كثيراً ما نتعرض لمواقف هجومية تحمل شحنات غاضبة وعدائية ممن حولنا؛فنقف أمام هذه المواقف متعجبين مما يحدث ومن ردود الأفعال كونها تحدث دون سابق إنذار، ولا تحمل ردة فعل ناتجة عن خلاف سابق، بل قد تحدث لمجرد إلقاء التحية على شخص غاضب..فتكون النتيجة بدلاً من رد التحية بمثلها تفريغ جملة غضبه بنا بشكل مفاجئ!
مما يجعلنا نتساءل ما الذي حدث لكل ذلك؟!
هذا المشهد المتكرر يسمى بالإزاحة النفسية: وهي تفريغ الشحنات السلبية في شخص أوهدف آخر من خلال موقف لا علاقة له بموقف الغضب نفسه، ولم يتسبب بحالة الشخص الانفعالية. ولكن لأنه لا يستطيع الانتقام أو تفريغ ما يجده في نفسه في المصدر الأصلي؛ لمكانته الاجتماعية أو سلطته عليه كأن يكون مديره في العمل مثلاً، أو أي جهة أقوى من الجهة التي يعمل على إزاحة غضبه بها، على اعتبار أن نتائج إزاحة غصبه بها لا تُشكل تهديداً له من الناحية الاجتماعية كسابقتها فلذلك يستهدفها بتفريغ بمشاعره السلبية.
ويستخدمها الكثيرون في الحياة اليومية دون أن يشعروا، وتُستخدم خاصة مع الأطفال عندما يتم عقابهم بشدة بالضرب خاصة على هفوة عابرة، أو حتى دون مبرر فقط لوجودهم بجوار أحد الوالدينوهم في حالة انفعالية سيئة.وحقيقة الأمرأن العقاب لم يكن بسبب سلوكهم إنما بسبب ما يحمله الوالدان من شحنات غضب من مصادر متعددة وضغوط مختلفة لكن مع الأسف يتمإزاحتها في الأطفال لأنهم المصدر الأضعف الذي يستقبل انفعال الوالدين دون ردة فعل تجاههما.وعلى نفس المبدأ تتم الإزاحة لكن بأهداف أخرى فقد نرمي الهاتف بقوة بعد مكالمة مزعجة، أو نغلق الباب حتى يكاد البيت يتزلزل من قوة إغلاقه بعد خلاف عائلي لم نتوصل خلاله إلى حل مرضٍ لنا.
وتعتبر الإزاحة النفسية إحدى حيل الدفاع النفسية التي تهدف الحفاظ على الذات وحمايتها من التوتر بتخفيف الضغوط عليها،والتي نتجت عن الإخفاق في مواجهة المشكلات وحلها في محاولة لإحلال التوافق النفسي بدل الصراع الداخلي الناتج عن تراكم الانفعالات السلبية.ولذلك فهي إحدى الحيل التي يستخدمها الجميع بطريقة لا شعورية، وبالتالي لا يدرك الفرد أنه يقوم بها ولا هدفه منها. ولكن استخدامها يختلف من شخص لآخر فالأسوياء يستخدمون الحيل الدفاعية بصورةعابرة؛ لأنهم يجيدون المهارات اللازمة لحل مشكلاتهم. بينما يكثر من استخدامها عند من فقد المهارات الاجتماعية مما تجعلهم يبتعدون عن السواء النفسي. وغالباً ما تكون الإزاحة النفسية على شكل سلسلة متتابعة تنتقل من شخص لآخر فمثلاً: قد يتسبب تأخرالزوج عن عمله بإنذاره من مديره وعندها غالباً ما يحمل شحنة غضبة إلى البيت وبمجرد أن تسأله زوجته عن غضبه قد ينفجر وكأنها هي من تسببت بالمشكلة؛ فتنتقل هذه الشحنة بشكل تلقائي للزوجة التي لم تستطع الرد عليه لكنها تستطيع أن تُنفس هذه الشحنة السلبية من خلال أي مسبب عابر؛ لعقاب أطفالها وضربهم وبالتالي يستقبلون هذه الشحنة الانفعالية ويعملون على تفريغها عن طريق الشغب والعنف بينهم أو على الألعاب فتضرب الطفلة الدمية ويكسر الطفل اللعبة التي بين يديه.
وعادة ما تُستخدم الحيل الدفاعية بشكل مجموعات فلا تُستخدم حيلة دفاعية بشكل فردي بل يرافق الإزاحة مثلاً التبرير والإسقاط؛ لرسم صورة نقية عن الذات وإبعاد الملامة عنها بجعل المسبب خارجي وإيجاد مخرج مناسب يبرر ما حصل من انفعالات سلبية وشرخ في بعض العلاقات الأسرية أو الاجتماعية.
وتعتبر أهم أسباب الإزاحة النفسية كبت الانفعالات وإهمال التعبير عنها بأساليب مقبولة اجتماعياً، وكذلك نقص المهارات المتعلقة بتعلم الأساليب الاجتماعية المختلفة. فيعمد الفرد الهروب من الضغوط والمواقف التي يخفق في إدارتها بالحوار والمهارات الاجتماعية المناسبة التي تساعده في حل مشكلاته المسببة للانفعالات السلبية بإزاحتها في جانب أضعف لا يخاف من رد الغضب عليه. ولا يعقبه نتائج كبيرة عليه. بالتالي يتخلص من توتره أو الصراع النفسي نتيجة رغبته بالانتقام ممن أغضبه والرد عليه.وكذلك الحال عند الشعور بالإحباط في إشباع الاحتياجات بالطرق المباشرة مما تتسبب بضيق وانفعالات سلبية يتم إخراجها بالإزاحة بدلاً من البحث عن سبل أخرى لإشباع الاحتياجات.
ومن أهم سبل التعامل مع الشخص الذي يكثر استخدام الإزاحة امتصاص غضبه بالتزام الهدوء دون الرد عليه بل بمجاراته ثم محاولة نقله من حالة الغضب إلى الهدوء بالتعاطف والتفهم لحالته الانفعالية.وذلك يحول دون أن تنتقل الشحنة السلبية للمحيطين به؛لكسر سلسلة الإزاحة كما أن الاهتمام بالشخص الغاضب ضروري؛ لنقله لحالة الاستبصار بعد زوال غضبه عن طريق الحوار الهادئ ومناقشة المشكلات والمواقف المسببة لغضبه وسبل حلها. وشرح العواقب الناتجة عن تكرار إزاحته لانفعالاته وفي ذلك محاولة لنقلها من كونها لا شعورية إلى جانب شعوري مدرك يمكن السيطرة عليها.ومحاولة أيضاً الارتقاء بها من حيل دفاعية بدائية كالإزاحة إلى حيل أكثر رقياً كالتسامي والتي تشكل صورة ناضجة للإزاحة نتيجة وعي الشخص بذاته وبدوافعه وانفعالاته وبالتالي يعمل على تحويلها من سلوك غير مقبول إلى سلوك مقبول اجتماعياً وكثيراً ما يكون مثمراً ومفيداً كتنقيس الغضب بالرياضة والمشي، والحد من العنف بالتدرب على الملاكمة وقد تظهر في صورة إبداعك الرسم. والأجمل من ذلك أن تتحول هذه الطاقة المزعجة لطاقة مبدعة من خلال الفنون المختلفة والتنافس الرياضي والأعمال التطوعية.
إن إدراكنا للعواقب السلبية لكثرة استخدام الإزاحة النفسية يجعلنا أكثر تحكماً بانفعالاتنا فهي تعمل على تخليصنا من التوتر الآني لكنها في الوقت نفسه تنتج توتراً كبيراً على المستوى الشخصي والاجتماعي. فهي تمنعنا من تعلم أساليب حل المشكلات والتحصن ضد الضغوط والحفاظ على إدارة مشاعرنا بشكل أفضل وتحول أيضاً دون تنمية تواصلنا مع الآخرينبل على العكس تساهم في خسرانهم في مواقف انفعالية عابرة لم يتسببوا بها؛ لأن الإكثار من استخدامها يُنتج البعد عن الواقع وعدم الاستبصار بالمشكلات الشخصية فهي توهم الشخص بأن مشكلته خارجية تسبب بها من حوله. بينما هي مشكلة شخصية تتمثل في نقص قدراته الاجتماعية في التعامل مع المشكلات من حوله. ونتيجة هذا الإسقاط فإنه لن يتمكن من حلها بل وستتفاقم بمشكلات أخرى في محيطه الأسري والاجتماعي نتيجة إزاحات متعددة.
ومن المهم البدء مع الأطفال من سن صغير في زيادة وعيهم بذاتهم وسلوكياتهم وتعليمهم الأساليب المقبولة لتفريغ المشاعر السلبية، والأهم من ذلك أن نتفهم أسباب سلوكياتهم؛ لنتمكن من مساعدتهم بإشباع احتياجاتهم وتعليمهم المهارات الحياتية اللازمة. وأن نكون قدوة لهم في ضبط النفس والتسامي عن السلوكيات السلبية الناتجة عن الانفعالات؛ لتكون انفعالاتنا تحت سيطرتنا ولا نكون نحن تحت رحمة اندفاعاتها. فهدفنا أن تكون سلوكياتنا ضابطة لانفعالاتنا بدلا من أن نترك انفعالاتنا تُشكل سُلوكياتنا.