نعم، فهمتك الآن أبي الحبيب، فهمت مشاعرك حين حملتُ – أنا - كائنًا ملائكيا صغيرًا بين يدي، فغمرني شعورٌ دافئٌ ومُخيفُ في اللحظة ذاتها، وتبادر إلى مخيلتي: ما الذي بإمكاني فعله لهذا المخلوق البريء ؟ هل أستطيع العبور به إلى بر الأمان أم سأكون العقبة العظمى أمام مسيرته؟ هل سأربيه التربية المنشودة ليكون صالحا مصلحا أم سأنشغل عنه وأتركه يعيش عبثا ؟ وحينها فقط فهمتُ مسؤوليتك !
نعم فهمتك، حين سافَر ولدي لزيارة أقاربه، فكم آلَمني فِرَاقه، وأحرَق قلبي غيابه، وأوجعني بُعده! فكنتُ على أحرِّ من الجمْرِ لموعد مجيئه واللِّقاء به، ورغم أنه لم يبق هناك سوى عِدَّة أيام، لكنها مرت علي شهورًا وربما أعوامًا، لقد كنتُ رفيق الوَحدة بدونه، وحينها فقط فهمتُ لهفتك ! نعم فهمتك، حين كنت أسمع بكاء طفلي فأُهرول إليه رغم شِدَّة انشغالي، ولا أتحمل رؤية دموعه، فأحمله وأهدهده حتى يسكن فؤادي وتطمئن روحي، وحينها فقط فهمتُ حنانك ! نعم فهمتك، حين كان يطلُب مني ابني الخروج معه للتنزه فأُلبِّي طلبه مهما كنت أشعر بالتعب والإرهاق، وأكاد أضَع اللُّقمة في فمي، ثم يسوقني حبُّه إلى وضعها في فمه، رغم أنه قد أكَل مثلها، واستغنى عنها، وحينها فقط فهمتُ إيثارك ! نعم فهمتك، حين أَشُمُّ رائحة ولدي أشعر أني قد رُدت إليَ روحي، أما عن صياحه فذلك أجمل صوت تسلل إلى نفسي حتى في اللحظات التي أحتاج فيها إلى الراحة والهدوء، وحينها فقط فهمتُ صبرك ! نعم فهمتك، حين يَمرض أو يتعَب ولدي فلا يستطيع أحد أن يتخيل شِدَّة خوفي عليه وحزني من أجله، حينها يتشتَّت فِكري ويزداد همِّي، ويَعظُم حزني؛ لمجرد رؤيته على تلك الحال، ولو استطعتُ أن أهَبَ له الصحة من جسدي لفعَلت، وأن أرسم السعادة في مُحيَّاه لَمَا قصَّرت، وحينها فقط فهمتُ رقتك ! نعم فهمتك، حين حصل فلذة كبدي على الثانوية العامة، فلم تسعني الدنيا فرحا، ولم يشملني الكون طربا، تذكرت كل لحظة مرت علي معه، بدأ الحلم يظهر واضحا أمام عيني، وحينها فقط فهمتُ سعادتك ! نعم فهمتك، حين تزوج ابني، فلم أصدق نفسي وأنا أضع يدي في يد صهره وكيلا له، أقول في نفسي: طفلي أصبح زوجا، وحينها فقط فهمتُ فرحتك ! نعم فهمتك، حين وهب الله لابني طفلا جميلا، فأصبحت جٍدا، وحملت حفيدي بين يدي، وعندها تذكرت يوم حملت ابني حين وُلد، فلم أتمالك دموعي، وحينها فقط فهمتُ مشاعرك !
أبي الحبيب: نعم فهمتك الآن، سامحني فقد أخطأت كثيرا في حقك، لكني أحبك، قد أكون فهمت دوافع كل تصرف قمت به متأخرا، وقتها كنت مندفعا غاضبا، لكنني حين أصبحت أبا أدركت كم أعطيت وبذلت وضحيت، فرحمة الله على كل أب.