي عشر: متابعتهم في أمورهم الصغيرة والكبيرة.
العمود الثاني عشر: تعليمهم أدب الكلام.
العمود الثالث عشر: العمل على تكوين شخصيتهم الاجتماعية.
العمود الرابع عشر: ربطهم بالله سبحانه وتعالى.
العمود الخامس عشر: إعانتهم على سبل الخير.
العمود السادس عشر: تلبية متطلبات الفطرة والغريزة.
العمود السابع عشر: برهم ورعاية مشاعرهم.
العمود الثامن عشر: تعليمهم اختيار الأصدقاء.
العمود التاسع عشر: تضافر جهود الأسرة والأقارب على هذه الرعاية.
العمود العشرون: الكتابة والتأليف لهم.
العمود الحادي والعشرون: عدم إدخال الغم عليهم.
العمود الثاني والعشرون: عناية العلماء والرؤساء بأبناء المسلمين.
ومما يثير الإعجاب في هذا الكتاب أسلوبُ المؤلِّف الجميل في تنسيق الكتاب، وسرد الأخبار، فنحن نجد تعليقًا في نهاية كل عمود - بعد ذكر الأخبار - ممَّا يساعدنا على فَهم المغزى من ذِكرها، وفهم طريقة تفكير الأشخاص الذين قرَأنا عنهم، وفي نفس الوقت يعدُّ تلخيصًا لطريقةٍ من طرق التربية السليمة.
وقد اتَّبع المؤلف أسلوبًا ذكيًّا لتبيين أهميَّة الأسس السليمة للتربية؛ وقد تمثَّل هذا الأسلوب في ذِكر صوَر سلبيَّة بعكس الصور الجيدة المذكورة في العمد؛ وذلك لتبيين الفرق، ثم تأتي النتائج تلخيصًا لما سبق، وختامه مِسك في الخاتمة؛ فقد كانت نداءً إلى الآباء والأمَّهات، يضعهم وجهًا لوجه مع الواجب عليهم إدراكه من أساليب التربية والاهتمام بالأبناء.
وسوف أذكر في عرضي هذا نبذة مختصرة عن كلِّ عمود من العمد، مع ذكر بعض القصص والأخبار المذكورة فيها لتدعيمها.
العمود الأول: الصلاح الذاتي:
ويقصد المؤلف بالصَّلاح الذاتي صلاح الأهل في أنفسهم؛ ممَّا يؤدي إلى صلاح أبنائهم، سواء بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر، وكما أنَّ لصلاح الأهل أثرًا جيدًا في أبنائهم، كذلك للمعصية أثرها.
ومن الأقوال المتميزة في هذا المجال قول التابعي الجليل مجاهد بن جبر: "إنَّ الله عزَّ وجل ليُصلِح بصلاح العبد ولدَه، وولد ولده".
وكما ذكر؛ فإن للمعصية أثرها أيضًا، فقد قال الإمام الفضيل بن عياض: "إني لأعصي اللهَ، فأعرِف ذلك في خُلُق حماري وخادمي".
العمود الثاني: استحضار حقوقهم في الذهن والاهتمام بذلك:
فقد اهتمَّ الأهل بتربية أبنائهم اهتمامًا كبيرًا، حتى أصبح ذلك هاجسًا يذكرونه في مَجالسهم؛ ومثال هذا قيس بن عاصم عندما كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يوصي بشيء فقال قيس: "وددتُ لو كان هذا الكلام شعرًا نعلِّمه أولادنا"؛ فهذا القول يدلُّ على تحمُّل قيس للمسؤولية وتفكيره بطرق مختلفة لإيصال المعلومة لأبنائه ممَّا يعد تصرفًا واضحًا يدلُّ على حِرص الآباء على إيصال المعلومة إلى أبنائهم بطرق مختلفة؛ ومنها الشعر.
العمود الثالث: الدعاء والتماس الدعاء لهم:
لا يخفى علينا أنَّ الدعاء ركن أساسي من أركان التوفيق في الحياة، وقد اهتمَّت الأسرة المسلمة به اهتماما خاصًّا، فنحن نعلم أنَّ دعوة الأب والأم للأبناء تخترق السَّبع الطباق، وتفتح لهم الأبواب الموصدة، وتحفظهم في حياتهم، ولم يكن الدُّعاء فقط بعد ولادة الأبناء وأثناء نشأتهم، ولكن حتى قبل الحمل بهم؛ فقد روي عن الشيخ عبدالله العيدروس أنَّه كان يقول: "كنتُ كثير الدعاء في سجودي أن يرزقني الله ولدًا عالمًا سنيًّا".
العمود الرابع: عرضهم على الصالحين:
والهدف من ذلك الْتِماس دعواتهم، وطلَب نصحهم وإرشادهم، وله فائدة أيضًا بربط الأبناء بالصالحين، وتعويدهم أو تدريبهم على التُّقى والصلاح، مما ينفعهم عند كِبرهم وتذكُّرهم لهؤلاء الصالحين ورجوعهم إليهم.
العمود الخامس: إطابة مطعمهم:
من المشهور قول العلماء: "مَن أكل الحلال أطاع اللهَ شاء أو أبى، ومَن أكل الحرامَ عصى اللهَ شاء أم أبى".
ولهذه المقولة أهمية كبيرة؛ لأنها توجِّهنا إلى الاهتمام بإطعام الأبناء طعامًا حلالًا حتى يَنشؤوا صالحين بعيدين عن المعاصي، فهذه وسيلة من وسائل الوقاية، وحسن التربية، سواء في ذلك حاضر الأبناء ومستقبلهم.
العمود السادس: تربيتهم وتوجيههم إلى العلم والعمل به نصحًا وتطبيقًا:
ومن أشهر الأمثلة على ذلك الإمام المعروف مالِك بن أنس رحمه الله؛ حيث رُوي أن أمَّه كانت تقول له: اذهب إلى ربيعة فتعلَّم من أدبه قبل علمه.
وقد تعدَّدَت الأمثلة وكثرَت في هذا العمود لغزارة اهتِمام الأسَر المسلمة في العصور الماضية بتعليم أبنائهم العلم النَّافع، ودفعهم إلى طريق البرِّ والخير، ومما يدلُّ على ذلك كثرة العلماء والمفكِّرين والصالحين في تاريخنا الإسلامي؛ فلو أنَّنا بحثنا في ماضي الكثير من هؤلاء العلماء لوجدنا دعمًا وتشجيعًا من الأهل أولًا، وبيئة صالحة تشجِّعهم على طلب العلم ثانيًا.
وممَّا لفت انتباهي هنا قولُ العالم الصالح عروة بن الزبير بن العوام لبَنيه: "يا بَني، تعلَّموا؛ فإنَّكم إن تكونوا صغارَ قوم عسى أن تكونوا كبارهم، وا سوءتاه! ماذا أقبح من شيخ جاهل؟!".
فطريقة استنكار الأب هنا للجهل، تجعله كريهًا إلى نفوس الأبناء.
وهنا تأتي إلى أذهاننا فِكرة عمل الأطفال؛ فكثير من الأهالي يدفعون بأبنائهم إلى العمل، بدون الاهتمام بتعليمهم أو تَنشئتهم النَّشأة الصَّالحة؛ ممَّا يؤدِّي إلى فسادهم أو انحرافهم أو ضياع مواهب كان من الممكن أن تصبح مشهورة على مستوى العالم.
العمود السابع: إحضارهم مجالس العلم وهم صغار:
كان من عناية الأسرة المسلمة بأبنائها أنهم كانوا يُحضرونهم مجالس العلم وهم صِغار غير واعين ولا مدركين؛ ممَّا يجعلهم على ارتباطٍ فيما بعد بهذه المجالس، وتتعلَّق قلوبهم بها؛ ليكون ذلك أساسًا لهم لتتفتَّح عقولهم ومداركهم على حبِّ العلم والتعلُّق به.
العمود الثامن: مباشرة تعليمهم بالنفس:
كان من رِعاية الأسرة المسلمة أن يتولَّى العالم فيها مباشرة تعليم الأبناء بنفسه ما وجد إلى ذلك سبيلًا، وهذا إن دلَّ فإنَّه يدلُّ على حِرص الأسرة المسلمة على تربية أبنائها بالشكل الصحيح؛ فإن كان الأب عالمًا فمن مسؤوليته نقل ذلك العلم إلى أبنائه وعدم كِتمانه عنهم؛ لأنَّهم أَولى بذلك من الآخرين.
العمود التاسع: تفخيم أمر العلم في قلوبهم وعقولهم ونفوسهم:
إن تفخيم المفخَّم، وتعظيمَ المعظَّم لهو ركن أساسي من أركان التربية؛ لما فيه مِن غرس المبادئ والقِيم في نفوس الأطفال ليشبُّوا عليها، ويتعوَّدوا على وجودها، فتصبح شيئًا أساسيًّا في حياتهم لا غِنى لهم عنه.
العمود العاشر: النفقة عليهم في تعلُّم العلم النافع:
إنَّ النفقة على الأبناء بشكل عام هي عمَل مأجور ومشكور، فكيف إذا كانوا طلَّابًا للعلم؟! وقد تعدَّدَت الأمثلة وكثرت في هذا العمل؛ لما كان من اهتمام الأهل بتعلُّم العلم، وتعويد أبنائهم على طلبه.
العمود الحادي عشر: متابعتهم في أمورهم الكبيرة والصغيرة:
كانت الأسرة المسلِمة تهتم بأدقِّ التفاصيل المتعلقة بأبنائها، ولا يترك الأهل صغيرةً ولا كبيرة إلَّا استغلُّوها في تعليمهم وتربيتهم التربية الصَّحيحة، وإعطائهم النصحَ والتوجيه الكافي ليصبحوا أهلًا للمسؤولية، فقد تعدَّدَت مناسبات النصح والتوجيه؛ فمن الأهل مَن نظم الشِّعر ومزج فيه النصائح؛ مثل قول مسعَر بن كدام الكوفي يوصي ابنه:
إنِّي منحتُك يا كِدام وصيَّتي
فاسمع لقولِ أبٍ عليك شفيقِ
أمَّا المزاحة والمراء فدَعْهما
خُلُقان لا أرضاهما لصديقِ
إنِّي بلوتُهما فلم أحمَدهما
لمجاورٍ جار ولا لرفيقِ
والجهلُ يزري بالفتى وعمومه
وعروقه في النَّاس أي عروقِ
ومنهم مَن اهتمَّ بالتوجيه حتى وهو على سرير الموت؛ مثل أبي الصَّلت أمية بن عبدالعزيز الأندلسي.
فإنَّ لمتابعة الأبناء والحرص على فعلهم الخير أثرًا كبيرًا في استِقامة شخصيتهم، وبعدهم عن كل ما يَسوءهم أو يضرهم.
العمود الثاني عشر: تعليمهم أدب الكلام:
كان ممَّا اهتمَّت به الأسرة المسلمة اهتمامًا كبيرًا تعليم أبنائها أدبَ الكلام، والاهتمام بمتابعة ألفاظهم والتدقيق عليها في جميع المناسبات والمواقف؛ فهو أدَب رَفيع وراقٍ، ومن الآداب المطلوبة، سواء في العصور الماضية أو في عصرنا الحالي؛ لِما له من فائدة للشَّخص نفسه، أو مَن يحيطون به.
ولم يحرِص الأهل على التعليم بأنفسهم فقط، ولكن حرصوا أن يَبعثوا أولادهم إلى مَن عرف عنهم حسن الكلام، والتقوى والصَّلاح؛ مثال ذلك: قصَّة السليط بن بسطام التميمي حيث قال: قال لي أبي: الزَم عبدالملك بن سعيد بن أبجر، فتعلَّم منه توقيه في الكلام، فما أعلَم بالكوفة أشد حفظًا للِسانه منه.
العمود الثالث عشر: العمل على تكوين شخصيتهم الاجتماعية:
حرصَت الأسرة المسلمة أشد الحرص على تكوين شخصيَّة أبنائها الاجتماعية، وصقلها، وتهذيبها، وقد تعدَّدَت الأساليب والطُّرق لذلك، ولكن ممَّا يلفت النَّظر الاهتمام الكبير الذي كان عند العرب بذلك، لدرجة أنَّهم إذا تعلَّم الولد علمًا أو حذق في شيء نحروا جزورًا؛ كما ذُكر في خبرٍ عن عبدالله بن الحسن أنه قال لأبيه: إنَّ ابني فلانًا حذق، فقال الحسن: "كان الغلام إذا حذق قبل القوم نَحروا جزورًا (جملًا)، وصنعوا طعامًا للناس".
وهذا الاهتمام والتشجيع والاحتِفاء يَترك أثرًا جميلًا وقويًّا في نَفس الابن من الصَّعب أن ينساه، وهو يشجِّعه على الاستمرار على هذا الطريق الجيد أيضًا.
العمود الرابع عشر: ربطهم بالله سبحانه وتعالى:
إن من أجمل الأشياء أن يرتبط قلبُ الإنسان بربِّه، فيحبه، ويخشاه، ويمنعه الحياءُ منه عن المعاصي، وكان من أهمِّ الأشياء التي حرصَت الأسرة المسلمة على فعلها رَبط الأبناء بالله تعالى وإقامة هذه الرَّابطة على أسس متينة.
فمن هذه الأسس:
• تعليمهم كيفيَّة الصلاة، ومن أجمل الأخبار في هذا المجال ما روي عن معاوية بن قرَّة قال: قال معاذ بن جبل لابنه: "يا بنيَّ، إذا صلَّيتَ فصلِّ صلاة مودِّع لا تظن أنك تعود إليها أبدًا، واعلم يا بني أنَّ المؤمن يموت بين حسنتين؛ حسنة قدَّمها، وحسنة أخَّرها".
• ومنها: حثهم على قيام الليل؛ كقول إبراهيم ابن الإمام وكيع الكوفي: "كان أبي يصلِّي الليل، فلا يَبقى في دارنا أحد إلَّا صلى، حتى إن جارية لنا سوداء تصلِّي".
• وأيضًا تذكيرهم بالموت والقدوم على الله تعالى، ووصيَّتهم لهم بأن يكون فرَحهم بالله سبحانه؛ كقول عائشة بنت الشيخ أبي عثمان النيسابوري: قالت لي أمِّي: "لا تفرحي بفانٍ، ولا تجزعي من ذاهب، وافرحي بالله عزَّ وجل، واجزعي من سقوطك من عين الله عز وجل"، ومن الكلام الذي أعجبني في هذا القسم بقيَّة وصيَّتها: "الْزَمي الأدب ظاهرًا وباطنًا، فما أساء أحدٌ الأدب في الظاهر إلَّا عوقب ظاهرًا، ولا أساء أحد الأدب باطنًا إلَّا عوقب باطنًا".
• وكانوا يحضرونهم مجالِس ختم القرآن لتعود عليهم برَكة ذلك؛ كما قال محمد ابن العالم الزَّاهد زهير بن محمد البغدادي: كان أبي يَجمعنا في وقت ختمه القرآن في شهر رمضان، في كل يوم وليلة ثلاث مرَّات، تسعين ختمة في شهر رمضان.
• وكان من نَهج السَّلَف كِتمان عبادتهم النَّافلة وكتمان حالهم مع الله تعالى كتمانًا شديدًا، ولكنهم كانوا يَستثنون أبناءهم، ويخبِرونهم عن أحوالهم لحظات الموت، أو في أوقاتٍ تسبقُ ذلك؛ وذلك لسببٍ وجيه وهو تعليمهم وتشجيعهم ليقتدوا بهم ويسيروا على طريقهم.
كقول عبدالله بن إدريس لما نزل به الموت وبكَت ابنته فقال لها: "لا تبكي؛ فقد ختمتُ القرآنَ في هذا البيت أربعة آلاف ختمة".
• وكانوا يعلِّمونهم الدعاء الذي يَربطهم بالله تعالى دائمًا؛ كقول الأستاذ الشيخ أبي الحسن الندوي: "لمَّا بدأت أشدو وأكتب نصحَتني والدتي وأكَّدَت الأمر بأن أبدأ كل ما أكتب بـ: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهمَّ آتني بفضلك أفضل ما تؤتي عبادك الصَّالحين، وقد بقي ذلك عادتي ودَيدني مدَّة من الزمان، ولا أزال أَذكر في مناسبات كثيرة هذه الكلمات الصَّالحات".
فنستنتج من كلام الشيخ الفائدة العظيمة التي عادت عليه بسبب نَصيحة واحدة قيلت له في صغره.
العمود الخامس عشر: إعانتهم على سبل الخير:
إنَّ حاجة الأبناء إلى مَن يعينهم ويوجِّههم إلى سبل الخير تكمن وتتركَّز عند طفولتهم، وتنمو وتزيد في وقت نَشأتهم؛ لذلك فقد كان الوعي عند الأسرة المسلمة بهذا الأمر موجودًا؛ فقد حاولوا وبذلوا قصارى جهدهم لتوجيه أبنائهم إلى سُبل الخير أينما كانت، ومهما كانت صعوبة الوصول إليها، وكيفما كانت الطريقة في ذلك.
ومن الأخبار الدالَّة على ذلك: أن الصَّحابي الجليل عتبة بن فرقد كان يتولَّى الولايات، ويجتهد بابنه عمرو أن يدخل معه ويعينه في ذلك، فلا يفعل؛ زهدًا في الدنيا وإقبالًا على الآخرة، وقد آلَ الأمرُ بوالده أن كان عونًا له على ذلك.
العمود السادس عشر: تلبية متطلبات الفطرة والغريزة:
إن متطلبات الفِطرة والغريزة أمر ذو أهميَّة في حياة الإنسان، والأسرة المسلمة لم تغفل هذا الجانب، بل على العكس أَولَته اهتمامًا وحرصًا، حتى تحصِّن أبناءها، وتنشِّئهم النشأة الصَّحيحة السليمة البعيدة عن المخاطر.
قال الإمام قَتادة بن دعامة السدوسي: كان يُقال: "إذا بلَغ الغلام فلم يزوِّجه أبوه، فأصاب فاحشةً، أثِم الأب".
وقال الإمام سفيان الثوري: كان يقال: "حقُّ الولد على والده أن يحسن اسمه، وأن يزوِّجه إذا بلغ، وأن يحججه، وأن يحسن أدبه".
العمود السابع عشر: برهم ورعاية مشاعرهم:
فمن أجمل الأقوال التي ذُكرَت في هذا الباب قول الإمام ابن عبدالبر الأندلسي: "وحق عليهما - أي الوالدين - أن يعيناه على برِّهما؛ بلِين جانبهما، وإرفاقه بذات أيديهما، فما وصل العِباد إلى طاعة الله، وأداء فرائضه إلَّا بعونه لهم على ذلك".
وقد كان الآباء يراعون مشاعرَ أبنائهم، ويعاملونهم بالبرِّ واللِّين وحسن الخلق، وفي هذا قمَّة العدل والشعور بالمسؤوليَّة، وبناء شخصية الأبناء بناءً سليمًا بعيدًا عن القسوة والجفاف.
وقد روى الإمامُ البخاري رحمه الله عن الصحابي الجليل عبدالله بن عمر قال: "إنما سمَّاهم الله أبرارًا؛ لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أنَّ لوالدك عليك حقًّا، كذلك لولدك عليك حق".
وهذا قول رائع فيه إنصاف للطَّرفين، فلو استشعر كلٌّ من الآباء والأبناء ما عليه من الواجبات، وما له من الحقوق وأدَّى ما عليه - لبات المجتمع الإسلامي مجتمعًا متماسكًا، فيه أسر سعيدة مترابطة ومسرورة.
العمود الثامن عشر: تعليمهم اختيار الأصدقاء:
من الأركان الأساسيَّة للتربية الصَّحيحة تعليم الأبناء اختيار أصدقائهم؛ لما للصَّديق من أثَر مهمٍّ في شخصيَّة الإنسان.
العمود التاسع عشر: تضافر جهود الأسرة والأقارب على هذه الرعاية:
والحديث في هذا الباب يكثر؛ لأنَّ تضافر الأسر المسلِمة والأقارب، وتعاونهم على البرِّ، وحرصهم على مَصلحة أقاربهم ونفعهم وتوجيههم الوجهةَ الصحيحة - كان بارزًا ومنتشرًا؛ حيث إنَّنا إن بحثنا في تاريخ الكثير من العلماء لوجدنا أثرًا مهمًّا لهذا الترابط الأسري في حياتهم.
ومن أبرز الأخبار في هذا الباب خبَر الإمام أبي الفرج ابن الجوزي؛ حيث قال سِبطُه في ترجمته: "توفِّي أبوه وله ثلاث سنين، وكانت له عمَّة صالحة، فلمَّا ترعرع حملَته إلى مسجد أبي الفضل بن ناصر، فاعتَنى به وأسمَعَه الحديث".
العمود العشرون: الكتابة والتأليف لهم:
الأسرة المسلِمة لم تهتم فقط بالجانب التربوي، ولكن كان اهتمامها أيضًا منصبًّا على الجانِب العلمي؛ فقد حرصَت على تعليمهم العلوم النَّافعة، والكتابة لهم، مما ينفعهم وينفع غيرهم.
ومن هؤلاء:
• الطبيب الخطيب أبو الحسن عبدالله بن عيسى بن بختويه، ألَّف كتاب "المقدمات"، ويعرف أيضًا بـ: "كنز الأطباء"؛ لولده، في سنة عشرين وأربعمائة.
• الأمير الأديب أسامة بن منقذ، ألَّف كتاب "الشيب والشباب"؛ لابنه.
• الإمام الكبير أبو الفرج بن الجوزي، ألَّف لابنه أبي القاسم علي كتاب "لفتة الكبد في نصيحة الولد"، وكتب "المجالس اليوسفية في الوعظ"؛ لابنه يوسف.
• الإمام فخر الدين الرازي، جاء في ترجمة أحَد أحفاده - وهو علاء الدين علي - أنه قال: "كان للإمام الرازي ولد اسمه محمد، وكان الإمام يحبه كثيرًا، وأكثر مصنَّفاته صنَّفها لأجله، وقد ذكَر اسمَه في بعضها، ومات محمد في عنفوان شبابه".
• الإمام ابن مالك، نظم "الألفيَّة" لابنه تقي الدين محمد المعروف بالأسد، وكذلك كتب "المقدمة الأسدية" وهي صغيرة، نثر غير نظم وضعها باسمه.
العمود الحادي والعشرون: عدم إدخال الغم عليهم:
مما يلفت النَّظر في تاريخ الأسَر المسلمة حِرص الآباء على مَشاعر أبنائهم؛ فقد كان الأب يُصاب بشيء من الأمراض التي قدَّرها الله على عباده، ولكنه يصبِر ويتكتَّم ولا يشكو لأحد، ولا يُحمِّل همَّه وغمه على عياله.
فمن أمثلتهم الإمام أبو بكر بن عيَّاش الكوفي، فقد قال علي بن محمد: "مكَث أبو بكر بن عياش عشرين سنة قد نزل الماء في إحدى عينيه ما يعلم به أهلُه".
العمود الثاني والعشرون: عناية العلماء والرؤساء بأبناء المسلمين:
لقد أَولى العلماء والرؤساء اهتمامًا خاصًّا لتربية أبناء الأسرة المسلمة والعناية بهم؛ وذلك لإدراكهم أنَّ هؤلاء الأطفال هم آباء المستقبل، وهم الذين سوف يَصنعون الأجيالَ القادمة، وإلى عهدٍ قريب كانت الأسرة تربِّي، وكان الجيران يربُّون، وكان الحيُّ بأكمله يشارك في ذلك، فقد كان الجميع يتحمَّلون المسؤولية، ويعدون ذلك من الواجبات الملقاة على عاتقهم، مما يجعل المجتمع مجتمعًا خيِّرًا متعاونًا متآزرًا لا يقبل بالخطأ، وكذلك يَنشأ الأطفال نشأة سليمة، ليصبحوا مربين فضلاء.
ومن القصص التي وردتْ، عناية الوزير عميد الدولة ابن جهير بابن الإمام أبي نصر بن الصباغ، فقد قال الصفدي في ترجمة الوزير: "خدم ثلاثة خلفاء... وكان خبيرًا كافيًا مدبرًا فصيحًا مفوَّهًا مترسلًا، كلَّم يومًا ولدَ أبي نصر بن الصباغ فقال له: "اشتغِلْ وادأبْ، وإلا كنتَ صبَّاغًا بغير أب"، فلمَّا قام من المجلس جاء الناس إلى ابن الصباغ للهناء لكون الوزير كلَّمه".
وفي الختام، أقول:
لقد كانت جولة ممتعة جدًّا في أرجاء هذا الكتاب الممتِع، ومن خلال العمد الموجودة فيه نَستطيع استنتاج الاهتمام الكبير الذي أَولَته الأسرة المسلمة للطِّفل في كل العصور، وقد كانت تربية الأبناء تُبنى على أسس مَتينة ممَّا يجعلها تنتقل على مدى الأجيال.
وإن كان هذا يدلُّ على شيء؛ فإنه يدل على الحضارة العظيمة والتقدُّم الفكري الذي كانت تتمتَّع به الأمَّة الإسلامية؛ حيث إنَّ الأمم الأخرى لم تتمكَّن من الوصول إلى هذه المبادئ في التربية أو حتى إلى جزءٍ صغيرٍ منها إلَّا في وقت متأخر، فبينما كانت الأسر المسلمة تَنعم بجوٍّ من التعاون والتآلُف، كانت الأسر الغربيَّة تعيش في جوٍّ من التفكُّك والتشتُّت والضياع، وما تزال على هذا الحال إلى الآن.
وقد ختم الكتاب بنتائج مختصرة تلخِّص كلَّ ما ذكر في العمد، ثم انتقل إلى نداء للآباء والأمهات يضعهم في الصورة ليعلموا كيفية التصرُّف الصحيح وما هو المطلوب منهم لتنشئة جيل واعٍ.
عم، إن هذا الكتاب كتاب مفيد جدًّا؛ لما فيه من توجيهٍ إلى التعامل مع الأبناء في الأسرة المسلمة، ونصائح جميلة واقعيَّة تفيدنا جميعًا في الحياة العملية، وقصص لم أعرف الكثيرَ منها إلى أن قرأتُها فيه.
وأحبُّ أن أنوِّه إلى أنَّ المؤلِّف قد رجع إلى نحو مائة وعشرين مصدرًا؛ وهو عددٌ ليس بقليل، ممَّا يدلُّ على المجهود الكبير الذي بذله في البحث والإعداد لهذا الكتاب.