منى أبوحمور
عمان- بعد أكثر من 15 عاما قضاها أبو سيف يعمل في إحدى الدول الخليجية، لم يكن يعرف أن هذه الإجازة الطويلة التي يقضيها مجبرا بالمنزل، ستكون بوابة جديدة ليتعرف خلالها أكثر على أبنائه بعد أن أبعدته الغربة عن أهم مراحل الطفولة التي مروا بها، ويكون أكثر قربا من زوجته التي تحملت المسؤولية المضاعفة بسبب غيابه المستمر بحكم العمل.
أبو سيف الذي يعمل مهندسا في إحدى الشركات في الخارج، قرر منذ سنوات السفر والعمل لتأمين مستقبل تعليمي جيد لأبنائه الأربعة، ورغم صعوبة هذا القرار وعيشه بمفرده في الغربة، إلا أنه كان مضطرا إلى ذلك، لكنه افتقد أن يكون حاضرا في أهم المراحل التي نضج بها أبناؤه، مبينا أنه كان يأتي إجازات قصيرة، لم تكن تكفي لأن يكون معهم كما يجب.
وعندما انتشر فيروس كورونا بمعظم دول العالم، قرر أن يأتي ويبقى مع عائلته، ورغم قساوة هذا الوباء والمستقبل المجهول الذي ينتظر الجميع، إلا أنها كانت فرصة لأن يكون أكثر قربا من أبنائه وزوجته، واكتشف أن هنالك لحظات لا تعوضها أموال العالم، وهو الآن يرى السعادة في عيونهم جميعا وهو يشاركهم اهتماماتهم وأنشطتهم ومواهبهم جميعا.
وبالرغم من قساوة الحجر والضجر الذي دخل على حياة العديد من الأسر الأردنية، إلا أن عطف الأب وحنانه الذي لا ينضب، كسرا من برود الحجر وقسوته وزرعا الأمل في نفوس الأبناء وهونا على الأمهات وطبطب عليهن وحدا من قلقهن على أبنائهن.
في الحجر المنزلي آباء كشفوا عن مواهبهم وشاركوا عائلاتهم لحظات أمل وفرح وفكاهة غلبت على تصرفاتهم، حضروا الطعام لأسرهم ولعبوا الشدة والشطرنج علهم بذلك يخففون على فلذات أكبادهم صعوبة الوقت وقلق التعلم عن بعد.
لأول مرة من 18 عاما من الزواج يدخل سعيد ناصر إلى المطبخ ليشارك زوجته وبناته تحضير البيتزا بسابقة جعلت يوم عائلته استثنائيا ومميزا. ويعزو الأربعيني سعيد أخذه هذه الخطوة رغبة منه في مساعدة زوجته التي تتحمل الأعباء المنزلية والدراسية وحدها ومحاولة منه لتغيير جو الحجر الذي فرض تداعيات كبيرة على أبنائه الذين اعتادوا الخروج لزيارة أجدادهم.
ويضيف سعيد “الحجر المنزلي صعب على الصغار أضعاف الكبار، وبين الدراسة وعدم وجود أي متنفس حاولت التخفيف عنهم”، لافتا إلى السعادة الكبيرة التي بدت على زوجته وأبنائه وانشغالهم بأخذ الصور له وتصوير فيديوهات لتوثيق تلك اللحظات، ما جعله يوقن أهمية وجوده إلى جانبهم.
في حين أحيت أزمة كورونا الحنين إلى الذكريات القديمة وألعاب الطفولة في نفس الخمسيني خالد البكري الذي أعاد تلك الأيام برفقة أبنائه حيث شاركهم لعبة البرسيسة والشدة وحجر النرد، فضلا عن مشاركتهم القصص القديمة التي سمعها من والديه.
يقول “كلما شعرت بأنهم بدؤوا يشعرون بالملل أو الخوف من تداول الأخبار أكسر تلك المشاعر بأي شيء حتى لو كان نكتة”، كما أنه في كثير من الأحيان يكسر مللهم بمجموعة من الفوازير ليخلق نوعا من التفاعل بينه وبينهم.
تقرب الآباء من أبنائهم كان واضحا في معظم الأسر الأردنية بفضل أزمة كورونا التي اقتضت خلالها الإجراءات الاحترازية التعطل وبقاء الآباء والأمهات برفقة أبنائهم طوال اليوم.
“رغم شوقي للعودة للعمل، إلا أنني كنت بحاجة إلى هذه الإجازة لأكون أكثر قربا من أبنائي”، بهذه الكلمات يقول الأربعيني مهند الحياري إن أزمة كورونا على صعوبتها، إلا أنها جعلته أكثر قربا من أبنائه ومشاركة أفكارهم وهواياتهم.
إلى جانب الاهتمام بدراستهم، أخذ مهند على عاتقه العديد من المهام، فإعداد وجبة العشاء يوميا كانت من مهامه؛ حيث يشاركه أبناؤه الذكور فقط في إعداده محاولة منه لتقديم نوع مختلف من الشكر والثناء لزوجته وبناته اللواتي يتعبن أكثر من غيرهن طوال اليوم.
كسر الروتين اليومي وإيجاد روتين جديد يناسب المرحلة هو ما قام به مهند الذي خصص ساعة رياضة كل يوم يمارس بها وأفراد عائلته تمرينات خفيفة للترويح عن أنفسهم وخلق أجواء من الحيوية والمرح بينهم.
بعد أن أصبحت الساعة السادسة مصدر قلق وخوف للعديد من العائلات الأردنية عند سماع دوي صفارات الإنذار، حاول الثلاثيني أحمد مهنا أن يجعل هذه اللحظات تمهيدا للعبة البلاي ستايشن؛ حيث يقوم بإشغال أبنائه بتركيبها، ويعطي لكل فرد مهمة بتحضير المكسرات والسكاكر لإمضاء ساعة من اللعب.
يقول “أحاول أن أشغلهم بأي شيء يحبونه لعلهم يتجاوزن بذلك الخوف من تلك الصافرة”.
ومن جهة أخرى، ضج موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” بمشاركات العديد من الآباء والأبناء بالهوايات والمواهب، مما زاد من توطيد العلاقة بين أفراد العائلة.
ومن جهته، يشير أخصائي علم النفس الدكتور يوسف مسلم، إلى أهمية الدور الكبير لمشاركة الوالدين أبناءهما الأنشطة المختلفة في جميع الأوقات، ولكن ربما تعد هذه المحنة تحديا ويحتاج الأطفال إلى مشاركة ودعم نفسي لتجاوز هذه المرحلة بأقل الأضرار النفسية.
ويشير مسلم إلى أهمية نظام المشاركة في الأنشطة؛ حيث تستفيد الأم من الأولاد بمساعدتها في الأنشطة المنزلية لمن يستطيع ذلك لما له من دور كبير في التماسك الأسري ويعزز لديهم الشعور بقيمة المجهود الذي يقومون به.
ويجد مسلم أن قيام الآباء بالترفيه عن عائلاتهم ومشاركتهم النشاطات المختلفة يكسر الملل والضجر والخوف التي خلفتها تداعيات أزمة كورونا نفسيا ويوثق العلاقات بين جميع أفراد العائلة.
ويضيف “المساعدة في الأعمال المنزلية وممارسة الألعاب التي من الممكن أن تشعر الأبناء بالفرحة وتبدد لديهم الخوف تعد أمرا صحيا”، لكن على الآباء أن يستمروا بذلك حتى لا يحدث هناك خوف عند الأطفال أن يخسروا هذا الوقت الذي يقضونه مع أهاليهم.
ويرى مسلم أن الحجر تحد وتجربة جديدة يكشف تماسك الأسرة وإبداعها بأن تكون يدا واحدة، فهناك أسر تمكنت من النجاح وأخرى فشلت، لكن المطلوب من الأسرة أن تكون متكاتفة ومتماسكة ويمضي أفرادها معظم الوقت معا.
هذه الأزمة، بحسب الاستشاري الأسري أحمد عبدالله، كشفت قدرة الأب على أن يكون قريبا من أسرته والآن هذه الممارسات ينبغي أن تكون حاضرة دوما لدى الآباء سواء بحجر صحي أو بدون حجر صحي، ولكن للأسف أن بعض الأسر احتاجت لجائحة بحجم كورونا كي تعود ليوميات طبيعية يجب أن تمارسها.
ويذهب عبدالله إلى أن الدور الأبوي، إن تم ممارسته بشكل صحيح، فإنه سيخفف كثيرا من توتر أو خوف تعاني منه الأسرة بغض النظر عن سببه، مشيرا إلى أن الاندماج الأبوي يبعث في نفوس أهل البيت الطمأنينة والسكينة.
ويكون هذا الاندماج، وفق عبدالله، دافعا للأطفال لأن يكون لهم هم أيضا دور ومشاركة بيتية فاعلة، فالاندماج سواء كان إيجابيا أو سلبيا في المنزل يؤخذ بالقدوة.