- "كنت صغيرة عندما تمنيت أن أكون معلمة... وقد كبرت أمنيتي معي وكبرت معها مساندة أسرتي ومعلمي... وكنت دائما متأكدة أني سأكون معلمة.. ولم يكن لدى تصور آخر لعمل جيد ".
- بهذه الكلمات بدأت الدكتورة / سلوى العوا مذكراتها التي دونت فيها بعض ملامح تجربتها كمعلمة للأجيال... تلك المذكرات التي نشرتها دار الشروق بعنوان "مذكرات معلمة ".. والتي حوت ستة عشر فصلاً في سبع وسبعين صفحة من القطع المتوسط.. حيث سردت الكاتبة خلال تلك الفصول جانبا ً كبيرا ً من تجربتها في التربية والتعليم بأسلوب فلسفي شيق وممتع.. مصحوب بكم هائل من المشاعر والأحاديث النفسية الداخلية التى ملأت نفس الكاتبة خلال كل مرحلة من مراحل
حياتها في مجال البحث والتعليم .
- وفي هذه الرحلة الفلسفية الجذابة بين فصول مذكراتها يشعر القارئ بالمتعة ، ويكاد تندمج ذاته في ذات الكاتبة ، وتذوب شخصيته في شخصيتها .. فهي تنقل إليه فيضا من مشاعرها مع كل كلمة ، ومع كل فصل من فصول تلك المذكرات .. فإذا به يتأمل معاني الحياة من منظور الألفاظ والكلمات والدلالات ، ويعيش مع الكاتبة كل لحظة من لحظات التجربة كأنها تجربته الشخصية لا تجربتها .
- وفي صدر مذكراتها أسدت د / سلوى الفضل لأبيها وأمها ولفيف من أساتذتها ومعلميها في ترسيخ حلم التدريس في وجدانها منذ الصغر .. كما توجهت لهم جميعا ً بالشكر على كثير من الدروس والمعاني التي علموها إياها ، مما زاد من رصيد حبها لممارسة التعليم وتربية الناشئة ، واعتبار كونها مدرسة حقيقية هو " عملها الإنساني ومشروع حياتها العظيم " .
- ولذلك لم يكن عجبا ً أن تذكر هؤلاء الأساتذة والمعلمين بأسمائهم وأوصافهم واحداً تلو الآخر في مقدمة مذكراتها .. وتحشد - من خلال صفاتهم الشخصية التي كانوا يتميزون بها - حشدا ً من الصفات الذاتية الرائعة التى لو وجدت في مدرسي زماننا اليوم لكانت لنا نهضة تعليمية تربوية راقية تقيل عثرة الأمة ، وترتقي بمجتمعات المسلمين .
- هذه الصفات تعلمت منها الكاتبة .. وحاولت أن تتحلى بها اقتداء ً بأولئك المعلمين الأفاضل .. وكبرت وكبر معها الحلم يوما ً بعد يوم حتى صار فيما بعد حقيقة كاملة .. وذلك حين وضعت أقدامها على بداية الطريق ، وكانت أولى مفاجآت حياتها العملية - كما تقول - : أن الحقيقة أغنى وأجمل كثيرا ًمن الحلم .
- كانت أولي التجارب العملية لكاتبتنا الأستاذة / سلوى .. مدرسة المحادثة العربية لعدد من الطلاب الأتراك أصغرهم سنا في الخامسة والثلاثين من عمره .. وتحكى لنا الكاتبة هذه التجربة الجديدة في حياتها بأسلوب شيق تصف من خلاله شعور القلق والتوتر والارتباك الذي استولى عليها قبل بداية أول درس في حياتها .
- فلم يكن من اليسير مواجهة هؤلاء الطلاب ، ومحاولة تعليمهم المحادثة العربية لأول مرة .. لا سيما وهم ليسوا أطفالا ًصغارا يسهل التعامل معهم ، و يسلس قيادهم ..ولكنهم كبار السن ، ومن ذوى المناصب والهيئات .. وهو ما زاد من صعوبة المهمة .. وبعد دقائق معدودة من التعارف المتبادل ، ووضع القواعد الدراسية داخل الفصل أعلنت أستاذتنا عن انتهاء الدرس الأول .. وأعلنت من داخلها في اللحظة ذاتها عن تحطم حاجز الخوف والقلق الذي انتابها قبل الحصة الأولى .. وحينها قررت أنها لن تخاف من التدريس أبدا ً ، وأنها سوف تحبه حتى الموت .
- وفي درسها الثاني والثالث وما تلاهما ، تذكر لنا الكاتبة كيف استفادت كثيرا ً من نصيحة ذهبية قدمها لها أستاذها وعمها في الوقت ذاته الأستاذ الدكتور / أحمد المهدي - وهو من كبار التربويين العرب - حيث ذكر لها حكمة تربوية تقول : "إن مهارة المعلم تقاس بقدرته على إغلاق فمه" .. ولأول وهلة بدت الحكمة غريبة على حس الكاتبة ، ولكنها - كما تقول - كانت على أتم استعداد للاستفادة من كل فكرة جديدة حتى تحقق هدفها الأول وهو : أن تكون معلمة حقيقية ناجحة .
- ومن هذه القاعدة التربوية استكشفت الكاتبة عددا ً من الأساليب التشجيعية والتحفيزية للطلاب لها فعل السحر في تفجير طاقاتهم المعنوية ، وإبراز قدراتهم داخل فصول الدراسة مثل : الابتسامة ونظرة التشجيع والشكر وإيماء الرأس بالتأكيد على كلامه إن كان صحيحا ً ، أو نظرة العتاب الرقيق التي تفتح له باب المحاولة من جديد إن كان مخطئا .. وبهذه التعبيرات الموحية والصادقة في الوقت ذاته انفتح للكاتبة باب واسع من أساليب ووسائل التدريس بجانب أسلوب التوجيه والحديث المباشر .. إذ أن الكلمة في حد ذاتها لا تعطي الدلالة الكاملة للمعنى المراد توصيله ما لم ترافقها مؤثرات عملية أخري تتمثل في إيحاءات الوجه وتعبيراته كالابتسامة والنظرة ذات الدلالة وقطب الجبين وغيرها .
- ومن خلال تجربتها الأولى في تدريس المحادثة العربية للأتراك وضعت الكاتبة يدها علي جوهر العلاقة الودودة والراقية بين المعلم والطالب - أو بين القط والفأر كما يحلو لها أن تعبر عنها بصورة فكاهية - فحاولت الاستفادة من ذكاء القطط في المراوغة ، ومن دأبهم وإصرارهم على ملاحقة الفئران .. ولكن مع الفارق بين الحالتين .. ففي حالة المعلم والطالب تكون تلك الملاحقة الدءوبة لعقد صداقة ودودة لا للالتهام.
- وهنا ترشد الكاتبة المعلمين لاختيار أسلوب السؤال الذي يطرحونه على طلابهم .. فهناك أسئلة محبطة للطالب والمعلم على حد سواء من مثل :
- لماذا لم تذاكر الدرس ؟ لماذا جئت إلى الفصل إذن ؟ لماذا نسيت الواجب ولم تنس نفسك ؟ .. فمثل هذه الأسئلة تغلق باب التفاعل بين الطالب والمدرس..وتريق ماء وجهه بين زملائه .. وحينها سوف يبدو تحقيق أهداف العملية التعليمية والتربوية أمرا بعيد المنال .
- وعلى الجانب الآخر وضعت الكاتبة قائمة بالأسئلة المفيدة الناجحة مثل : لماذا؟ .. كيف؟ .. بالتفصيل من فضلك؟ .. لم أفهم جيداً .. هل يمكن أن تشرح لي أكثر؟.. إلى غيرها من الأسئلة التى تفتح المجال واسعا أمام الطالب ليحقق ذاته ، ويعبر عن نفسه ، ويشعر أنه عنصر فعال ومؤثر في داخل الفصل الدراسي .
- وفي فصل آخر من مذكراتها الشيقة تحكي لنا الدكتورة/ سلوى العوا عن رحلتها في البحث عن طريقة تقويم " أو تقييم بتعبير أدق " حقيقي ودقيق لأبنائها الطلاب .. فعملية التقويم تعد ركنا ً ركينا ً في العملية التعليمية .. ولكن مشكلة معظم طرق التقويم في بلادنا أنها طرق غير دقيقة ولا علمية .. ولا تعكس في الحقيقة مستوى الطالب بقدر ما تعكس انطباعات المدرسين عن أولئك الطلاب .. هذه الانتقادات وغيرها حول عملية التقويم كانت تملأ شعور الكاتبة منذ أن كانت طالبة في المرحلة الجامعية .. فقد كانت تأخذ علي عملية التقويم أنها غير دورية ، وغير صادقة ، وأن النتائج لا يتم إعلانها ، وأن توزيع الدرجات لا يقيس مهارات الطلاب ، وأن معايير التقويم غير ثابتة ... إلى آخر تلك القائمة من الانتقادات.
- والآن بعد أن صارت كاتبتنا في موقع المسؤولية ، وضمن أصحاب القرار على مستوى الوحدة التعليمية التي تعمل بداخلها .. فقد أصبح مطلوبا ً منها أن تقوم بعملية التقويم لطلابها بصورة دقيقة وفعالة تتلافى فيها كل تلك الانتقادات السابقة .. وبعد فترة من المعاناة ، وعدد من المحاولات في هذا الإطار .. خلصت الكاتبة إلى عدة نتائج لخصتها فيما يلي :
1. وجود امتحان مستوى شبه ثابت .
2. تثبيت نظام الامتحانات الدورية بمعدل امتحان كل أسبوعيين مثلا .
3. إعلان نتائج كل فصل على لوحة الإعلانات .. وإدراج اسم مدرس الفصل في آخر القائمة ، مع كتابة درجته والتى تحسب بالمتوسط الحسابي لدرجات طلاب فصله .
4. تغيير نمط أسئلة اللغة العربية لتكون أكثر قدرة على التقييم الحقيقي ، واعتماد أنماط جديدة للأسئلة مثل : صحح الخطأ ، أو أشرح بجملة ، أو اكتب السؤال المناسب لما يلي .
- ويعد هذا الأسلوب في التقويم تطورا ً نوعيا ً لأساليب التقويم في مدارسنا .. غير أن مسألة تقويم المعلم بناء على متوسط درجات طلاب فصله قد تعد ثغرة حقيقية في هذا الأسلوب .. فهو تفتح المجال أمام ذوي النفوس الضعيفة من المدرسين للتلاعب بمستوى الامتحان ، أو ربما تسريب أسئلته لبعض الطلاب ذوي القدرات الضعيفة ليصب ذلك في النهاية في خانة درجة المعلم .. كما أنه تقويم نسبي يفتقد الدقة إلى حد كبير .. فهو يختلف باختلاف مستوى الفصل ، ومستوى فهم الطلاب داخل الفصل .. فهناك فصول المتفوقين ، والفصول العادية .. وهناك طلاب ذوي قدرات متقدمة ، وآخرون متواضعي القدرات .. والخلاصة أن هذه الوسيلة لتقويم المعلم لا تعكس بالضرورة مستواه الحقيقي ولا تصلح للمقارنة بينه وبين غيره من المعلمين .. ولا ينفي ذلك كونها – اي فكرة تقييم المعلم - فكرة ممتازة ومهمة في مضمونها .
- وتنتقل بنا الكاتبة في مذكراتها لتلقي الضوء على دور الرتابة والملل في قتل روح الإبداع والتجديد لدى المعلم .. وكذلك في غرس السلبية واللامبالاة في نفوس الطلاب.. وهو ما يغفل عنه كثير من المدرسين .. فإذا بهم يقعون بسهولة في شرك الروتين اليومي داخل الفصل .. ويؤدون عملهم التدريسي بطريقة آلية تعودوها واستظهروا خطواتها ومراحلها .. فإذا بالعملية التعليمية تخرج في صورة باهتة جامدة لا حياة فيها ولا روح .
- وهنا تحكي لنا الكاتبة كيف حاولت في فصلها جاهدة أن تفلت من أسر رتابة الأداء اليومي القاتلة .. وأن تمحو من عيون طلابها نظرة الملل والسآمة .. و قد اعتمدت في ذلك أسلوب التشغيل النشط لأكبر قدر من طلاب الفصل .. وعدم التقيد بترتيب معين في توجيه الأسئلة .. وتكليف الطلاب بتصحيح أخطاء زملائهم .. وغيرها من الوسائل التى تبقي على يقظة الطلاب وتحفزهم للإجابة والتصحيح بين لحظة وأخري .
- و في أحد فصول مذكراتها تخطو بنا الكاتبة خطوة أخري نحو مجال البحث العلمي ، مخلفة وراء ظهرها ضجيج الفصل وكراسات الطلاب .. ومتجهة نحو بطون الكتب وزوايا المكتبات .
- وخلال هذه المرحلة تقص لنا طرفا ً من معاناتها في تطويع الألفاظ والكلمات لتناسب أسلوب البحث العلمي ، وحتى تعبر بدقة عن المعاني التى تود إدراجها في بحثها .. وكيف ظلت الكلمات تتأبى عليها حينا ً حتى تستكشف مدى إخلاصها لمجال البحث والكتابة .. وبعد فترة من استجداء الألفاظ والكلمات حل ربيع الكتابة في كون الباحثة .. وأينعت أرض البحث الوليد بعدة فصول أو أجزاء من فصول ليعلن ميلاد باحث جديد
- وبعد شوط من أشواط البحث العلمي تقف الباحثة في مفترق طرق .. وتتملكها الحيرة بين أن تختار طريق البحث العلمي الذي وضعت على طريقه وضعا .. أو تختار طريق التدريس الذي طالما حلمت به منذ الصغر .. و خالط حبه قلبها بعد أن عايشته ؟!.
- كان عليها أن تختار بين طريقي ندم - على حد قول أخيها حسن - : "أن تعمل ما تريد وتحب ، فتندم ذات يوم على ترك ما كان ينبغي... أو أن تعمل ما ينبغي، فتندم على ترك ما تحب " ولكنها قررت في النهاية أن تعمل ما ينبغي حتى تصل مستقبلا ً بعد صبر إلى ما تحب بإذن الله..
- وفي نهاية مذكراتها تختم الكتابة تلك الرحلة الفلسفية الرائعة بصدى صوت أبيها وهو يتردد في وجدانها منذ أن كانت صغيرة... صدى صوت المبادئ والقيم والأخلاق والمثاليات في عالم لا يعترف بغير المادة والمصالح والمنافع.. هذا الصوت الذي توارى في نفسها حينا من الدهر .. كانت فيه تردد ذلك الصوت وهي تشعر أنه ليس صوتها .. بل فقط صوت أبيها .. ولكن هذا الصوت القوى لم تغيره السنون.. ولم تضعفه بهارج الدنيا وزخارفها .
- وما زال الصوت يتردد في نفس الكاتبة حتى اهتزت لصدقه أوتار قلبها... فإذا به اليوم قد بات صوتها... لقد تغلب الصوت أخيرا ً على ضوضاء الفتن... وشق طريقه وسط غبار الغفلة وشوائب الحياة وزخارفها .. خرج الصوت من بين شفتيها ، وعاد بها إلى الزمن الجميل .. تجدد عزمها على فعل ما ينبغي من خير وصواب .. والتمسك بما ينبغي .. لقد ورثت في النهاية : صوت أبيها
- إنها حقا صفحات ثرية بالدروس والمعاني.. وقد تميزت كلماتها بالصدق الشديد مع النفس.. ولعلنا خلال تلك السطور السابقة قد استطعنا نثر بعض ما حوته تلك المذكرات من درر.. ولكن ذلك لا يغني عن قراءتها مرة بعد مرة...
قرأها لكم د. أسامة عبد العظيم
موقع الجماعة الإسلامية