تعتبر فترة الخطبة مقدمة تمهيدية للحياة الزوجية؛ لذا فهي مرحلة مهمة للتهيئة والإعداد للحياة الجديدة والمسؤوليات المختلفة. وعلى الرغم من أهميتها، لكنها لا تُستثمر بالشكل المناسب، فغالباً ما تمضي بطريقة عفوية وغير ممنهجة في الطريق الصحيح، الذي يُمكن كلا الخاطبين من التعرف على شخصية الآخر، وإدراك الجوانب المختلفة في تفكيره وسلوكياته.
فكثيراً ما تكون مرسومة الصورة من كليهما؛ ليظهر نفسه بصورة منمقة متجملة، ويخفي الكثير من الحقائق التي قد تكون مزعجة؛ مما يجعلها فترة تجمل وخيال، بعيدة عن الواقع، سواء في
إظهار الذات، أو في رسم حياتهما المستقبلية، وذلك إن لم يستخدماها بشكل يحيد المشاعر، والتجمل بعض الوقت ليُفعلا المنطق في التعرف على جوهر شخصية كل منهما.
والحقيقة أنه كلما تزينت هذه الفترة أكثر: كانت أبعد عن الواقع، وبالتالي تجعل من دخولهما للحياة الزوجية أمراً يحمل الكثير من المشكلات؛ نظراً لدخولهما مرحلة التعرف الحقيقية، التي تسقط فيها الأقنعة، فتبدو الشخصيات متغيرة عن السابق، وبصورتها الحقيقية، وبالتالي من الطبيعي أن يحدث بعض الانزعاج لكليهما، نتيجة التغير الكبير الحاصل عن فترة الخطبة.
فعلى أرض الواقع لابد من وجود اختلافات كثيرة بينهما في البيئة والشخصية. وقبل ذلك في التكوين النفسي الذي أوجده الله ليكون كلاهما مكملاً للآخر. ومن منشأ هذا الاختلاف الطبيعي: تنشأ بعض الخلافات التي لو تفهمنا منشأها لكانت في أضيق الحدود، ولوجدنا الحلول للكثير من الخلافات الزوجية.
وعلى الرغم من أن هذا الاختلاف فطري: إلا أنه إن تمكنا من استيعاب بعض تفاصيله، فإن بيوتنا تصل بإذن الله للتوافق نتيجة خلق التكامل بين الزوجين. فالإنسان بطبيعته ينجذب لمن يكمله نفسياً وفكرياً، ويشبع احتياجاته، وهنا تكمن نقطة الارتكاز. فمحور الكثير من المشكلات الزوجية في أن الاختلاف في طبيعة الرجل والمرأة: اختلاف كبير يجعل من لا خبرة له في الحياة الزوجية، ومن لم يثقف نفسه في فهم الزوج الآخر واحتياجاته: يقصر معرفة احتياجات زوجه على احتياجاته هو، قياسا على نفسه، وهنا منبع الخطأ، ومصدر الكثير من المشكلات.
إذ إن طبيعة كلا الزوجين تختلف، وبالتالي تختلف لغتهما في التعبير واحتياجاتهما. لكن جهل الزوجين بذلك يحول المشكلة ـ من وجهة نظرهما - من قلة المعرفة إلى العناد، فمثلاً يردد كثير من الأزواج عبارة جديرة بالاهتمام (فيقولون خاصة في وقت الخلافات بينهما: إن زوجه الآخر على علم بما يريد لكنه يقصد تجاهله) ويراها حقيقة، ويعتقد اعتقاداً جازما بها، وبالتالي لا يكلف نفسه الدخول في حوار مع شريكه ليشرح له احتياجاته، وما يحب وما يكره، أو يحاول أن يتفهم وجهة نظره تجاه سلوكياته. بل يعتبر السلوكيات التي لا تناسبه والصادرة من زوجه على أنها عناد، متناسيا الطبيعة المختلفة بينهما وقلة المعرفة بذلك.
بينما يتبنى بعضهم مذهباً آخر فيقول أحد الزوجين: "إن زوجي غامض ولا أفهمه. ولا أعلم لم يتصرف بهذا الأسلوب" والنتيجة نفسها وهي إلقاء الملامة من كل منهما للآخر في غموضه أو عناده، وتعمده الإساءة وتجاهل ما يريد. دون محاولة إدراك الطبيعة المختلفة بينهما، والتي تُنتج سلوكيات ولغة مختلفة لكل منهما.
وحقيقة الأمر: أن أهم عناصر الاختلاف بينهما تكمن في: اللغة التعبيرية والاحتياجية، لا اللغة المنطوقة، فلكل زوج احتياجات مختلفة، ووسائل لإشباعها.
والمشكلة أن كلاهما يقدم للآخر احتياجاته هو وبلغته، فلا يجد الاستجابة المرجوة، وبالتالي لا يتم تعزيز ذلك الجهد فيفتر ويمل. وهذا ما يحصل خاصة في بداية الزواج، إذ إن كثيراً من الأزواج يجتهدون أو يجتهد أحدهما في إرضاء الآخر، ثم تنطلق الكلمات بعد فترة وجيزة، فعلت كل شيء لكن لا يعجبه شيء. فعلى الرغم من التقائهما في احتياجات بيولوجية، فهما على اختلاف كبير في الاحتياجات النفسية الفسيولوجية. فأعظم احتياج للمرأة مثلاً: الإحساس بالأمان، ومنه تنطلق سلوكيات كثيرة هي منشأ للخلافات بين الزوجين، لعدم إدراك دوافعها. فقد تخطئ الطريق في الوصول لما يُشبع احتياجها للأمان، فتسعى باحثة فيما يطمئنها، فتعمد المرأة مثلا لتعقب زوجها، فتبحث في هاتفه لما يبعث لديها الطمأنينة والأمان. وتنزعج من خلوته بنفسه أو سفره مع الأصدقاء؛ لاعتقادها أن في بعض هذه السلوكيات ما يخل بالأمان لها أو لبيتها. وتحاول المرأة أن تصادر كل مشاعره لنفسها، في محاولة لتشعر بالأمان؛ وليكون بقربها أو لتحافظ على بيتها وعليه، دون أن تقصد أن تحبس حريته أو تعد عليه أنفاسه. والهدف هنا إبراز دوافع هذه السلوكيات؛ لمعالجة المشكلات التي تُسببها ولا يُفهم من ذلك تأييد هذه السلوكيات، بل على العكس نحن بحاجة لكشف بعض الأقنعة عن هذه السلوكيات ودوافعها، ليتم إشباع الحاجات التي تتحكم بالدوافع للحد من السلوكيات المزعجة، والتي تتسبب في الخلافات الزوجية.
بينما يحتاج الرجل لمساحة من الحرية؛ لاستعادة طاقته النفسية وترتيب أفكاره وحل مشكلاته؛ فيحاول أن ينفرد بنفسه، أو أن يشعر بالحرية خارج بيت الزوجية، سواء مع الأهل أو الأصدقاء. فهو لا يمتلك الطاقة لإبداء محبته واهتمامه بشكل متواصل، فطبيعته العاطفية تتأرجح بين القرب والبعد، فكلما اقترب أكثر فتر، ومع البعد يستعيد رونق مشاعره وطاقته نحو بيته وزوجته. ولو أدركت الزوجة هذا الجانب لكان تدعيمها لخلوته بعض الشيء أولى من ملاحقته، ولو أدرك الزوج أهمية الأمان لدى المرأة لمنحها جزءاً منه بتقبله لها شكلا ومضمونا؛ وبالتالي لاستقرت حياتهما بشكل أفضل.
وكذلك يحاول الرجل أيضا أن يشعر بقوته وسيطرته على بعض الأمور، لتدعيم ثقته بنفسه ومكانته عند نفسه خاصة، وعند أسرته ومن حوله بشكل عام. فيعمل على أن يثبت ذاته بطريقة كبيرة، وأن تكون كلمته المسموعة وذات الصدى؛ ليثبت لأسرته أنه المهيمن عليها، والحامي لها فحاجته للتقدير كبيرة ومنها يستلهم طاقته. وعندما لا يجد هذه المكانة التي تشعره بذاته، فإنه يبحث عنها في بيت آخر. بينما تحتاج المرأة للكلمات اللطيفة التي تشعرها بالتقدير وتمنحها الثقة، وتزيد من طاقة عطائها. وكلاهما بحاجة للاهتمام، والإنصات ليعطي ويستمر بإيجابية.
ويعبر الرجل عن حبه بالعطاء، فيعطي بيته وزوجته، ويعتبر ذلك برهان لمحبته، بينما تحتاج المرأة للكلمات الرقيقة من حين لآخر، وتعتبر أن العطاء هو واجبه نحو بيته وأسرته، وأن الكلمات الجميلة تعبير عن تقديره وشعوره لما تقوم به. لتنجلي نفسها من التعب، وتشحن معنوياتها فتقدم المزيد لأسرتها تضحية وصبراً. وهو يعتبر أن مثل هذه الكلمات جميلة بحد معقول، فهي لا تقدم ولا تؤخر. بل مجرد كلام فيحد منه، أو لا ينتبه لأهمية قوله أصلاً؛ لأنه يعطي ويكتفي بذلك تعبيراً عن حبه فالأمر مرهون لديه بالعمل لا بالقول. كما أنه يحتاج للعاطفة والكلمات الرقيقة بجرعات قليلة متباعدة؛ لأن قليلها يكفيه، وكثيرها يزعجه، فهو عقلاني بطبيعته، يمنح العاطفة ويستقبلها بالعطاء أكثر من الكلمات، بينما المرأة عاطفية بشكل كبير، تتوق للكلمات الرقيقة، وتهتم باستقبالها وإرسالها لمن حولها فقد خُلقت لتمنح العاطفة، فهي حاضنة الأجيال.
أما من الجانب الانفعالي: فيمكن تشبيه المرأة بتغير انفعالاتها كموج البحر، يعلو ويهبط في فترات متقاربة؛ وذلك نتيجة لعوامل هرمونية تسيطر عليها. وكذلك يمكن أن يؤثر عليها أي عامل خارجي لينقل مشاعرها من حال لحال آخر بشكل سريع. وكثيراً ما تحدث اضطرابات في الانفعالات خاصة فترة الدورة الشهرية، تحتاج خلالها للمشاركة الوجدانية والتعاطف ومساندة الزوج؛ لأنها تجد الراحة في التعبير وتفريغ ما تحس به، عن طرق التحدث إلى من يتفهمها ويستمع إليها.
وكما تمر المرأة بدورة شهرية، فالرجل أيضا يمر بدورة عاطفية، ويحتاج خلالها للاهتمام والخلوة بنفسه دون ملاحقته؛ ليتحدث بما يشعر، فطبيعته بخلاف المرأة يجد في عزلته بعض الوقت؛ للتنفيس عن مشاعره وحلاً لبعض مشكلاته. ومع ذلك فهو بحاجة للإحساس بالاهتمام من زوجته دون الانشغال به وبحالته، وطرح تفسيرات مثيرة للمشكلات عن سبب إنزعاجه وتوتره؛ حتى تكون هذه الفترة قصيرة المدة، وسريعة الانتهاء دون خلافات بينهما. وإن كانت دورة الرجل العاطفية تحتاج بعض الوقت لتستقر، لكن فترات استقراره الانفعالي أطول من المرأة التي تتقلب في أيام، وأحيانا خلال اليوم الواحد.
من المهم التفكير بطريقة الزوج الآخر؛ لتلمس احتياجاته. ومشاركته في حوارات صريحة؛ للتعرف على اهتماماته، وفي الوقت نفسه: احتوائه أثناء المشكلات والانفعالات بأسلوبه ونمطه الفكري والسلوكي، مع الاعتراف من كلاهما للآخر بالأهمية، وذلك بصياغة العبارات الجميلة التي تردم الفجوات وتصلح النفوس.
فالحياة الزوجية مدرسة تتطلب من كلا الزوجين: دراسة أحوال شريكه المتغيرة مع تغير الوقت والعمر، وبالتالي تتطلب تغيير أو تطوير المنهاج المستخدم في هذه المدرسة، تبعا لتغير الزمان والأعمار والضغوط الحياتية المختلفة. بتحديث المنهاج والأساليب بشكل مستمر: بالقراءة والوعي وإشعال النبض بداخله، من خلال التعلم والتدريب والصبر، وذلك بعد إدراك أن ما يحدث في الحياة الزوجية لزوجين طبيعيين من خلاف: هو نتيجة الاختلاف الذي بحاجة للتفهم؛ ليمنحهما التقارب بدلاً من التباعد؛ وليكون هذا بذوراً للمودة والرحمة بينهما.