شاهناز أبو حجلة
الخامسة صباحا، أم تستفيق فزعة فقد تأخرت في النوم، ولكنها تقوم من سريرها تجر قدميها لشدة إحساسها بتعب اليوم السابق. زاد عليه سهرها على طفلها ابن الأعوام الثلاثة الذي أمضى ثلثي الليل في صراخ وبكاء بسبب مرضه. بتثاقل قامت، إذ عليها أن تحضر طعام أسرتها لهذا اليوم قبل خروجها لعملها. تتسارع عقارب الساعة، وهي الآن السابعة صباحاً، حالة استنفار كاملة في المنزل، طفل لا يزال نائماً، والأب ارتفع صوته مطالباً زوجته بالإسراع، والأم تجبر طفلها على الاستيقاظ ليوصلاه إلى حضانته قبل ذهابهما إلى عملهما.
كان هذا مشهدا من يوميات زوجة عاملة. ومن هذا المشهد يبدأ حديثنا.
"عمل الأم، ما له وما عليه"، موضوع من أكثر المواضيع الساخنة المطروحة للجدل دوما، فلا تكاد صحيفة أو مجلة أو مؤتمر نسائي يخلو من طرحه، خصوصا أن العمل أصبح بالنسبة للمرأة وسيلة لتحقيق الذات، وكسب المال.
إن الله عز وجل عندما خلق الذكر والأنثى، أعطى لكلٍ منهما مهمة في هذه الحياة، كلف الرجل بالقوامة وألزمه بالإنفاق، وكلف المرأة بمهمة أصعب. ذلك أن بقاء الجنس البشري مرهون في أن تحمل المرأة وأن تلد، وبعد أن تلد تحنو على أولادها وتربيهم حتى يشبوا عن الطوق، ويخرجوا إلى المجتمع رجالا ونساء. فهل هناك أهم وأخطر من هذا الدور؟!
رغم ذلك فما زالت المرأة العربية تنظر لدورها في البيت نظرة استصغار، وترى فيه مضيعة للعلم الذي تلقته في الجامعة، وإهدارا لإمكانياتها، وتبعية للرجل، تفرضه عليها تبعيتها الاقتصادية له كما تظن. ولعل المجتمع والإعلام ساهما في ترسيخ هذه النظرة من خلال نظرتهما لربة البيت على أنها فرد غير منتج يكتفي بدور المستهلك، بينما ينظر إلى المرأة التي حققت نجاحا في مسارها المهني بفخر.
في لقاء صحفي مع زوجة الممثل الأمريكي وحاكم ولاية كاليفورنيا الأسبق أرنولد شوارزنجر سألت المذيعة زوجته: ما وظيفتك التي تشتغلين بها؟ وكان هذا جوابها: وظيفتي أم.. ونحن على الخط الأمامي للبشرية 24 ساعة في اليوم، و7 أيام في الأسبوع، لخلق جيل جديد، وهذه هي قوة المرأة.
ولا زلت أذكر حديثًا لأحد رجال الدين ردًّا على سؤال: إذا كان مصير المرأة بيتها فلماذا إذن تتعلم؟ لقد أجاب صاحبة السؤال: إذا علمت رجلاً فإنك تعلم فردًا، وإذا علمت امرأة فأنت تعلم جيلاً أو أمة..) ثم تقول: (وأنا مسرورة جدًّا من بقائي في البيت إلى جانب زوجي وأطفالي حتى في الأيام العصيبة – وأقصد الأيام التي كنا في حاجة فيها إلى المال – لم يطلب مني زوجي أن أعمل، وكانت فلسفته أننا نستطيع أن نوفر احتياجاتنا الضرورية، لكننا لا نستطيع أن نربي أولادنا إذا أفلت الزمام من بين أيدينا...) نقلاً عن جريدة الأنباء الكويتية.
هذه آراء لسيدات عشن في ظل مجتمع آمن وروج لفكرة "المرأة العاملة". لقد توصلت النساء في هذا المجتمع، وإن كان بعد تجربة مريرة، إلى أن دور المرأة الأساسي هو رعاية الأسرة، وتربية الأبناء. فهي تصنع الرجال، وتصنع النساء صانعات الرجال. فلماذا علينا، نحن الأمهات العربيات، أن نمر بنفس التجربة المرة؟
إن أهمية دور المرأة في رعاية أسرتها تنبع من أهمية الأسرة كوحدة بناء للمجتمعات. وقوة أي مجتمع أو ضعفه هو انعكاس لحال الأسرة فيه. وأول وأخطر دور للمرأة في بيتها أن تقوم برعاية وتربية أطفالها. ذلك أن السنوات الأولى التي يقضيها الطفل في منزله، كما يؤكد علماء التربية، تعد من أكبر المؤثرات المسؤولة عن تشكيله في المستقبل؛ فالمنزل هو أول مجتمع يتصل به الطفل ويتعلم منه عقيدته وأخلاقه، وتقاليد وعادات مجتمعه. كما أن بقاء الطفل مع أمه خلال هذه السنوات تداعبه وتلاعبه وتحنو عليه، ينشئه طفلاً سليمًا محبًّا لها وللناس، فبُعد الأم عن طفلها في سنيه الأولى يقسو معه قلبها وقلب طفلها مع مرور الوقت، وتزداد الفجوة بينهما كلما كبر الابن وزاد بعد الأم عنه؛ جريًا وراء عملها أو أي شيء آخر.
ونحن اليوم نلمس النتائج في جيل اليوم، فهو جيل ضيع الطريق< لأنه نتاج تربية الخادمة أو الحضانة ثم الروضة وبعدها المدرسة... وكل هذه الأطراف، بالإضافة إلى التلفزيون والإنترنت، تساهم، علي طريقتها، في تربية الطفل دون رقابة وإرشاد، في ظل غياب الأم والأب طوال النهار عن المنزل.
ومع ذلك فإنه يمكن للمرأة أن توازن بين واجبها الشرعي نحو أسرتها واحتياجها هي للعمل، وذلك من خلال العمل من المنزل الذي أصبح ظاهرة شائعة جدا في الدول المتقدمة، فقد كشفت دراسة نُشرت في الولايات المتحدة عام 2004 أن ما يقرب من 48 مليون من أصحاب الأعمال المنزلية في أمريكا معظمهم من النساء يعملون في منازلهم لإيجاد موازنة أفضل بين العمل والأسرة، ويكسبن دخلاً أكثر من دخل أصحاب المكاتب بحوالي 28%.
إنني لست ضد عمل الأم، على ألا يتعارض خروجها للعمل مع دورها الأصلي، حتى لا يترتب على ذلك ضرر يلحق بأسرتها؛ وإلا فعليها أن تترك عملها وترجع إلى الدور الذي شرعه الله لها، وهو دورها في بيتها. وقبل أن تحكم المرأة قطعا أنها نجحت في التوفيق بين العمل والمنزل عليها ألا تنسى أنها ليست وحدها من تحكم على ذلك، فجزء منه يحكم عليه زوجها، والجزء الآخر يحكم عليه أطفالها.
يبقى أمر مهم أخير، إن مجرد تفرغ الأم وبقائها في بيتها لا يعني بالضرورة نجاحها في أداء الدور المطلوب منها؛ لأن الشرط الأساسي في المرأة التي تستطيع القيام بهذه المهمة هو أن تكون واعية ومدركة لرسالتها في الحياة، كأن تكون، على سبيل المثال، متابعة لكل ما يستجد مما يكتب حول الموضوعات المتعلقة بالطفل، سواء ما كان حول صحته أو عن تربيته، والموضوعات المتعلقة بالبيت والتدبير المنزلي.
صحيفة السبيل