قبل سنوات معدودة كان يصحّ القول إنّ هذا الكتاب فريد من نوعه من حيث موضوعه، ولكنّ كثرة الحديث في السنوات الماضية عن تسارع التناقص السكاني في أوروبا جعل الحديث ينتشر انتشارا واسعا عن هذا الموضوع وما يتصل به، ممّا يدور حول محاور الأسرة، والمرأة، والإنجاب، والعلاقة بين الأجيال.

ولكن غالبا ما بقيت الأطروحات والحلول المرافقة لذلك داخل أسوار ما نشأ ورسخ من منظومة مفاهيم وتصوّرات خلال العقود القليلة الماضية، وهنا يصحّ وصف كتاب "الحدّ الأدنى" بالانفراد بمضامين أطروحاته، في المكتبة الألمانية الحديثة، وربّما الأوروبية عموما، فلا يتناول هذه المواضيع بمنظور اقتصادي مادي محض، ولا يطرح الحلول في صيغ باتت مألوفة، مثل رفع عطاءات الدولة للأطفال، أو زيادة دور الحضانة لتتمكن الأمهات من العمل، أو تنظيم إجازات الأمومة والحضانة بصورة تغري على الإنجاب دون خشية افتقاد القدرة على متابعة التألّق في المهنة. الكاتب فرانك شيرماخّر يتناول الموضوع من جذوره الاجتماعية والفكرية، فالمحور الأوّل والأخير عنده هو الأسرة ومكانتها والنظرة إليها مع سائر ما يتفرّع عن ذلك من قيم ومعايير وتصرّفات سلوكية اجتماعية، أصبحت تخضع للعوامل المادية بدلا من أن تكون حافزا للتقدم المادي أو ضابطا له.
ثمّ إنّها حالة فريدة في ألمانيا أن ينصح رجل لابنه وهو في الرابعة عشرة من عمره، أن يتزوّج بأسرع ما يستطيع، بينما باتت غالبية الزيجات القليلة أصلا، متأخّرة من حيث وسطي الأعمار، بل يضيف في نصيحته أن يكوّن أسرة كبيرة قدر الإمكان، في بلد تسوده النظرة إلى أنّ الأفضل هو الاكتفاء بولد واحد، بإنجابه أو تبنيه، أو باثنين في أقصى الأحوال.. وقد وردت النصيحة المذكورة على لسان فرانك شيرماخر في مقابلة له مع مجلة دير شبيجل، ونشرت في إطار موضوع الغلاف حول العزوف عن الإنجاب تحت عنوان "بين الذئاب"، تعبيرا عن حالة الإنسان الناشئ فردا أنانيا، يعمل لتحقيق مصلحته على حساب الآخرين بأي ثمن، وعن حالة مجتمع يفتقد التضامن، ويتّجه نحو الشيخوخة بسرعة متصاعدة، فبعد أن كانت نسبة فئة الأعمار من 65 عاما وأكثر دون 10 في المائة عام 1950م، مقابل 23 في المائة من الأطفال حتى الخامسة عشرة، تساوت نسبة الفئتين عند 15 في المائة عام 2000م، وتتنبّأ الدراسات المستقبلية بأن يصبح الأكبر سنا أكثر من 27 في المائة والأطفال أقل من 12 في المائة عام 2050م، ولا تنفرد ألمانيا بهذا التطوّر بين الدول الغربية.
الأطروحات الراهنة حول الأسرة صادرة عن أفكار ما يعرف بجيل عام 1968م (ثورة الطلبة والثورة الجنسية)، ويطرح كتاب "الحدّ الأدنى" صورة مغايرة بقلم كاتب عُرفت عنه أطروحات مثيرة، وله مكانته المعتبرة رئيسا لتحرير "فرانكفورتر آلجيماينه"، كبرى الصحف اليومية الألمانية، ووجدت كتبه وأطروحاته السابقة التقدير، فمُنح جوائز عديدة مثل "الريشة الذهبية" و"كورين"، واختير " صحفي العام" في 2004م، وهو بذلك "من الطليعة بين المثقفين الألمان" حسب تعبير جريدة "تاجس شبيجل". وكتابه هذا الذي يدعو للعودة إلى الأسرة لإنقاذ الفرد والمجتمع يجد النقد، ولكن في أوساط دعاة الحياة على انفراد فحسب، الذين يرون أنّ الإنسان المعاصر لا يستطيع تحقيق أهدافه إلا في صراع لا يلتفت فيه إلا لنفسه ومصلحته، أمّا الحياة الأسروية فتعيقه وتسبب له الخسارة، وهذا ما يظهر -وفق تلك النظريات- عند المقارنة بين دخل الأفراد وما يوصف بالأسر الثنائية من غير زواج، ودخل الأسر القائمة على ولد واحد أو ولدين.
وينقض كتاب "الحدّ الأدنى" صحّة هذه النظرة بالذات، بادئا في الفصل الأول تحت عنوان "رجال" بالحديث عن حصيلة كارثة "مضيق دونّر" في الغرب الأمريكي من عام 1846م، والتي كانت موضوع دراسات تاريخية وبحوث منهجية عديدة، بيّنت أن النسبة الأكبر من ضحاياها كانت من تلك النماذج "المنفردة" التي تعيش وفق الشعار القائل "البقاء للأقوى"، بينما كانت المشاعر التي تصنعها الحياة الأسروية، من تضامن ومحبة وإيثار وما إلى ذلك سببا في إنقاذ حياة عدد كبير ممّن تعرّضوا للكارثة.
وينتقل في الفصل الثاني تحت عنوان "الذريّة" إلى المقارنة مع الوضع الراهن الذي وضع للفرد الغربي معادلة اجتماعية تخييرية "قاتلة" بين عنصري "الإنجاز والحب"، أي إمّا النجاح مهنيا لجلب المال، أو تكوين حياة أسروية وتحمّل نفقاتها، وينكر الكاتب بشدّة هذا التصور الفكري المعكوس، والذي يرغم الفرد عليه إرغاما عبر ما انتشر من معطيات اجتماعية مع الترويج لتلك المعادلات والتربية عليها.
ويعيد الفصل الثالث القارئ إلى التاريخ الألماني القريب في حقبة الدمار الشامل نتيجة الحرب العالمية الثانية، فيؤكّد تحت عنوان "مجتمع مصيري" أنّ مفهوم الأسرة الذي بقي سائدا إلى سبعينات القرن الميلادي العشرين، كان من وراء قدرة الألمان على الخروج من مخلّفات الدمار، وإنقاذ أنفسهم مجتمعا وأفرادا في وقت واحد، ممّا يوصف بالمعجزة الاقتصادية، وهو في واقعه معجزة اجتماعية، ويقول (ص 26): ((وضعنا الراهن يستدعي تحوّلا اندماجيا اجتماعيا كالذي كان عام 1945م، فعلى ألمانيا اليوم أيضا إعادة بناء نفسها، ولكن نقطة الانهيار الآن هي الأسرة، المؤسسة التي وجدت آنذاك القوة الأساسية لإعادة إنشاء البلد. ألا يمكن أن يتحقق الآن مثل الذي تحقق بالأمس؟)). ويرى الكاتب أنّ بداية الانهيار كانت في انقلاب فكري عند جيل أغفل إنجازات الجيل الأول بعد الحرب وشروطها، وتحرّك بمنطلقات فردية أنانية أدّت إلى انخفاض نسبة المواليد لأوّل مرة عام 1974م، وبعد أن كانت نسبة احتمال افتقاد الأحفاد لا تتعدّى 18 في المائة في بداية القرن الميلادي العشرين، أصبحت أكثر من 78 في المائة لمواليد عام 1990م. ويختم المؤلّف الفصل الثالث بقوله (ص 39): ((إنّ المعجزة التي لا مثيل لها، الكامنة في أنّ الأسرة توفّر القدرة على الحياة والبقاء، لا تظهر قيمتها للعيان إلا عندما تصبح العواقب جادّة مشهودة)).
ويشغل الفصل الرابع أكثر من نصف صفحات الكتاب، ويتوزّع على فقرات تتناول الإيثار الأسروي، وانحراف النظرة الاجتماعية، وظلم الآخر، والزواج، والأدوار الاجتماعية والتمثيلية، وحمل الأعباء، وتشابك العلاقات، وغير ذلك، مطروحا بأسلوب سهل سلس، مع كمّ كبير من المعلومات والاستشهادات بوقائع ودراسات منهجية، ويبدو أنّ الكاتب حريص على أسلوب يخاطب به عامّة أهل بلده، مع التوضيح بأمثلة مفهومة وحوار ممتع، لطرح الجديد من أفكاره حول الأسرة وضرورتها لحياة المجتمع حياة مقبولة، وليس فقط لاستمراره وبقائه بدلا من انقراضه. وكما سرد قصة كارثة مضيق "دونّر" قبل قرن ونصف القرن، يعمد في الفقرة الأولى من الفصل الرابع إلى سرد قصصي لكارثة حريق كان الأكبر من حيث حجمه وضحاياه في منتجع "زامّر لاند" البريطاني عام 1973م، وهو ما يستهدف تأكيد ديمومة المغزى المستخلص من الحادثتين، فهنا ووفق دراسة مفصلة عن تصرّف النزلاء عندما داهمهم الحريق، يظهر أيضا أنّ الأسر كانت رغم التعرّض للخطر تجمع أفرادها وتنقذ الصغير والضعيف منهم، بينما كان النزلاء من 29 مجموعة من "الأصدقاء" يتفرّقون أفرادا، كلّ يحاول النجاة بنفسه، ممّا يكشف كما يرى الكاتب عن أهمية الموقع المحوري للأسرة في الروابط الاجتماعية، لا سيما عندما تحيط الأخطار بالمجتمع وتتغلغل في حياته اليومية. وينتقل في الفقرة التالية نقلة طبيعية إلى نقض المقولات المنتشرة أنّ الأسرة باتت من "العصر الحجري"، وأنّها تمثّل عقبة في طرق السعادة الفردية، وهي مقولات يعدّدها في استشهادات متتابعة تمثّل اتجاهات ثقافية وفكرية ظهرت ابتداء من نظرية زيجموند فرويد الذي جعل من الأسرة "ساحة حرب" بين أفرادها، ويصل بها إلى من قال إنّ الإنجاب هو "توريث البؤس"، فيشير أنّ الحصيلة كانت عدم الإنجاب، فلم يعد يُنقل بؤس مزعوم ولا يُنقل الحظ والسعادة من جيل إلى جيل!.
في الفقرة الثالثة يعبّر استطلاعٌ عن أسلوب تفكير أراد الكاتب عرضه ونقده، وقد انتشر بتأثير توجيهات اقتصادية مادية وتربيوية أنانية، فبات من لا يريد إنجاب أطفال يعلّل ذلك أولا وأخيرا بأسباب مادية، مثل عبء النفقات المالية، أو التخلّف مهنيا، أو الرغبة في الاستمتاع بالحياة، أو الاستقلالية وما إلى ذلك. ليقول الكاتب (ص 70): ((عايشنا خلال العقود الماضية كيف يرغم المجتمع الفرد على التفكير بهذه الطريقة)).
ومن الأفكار المحورية في الفقرات التالية:
- الرغبة في الإنجاب تتناقص طرديا مع العزوف الفعلي عن الإنجاب، والعكس صحيح، ممّا جعل أوروبا تقف أمام حلقة مفرغة مع هبوط نسبة التزايد السكاني إلى أقل من 2 في المائة، وهو ما لا يكفي لبقاء عدد السكان على حاله فضلا عن أن ينمو ويزداد.
- خلال السبعينات والثمانينات من القرن الميلادي العشرين، أي فترة ما عرف بالثورة الجنسية التي أباحت المحرمات السابقة، كان أبرز ما ظهر في دراسة العلاقات الاجتماعية خلالها، أنّ علاقة "الحب" أصبحت مفقودة، وهي أساس الحرص على الأسرة والإنجاب، بدلا من المتعة الجنسية وحدها.
- عروض التلفزة والمسرح وغيرها من العروض الثقافية والفنية لم تعد تقدّم الأسرة نموذجا يؤثر إيجابيا على المشاهدين، بل أصبح النموذج الأوّل فيها هو الفرد دون أسرة، (ص 101-102): ((فنحن جميعا، لا سيما أطفالنا، نشهد كلّ يوم، كل مساء، نماذج لا نهاية لها عن صداقات وهمية، وأزمات وهمية، وزيجات وهمية... والمثير للقلق هو الازدياد الملحوظ في عدد من يحاولون تقليد هذه الصور الوهمية تخصيصا)).
- ليس صحيحا طرح مشكلة تناقص عدد السكان في صيغة أن الجيل الأكبر سنا لا يريد تحمّل أعباء إنجاب الأطفال، فهي في الواقع أن هذا الجيل يحمّل الجيل الأصغر سنا أعباءه هو أضعافا مضاعفة عبر انعكاس تطوّر الهرم السكاني.

في ختام الفصل الرابع استشهاد بدراسة أثبتت أنّ الإناث أكثر التصاقا بعلاقة القرابة وأكثر تعبيرا عنها، إضافة إلى أنّ علاقة الصداقة تسفر عن تعامل قائم على أخذ وعطاء، على النقيض من علاقة القرابة التي تقوم على الإيثار. وفي هذه الفقرة تمهيد للفصل الخامس بعنوان "النساء" الذي يبرز فيه الجانب الاجتماعي الراسخ لدى المرأة أكثر من الرجل، الأقرب إلى المخاطرة لا سيما على الصعيد الاقتصادي. (ص 135): (( لم يعد يوجد أنصار كثيرون للنظرية القائلة بالمساواة بين الرجل والمرأة من حيث المبدأ، وأن الوسط الثقافي والاجتماعي هو الذي يصنع مواضع الاختلاف بينهما، فالواقع أّنها نظرية ضلّلتنا طويلا))، ويرى الكاتب أنّ المرأة هي الأقدر على التحرّك اجتماعيا وعاطفيا وبالتالي الأقدر على أن تكون هي أساس الكيان الاجتماعي، وإن كان هذا لا يعني سريان القاعدة على سائر النساء ولا نقيضها على سائر الرجال، ويتنبّأ الكاتب بأن تعود المرأة إلى دورها، على صعيد كيان الأسرة، وعلى صعيد إعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية، على ضوء عدد من الشواهد التي يسردها من واقع ما بدأ يرصده المجتمع الألماني على هذا الصعيد.

قد يجد القارئ من وسط عربي وإسلامي في أفكار الكاتب طرحا قريبا من تصوّراته واقتناعاته، لا سيّما عند أولئك الذين يحذّرون من المضيّ في تقليد الحياة الغربية إلى درجة افتقاد العلاقات الأسروية ومفعولها في المجتمع، وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الكاتب ينطلق أوّلا وأخيرا من اقتناعاته الذاتية في إطار خلفيته الفكرية والثقافية الغربية، وقد طرحت عليه مجلة دير شبيجل السؤال ما إذا كان المنطلق الثقافي الإسلامي بالموقع المحوري للأسرة فيه يسدّ الثغرة الاجتماعية التي يتحدّث عنها في المجتمع الألماني الغربي، وكان جوابه: ((إن الثقافة التي أعيش فيها وأنشر كتابي فيها وأستطيع النقاش حولها هي ثقافة القيم الغربية المسيحية، وجميعنا يعلم أنّ جزءا من العالم الإسلامي أعلن الحرب علينا، وللنهضة الإسلامية أسباب كامنة في النموّ السكاني، وستبقى نسب الإنجاب العالية في البلدان الإسلامية المعنية حتى عام 2020م على الأقل... المجتمعات الإسلامية مجتمعات شابة، بشبكات قوية، أسرويا ودينيا، وهي بذلك مجتمعات قوية كأمثالها في عالم العولمة المعاصر)).

نبيل شبيب

موقع مداد القلم

 

JoomShaper