عصام محمد فهيم جمعة
شرع الله لعبادة الزواج لحكمٍ؛ منها بقاء النسل، وإشباع الغريزة، وتحقيق الاستخلاف في الأرض، وتستمر هذه العلاقة بالمودة والرحمة والسكن، ولكن العلاقة الزوجية قد يشوبها أحيانا ما يعكِّر صفوها، سواء من جانب الزوج، أو من الزوجة، أو كلاهما، فتتحول الحياة إلى جحيم لا يطاق، فيكون الطلاق أو الخلع حلًّا لمثل هذه المشاكل.
لكن لماذا كثُر الطلاق في مصر والبلاد العربية والإسلامية، حتى أصبحت ظاهرة مجتمعية، ولا سيما في الأزمنة الحديثة والمعاصرة؟ رغم أن الأصل في الطلاق الحظر، فلا يطلق الرجل إلا لحاجة، وإليه ذهب جمهور الفقهاء: الكمال ابن الهمام من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة[1].
وجاء في فتاوى ابن تيمية أن الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قدر الحاجة، "فكانت الإباحة للضرورة، وعلى قدر الحاجة، فهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)[2].
فهو بغيض عند الله سبحانه؛ لِما فيه من المضار والآثار ما لا يسوغ إنكارها.
وهذه الظاهرة خطيرة جدَّا تجعلنا ندق ناقوس الخطر؛ حيث إنها تهدِّد البيوت والمجتمعات، وتحتاج بالفعل إلى تتضافر الجهود وصدق النيات لمواجهة تصدُّع الأسر، وبالتالي تفكُّك المجتمعات.
أهم الأسباب التي ساعدت على انتشار الطلاق:
للطلاق أسباب كثيرة ومتعددة، وهي ترجع إلى أسباب خلقية واجتماعية واقتصادية، وقد تكون هذه الأسباب من الرجل وحده، أو من المرأة وحدها، أو منهما معًا، أو من البيئة المحيطة والمؤثرات الخارجية، ولعل من أهم أسباب الطلاق:
سوء اختيار كلٍّ من الزوجين الآخر:
قد يخطئ أحدهما في اختيار الآخر بصورة لا تتفق مع المعيار الشرعي من الخلق والدين؛ مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها وجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفَر بذات الدين ترِبت يداك)[3].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (إذا خطب إليكم مَن ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)[4].
فإن ذلك يؤدي إلى وقوع الخلاف بينهما بصورة لا يستطيع أحدهما الاستمرار مع الآخر، مع استنفاذ كل وسائل الإصلاح الشرعية المعروفة للحد من مظاهر هذا الخلاف والشجار، واستحكام النفرة بينهما، فعندئذ يكون الطلاق هو الملاذ الأخير.
اختلاف ثقافة الزوجين:
قد تختلف ثقافة كلٍّ من الزوجين عن الآخر، فكلٌّ له نظرته الخاصة في الحكم على الأشياء، وموقفه الخاص في الحلال والحرام والعيب وعدم العيب، وما يجوز فعله وما لا يجوز، وهذا الاختلاف أمر طبيعي، ولكن إذا لم يحاول كل واحد منها أن يتنازل للآخر عن موقفه ونظرته لكلٍّ، فإن ذلك سيؤدي حتمًا إلى حدوث خلاف، ونزاع بينهما ينتهي بهما إلى الطلاق، خاصة إذا فشِلت كل الوسائل الشرعية للتقريب بينهما، وإعادة الحياة الكريمة بينهما[5].
تباين الوضع الاجتماعي والاقتصادي:
فإذا اختلف الوضع الاجتماعي بين الزوجين، فكلٌّ منها قد جاء من بنية مكانية مختلفة عن الآخر وتربية بيتية مختلفة، وفارق اجتماعي في مستوى المعيشة مختلف أيضًا، ولم يستطيع أحدها أن يتكيف مع الآخر في وضعه الجديد، وساءت العشرة بينهما، فإن ذلك مدعاة للفرقة بينهما.
الإهمال للحقوق والواجبات الزوجية:
يمثِّل الزواج شراكة حقيقية بين الزوجين لقيام أسرة سعيد متكاملة قائمة على المودة والرحمة والرعاية للأولاد، وقد رتَّب الشارع على عقد الزواج حقوقًا وواجبات على كل واحد من الزوجين تجاه الآخر، فإذا قام كل واحد منها بهذه الحقوق قامت بينهما العشرة بالمعروف، وأما إذا أهمل أحدهما بما عليه من حقوق تجاه الآخر، فإن ذلك مدعاة لحدوث خلاف وشقاق بينهما يكون سببًا في وقوع الطلاق[6].
تدخلات أهل الزوج أو الزوجة:
الأصل أن يستفيد الزوجان من توجيهات الأهل بما يخدم حياتها الزوجية، والأصل أن تكون توجيهات الأهل بما يرضي الله، ويحقِّق الهدف من قيام الأسرة السعيدة، ولكن إذا خرجت هذه التوجيهات عن نطاق الشرع، وعن هدف تحقيق قيام الأسرة السعيدة، وأخذت منحى التدخل في حياتها سعيًا لتحقيق أهداف خاصة من سيطرة أحد الطرفين على الأخر وابتزازه ونحو ذلك، فإن ذلك سبب وجيه لحدوث الخلاف والنزاع بين الزوجين، قد يؤدي إلى الفرقة بينهما إذا فشِلت جهود الإصلاح بينهما.
• ومن الأسباب طغيان الحياة المادية والاقتصادية، وزيادة نسبة الفقر والعوذ، والحاجة في المجتمعات؛ حيث أصبحت ظاهرة تهدد البيوت، وتحدث مشاكل لا حصر لها، تنتهي إما بالانتحار أو الشجار، أو الانفصال والطلاق.
• ومن أسباب الطلاق أيضًا في هذا العصر: انتشار وسائل التواصل الاجتماعى بشكل مخيف ومرعب، وصل إلى حد الظاهرة التي باتت تهدد كيان الأسرة؛ من حيث إنها شغلت كل أفراد الأسرة عن التواصل مع الآخر، وزادت الفجوة بين الزوجين، وشغلت المرأة قبل الرجل عن بعض الحقوق الزوجية، بل أصبحت طريقًا سهلًا ميسورًا لارتكاب المحرمات؛ مثل الخيانة الزوجية التي هي سبب رئيسي من أسباب الطلاق.
الآثار السلبية للطلاق على الأسرة والمجتمع:
وقد ذكر العلماء كثيرًا من الآثار السلبية للطلاق؛ منها ما يعود على الحياة الأسرية، ومنها ما يعود على الحياة الاجتماعية.
من أهم الآثار السلبية على الحياة الأسرية:
• الفرقة بين الزوجين، وابتعاد كل منهما عن صاحبه، وانتهاء ما كان بينهما من عشرة.
• تمزق الحياة الأسرية إذ لم يعد يجمع الزوجين بيت واحد يعيشان فيه، ويقومان معًا برعاية أولادهما، بل سيؤدي هذا التمزق الأسري إلى حرمان الأولاد من رعاية الوالدين معًا.
• تشتيت الأولاد بين الزوجين، نتيجة نزاعاتها التي تصل إلى المحاكم بما يؤثر سلبًا على حياة الأولاد؛ مما يجعلهم يصابون باضطرابات نفسية وسلوكية، وتعاسة مضاعفة تفوق تعاسة الزوج والزوجة بعد الطلاق، بالإضافة إلى أنهم يعانون أيضًا من انهيار الثقة بالنفس والفشل والإحباط.
• سوء العلاقة بين عائلتي الزوجين، وغالبًا ما ينشأ بينهما شقاق ونزاع بدلًا من المحبة والوئام.
من أهم آثار الطلاق السلبية على الحياة الاجتماعية:
• يَضَرُّ تماسُكَ المجتمع؛ لأنه يدمر اللبنة الأساسية فيه وهي الأسرة.
• يوجد نظرة سلبية من المجتمع إلى كل واحد من الزوجين من عدم قدرتها على التعايش السليم معًا، وأنه السبب في هدم كيان الأسرة.
• يفقد الزوجين احترام الناس لهما، ولم يعد بإمكانها العودة إلى الحياة العائلية السابقة مع الآخرين.
• يؤدي إلى انتشار الفساد في المجتمع، نتيجة حاجة كل من الرجل والمرأة إلى تلبية غرائزها في حال عدم وجود وازع ديني عندهم.
ويبقى السؤال كيف نحد من انتشار ظاهرة الطلاق؟ وما العلاج؟
• حسن الاختيار للزوج والزوجة، فإن كان الاختيار سليمًا، دامت العشرة بين الزوجين، وإن الاختيار سيئًا، كان سببًا في وقوع التنازع والنشوز والشقاق، ثم الطلاق.
• الكفاءة في الزواج، سواء من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فلا يخضع في اختياره لحكم الهوى والنزوات العابرة، فالزواج من الأمور الخطيرة في آثاره، فلا بد أن يتم الإقدام عليه بحكمة ورويَّة.
• معرفة كلا الزوجين بالحقوق والواجبات؛ لأن المصيبة أن يزوِّج الرجل ابنه أو ابنته وليس عندهما الحد الأدنى بالحقوق والواجبات الزوجية والمسؤولية التي تقع على عاتقهما، فيحدث الشجار عند كل هفوة؛ مما يزيد الفجوة والبغض بين الزوجين.
• التغاضي عن الهفوات والأخطاء اليسيرة، وهذا من حسن الخلق، وليتذكر الزوجين بعض التوجيهات النبوية، فهي معالم في طريق الحياة الزوجية، وهي كفيلة بأن تدفع سفينة الحياة الزوجية إلى الأمام في هذا البحر الخِضَمِّ المتلاطم من الفتن، ومن أمثلة ذلك - ومن هذه التوجيهات - ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)[7]، وقوله أيضًا عن أبي هريرة: (لا يَفرَك مؤمن مؤمنة، إن كَرِهَ منها خلقًا، رضي منها آخر)[8].
ولتتذكر المرأة أيضًا حديث النبي صلي الله عليه وسلم: (إذا صلَّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفِظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت)[9]، فالزوج بالنسبة للمرأة به تدخل الجنة وبسببه تدخل النار.
وفي النهاية: على الدول العربية والإسلامية جعْلُ ظاهرة انتشار الطلاق مشروعًا قوميًّا للحفاظ على بنية المجتمع وتماسك أفراده، وإنشاء مراكز إرشادية لتأهيل المقبلين على الزواج على تحمُّل المسؤولية، وكيفية حل المشاكل الزوجية.
هذه بعض الأسباب والآثار والعلاج والتوصيات لظاهرة الطلاق وانتشارها في المجتمعات العربية والإسلامية، وهي بمنزلة الخطوط العريضة، ومن باب التوعية ودق ناقوس الخطر قبل فوات الأوان.
[1] حاشية ابن عابدين 3/ 223"، وشرح فتح القدير، 3/ 326.
[2] رواه أبو داود وابن ماجه.
[3] رواه البخاري ومسلم.
[4] رواه الترمذي وحسنه الألباني.
[5] نظام الأسرة في الإسلام، محمد عقله، 3/ 73.
[6] التدابير الشرعية للحد من الطلاق، فتح الله تفاحة، ص 132.
[7] رواه الترمذي.
[8] رواه مسلم.
[9] رواه أحمد وابن حبان في صحيحه.