عبدالغني حوبة
الأمُّ أصل الإنسان ومنبتُه، فهي الأرضُ الخِصبة التي وضعت بذرته فيها، فتشكل خلقًا آخر من أضلاعها وحواشيها، منها بدأ مشواره وحياته، وفي أحشائها كانت محطاته وذكرياته، فالأم أغلى كنزٍ وأعظم هدية، وهي بحقٍّ الشجرةُ الوارفة الظلال بأغصانها النديَّة، فما صفات الأم الفاضلة وإنجازاتها الذهبيَّة؟
إن الأم الفاضلة هي المدرسة الأولى العالمية، تقودها امرأةٌ فاضلة أبيَّة، وتشرف عليها إنسانٌ متفضِّلة على الإنسانيَّة، من مشكاتها تشرق شمسُ المعارف والعلوم، وبعطائها تشع القيمُ والنظم والفهوم.
ولذا يقول حافظ إبراهيم في حقها[1]:
الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتَها
أعددتَ شعبًا طيب الأعراقِ
الأمُّ روضٌ إن تعهَّدَه الحَيَا
بالرِّيِّ أَوْرَقَ أيَّما إيراقِ
الأمُّ أستاذ الأساتذة الألى
شغلت مآثرهم مدى الآفاقِ
الأم الفاضلة هي سر البقاء والوجود، وعنوان التحدي والصمود، شيمتها الشهامة والكرم والجود.
إن العيون دون جمالها الأخاذ لا ترى فهي عمياء!
وإن الآذان لغير كلامها الشائق لا تسمع فهي صماء!
والحياة كلُّها من دون لمساتها جامدة فهي عرجاء!
فهي الهواء والضياء، والماء والغذاء!
إن الأم الفاضلة هي ينبوع الحب، وموردُ الودِّ والقرب، لن تجد الدفءَ إلا بين ذراعيها، ولا الأنسَ إلا في لمسة يديها.
فهل الراحة والسكن إلا في حجرها الوفير؟!
وهل تُصنع العظَمة إلا من أم فاضلة ذات فعالية وتأثير؟!
فألفُ تحيَّة لمربية الأجيال ورائدة التغيير!
فهي التي قدَّمت للعالم الكثير والكثير.
وألف ألف شهادة شكر وثناء لها وتقدير!
فمنها لاحَ شعاعُ التنوير.
ولله درُّ معروف الرصافي إذ يقول[2]:
ولم أرَ للخلائق من محلٍّ
يُهذِّبها كحِضن الأمهاتِ
فحضنُ الأم مدرسةٌ تسامتْ
بتربية البنين أو البناتِ
فيا أيها الأولياء الأوصياء:
اتقوا الله في تربية البنات، هذِّبُوهُنَّ حتى يصرْنَ أمهاتٍ جليلات، واسلكوا بهنَّ سير الصحابيات؛ فعليهن المعوَّلُ في مستقبل الأيام لبناء المجتمعات.
أيها الابن الوفي:
أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك، فاعرف لكلٍّ قدرَه ومكانه، تَنَلْ برَّه وتنعم باحترامه! فمعرفتُك بفقه الأولويات، تجعلك تسعى لإكرام الأمهات.
فكن بارًّا بمن حوتك زمنًا وحينًا، وسَقَتْكَ ورَعَتْكَ جنينًا، فبطنُها لك السكن الوافي، وضرعها لك الغذاءُ الكافي، قلبها ينبض لك بالحب والمودة، فكيف لك أن تهجرها أيامًا وشهورًا عدة!
أتجحد فضلها يا فتى وتبيع وُدَّها بدراهمَ معدودة؟!
أنسيت أنها تمنَّت لك طول الحياة وإن صارت بعدك مفقودة؟!
أتقول لها: أف لك أف، وهي تضعك في الجفون وتحملُك في الكف!
فكم جاعت لتشبع!
وكم مرضت لتشفى!
وكم ضحَّت بكل ما تملك لتحدِّدَ مسارك، ولتواصل مشوارك!
فيا أيتها الأم الفاضلة:
الشكر لك موصول، والقلب بحبك متبول، ونجمُك الساطع ليس له أفول، فماذا عساي أن أقول؟!
إن العبارات تُعلن عجزها عن وصفك أيتها الملكة الكريمة!
وإن الأساليب تقر بفشلها في رسم حدود مملكتك العظيمة!
أنت الشمسُ المشرقة بالخير، وأنت القمر المضيء للغير.
أنت لست واحدة منفردة، بل أنت أمَّة كبيرة متحدة.
أماه:
أَلِفُكِ أَمَلٌ، وَمِيمُكِ مَحَلٌّ، وهمزتُك آهات، والهاء فيك هَوى وزفرات.
أماه:
حقُّك لا توفيه المجلدات ولا الأسفار، ولا تكفيه الأبيات ولا الأشعار، ولا تعبِّر عنه الأخبار ولا الآثار.
أماه:
برُّك وصية ربانيَّة، وموعظة نبويَّة، فيا ربِّ وفِّقنا لأداء حقوقك المرعية.
أماه:
أنت شخصيتي وكياني، وفيك زادي وإيماني، أنت أحلامي وأشجاني، وصورتك حاضرة - على الدوام - في وجداني، وإن كنت تحت الثرى قد أَرِمْتِ لأزمان.
أماه:
من عقيدتك النقيَّة تلمست الضياء، وألفيت السناء، ومن أخلاقك المرضية أدركت روحي الصفاء، وتنعمت بالنقاء، وسيرتك لي هي المحفز لكل إنجاز وعطاء، فليحفظْك ربُّ الأرض والسماء، وليجازِكِ عنا خير الجزاء.
أماه:
سامحيني على ما بدر مني من زلل، واغفري لي كلَّ إساءة وخلل!
فوالله لو استطعت لقصرت من أيامي ليطول عمرك في الحياة، ووالله لو تمكَّنت من نزع أعضائي لزرعتُها في جسدك فتعود لك العافية.
هذه خدودي اتخذيها جسرًا لتنقُّلاتك، وهذه عيوني أبصري بها الألوان فتزدان حياتك، وهذا أنا بين يديك، جاثم على ركبتيك، فسلي ما بدا لكِ، وأنا منفذٌ - بإذن الله - كلَّ شيء، ولكن حسبي من ذلك نبل النية، وسلامة الطوية!
وختامًا، تعجَّلوا فبرُّوا أمهاتكم؛ فالزمن سريع الفوات، وتفنَّنوا في خدمتهن في جميع الهيئات والأوقات، تنجحوا وتفلحوا في كل الحالات، فبالأم تحلو لكم الحياة، وتدخلوا بها جنات القربات.
[1] محمد حافظ بن إبراهيم فهمي المهندس، الشهير بحافظ إبراهيم (1288 - 1351هـ = 1871 - 1932م)، شاعر مصر ومدوِّن أحداثها نيفًا وربع قرن، وُلِدَ في ديروط، ونشأ يتيمًا، وتوفي بالقاهرة، نظَم الشعر أثناء الدراسة، واشتُهِرَ حتى لُقِّب بشاعر النيل، له: ديوان حافظ، والبؤساء، وليالي سطيح، وكتيب في الاقتصاد وغيرها. انظر: الأعلام 6/ 76.
[2] هو معروف بن عبدالغني البغدادي الرصافي (1294 - 1364هـ =1877 - 1945م)، شاعر العراق في عصره، من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق، وُلِدَ ببغداد، ونشأ بها في الرصافة، وتوفي في الأعظمية ببغداد، له كتب؛ منها: ديوان الرصافي، ودفع الهجنة، ومحاضرات في الأدب العربي، وغيرها الكثير. انظر: الأعلام 7/ 268.