دانة فيصل الساري
لا أحدَ يستطيع أن يُنكر أن هذا البحث الذي يتكلم عن أهمية الأسرة والزواج، يناقش موضوعًا مهمًّا للغاية في ديننا الحنيف، لذا سعيت جاهدًا طالبًا العون من الله مسبقًا على إخراج هذا البحث بأحسن ما يكون. ولقد قمتُ بمناقشة ما يترتب من المفاسد على منع الزواج، وعدم تكوين أسرة، وعن أهميته وعن الحقوق والواجبات فيه، واستندت إلى الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة، ولجأت إلى العديد من المراجع في علم الفقه؛ لكي أكون قد استوفيتُ كلَّ الأساليب البحثية في كتابة هذا البحث وإخراجه بهذه الصورة التي أمامكم.
أحببتُ أن أعرض المشكلة ثم حلولها حتى يكون مشوقًا لكم، وتشعروا أنكم بحاجة لقراءة المزيد، فلنبدأ عن الزواج كيف خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وليَّ المرأة عن تزويجها، وحذَّر من الفساد المترتِّب على مَنْع الزواج، فقال: ((إذا جاءكم مَن تَرضون دينه وخُلقَه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض))، واليوم ما الذي يحصل؟
امتلأت البيوت بالبنات ونسيتْ تلك الفتاة معيار القبول وهو الرضا بخُلقه ودينه، ولم تعُد تأْبه بتكوين أسرة وتربية جيل يفخر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، تستشعر فيه أمومتها؛ ليكونوا لها عونًا عند مشيبها، وأجرًا بعد مماتها بصدقاتهم عنها واستغفارهم لها، ولم تعُد تأبه بسكن ومودة لزوج يعينها على حفظ بصرها وفرْجها، ولتأنَس به وتلجأ إليه بتقلُّباتها المزاجية وعواطفها العظيمة في ظل مشاكل الحياة وهمومها.
فقد غرَّر بعض الآباء البنات بأن الشهادة السلاح، وأن الزوج آخر الأولويات، وكأن الفتاة جامدة المشاعر لم يخلق الله بها رغبة وميلًا للجنس الآخر، كما خلق للرجل، لكن شغفهم في الكسب الدنيوي أنساهم متطلبات تلك الفتاة النفسية والجسدية، بحجَّة ماذا؟ طلب العلم جميعنا يعلَم أن سُبل التعلم اليوم أيسرُ من ذلك بكثير، يُمكنها التعلم وهي في قعْر بيتها، والزواج ليس عائقًا، لكن أرادوا لها الشهادة لزجِّها في سوق العمل الذي لا يناسب فِطرتها ومخالطة الرجال لكسب دنيوي غير مسؤولة عنه، بل وليُّها هو المسؤول، لكن الموازين انقلبت، والله المستعان، فما تنفعها شهادتها ووظيفتها إذا فقَدت الزوج والولد، الرجل الكفءُ إذا ردَّته الفتاة لا تجده غدًا، وكلما تقدًّمت سنًّا عزَف الشباب عنها، فالكثير اليوم من الموظفات "ليس ظنًّا بل علمًّا" يتَّصلن على العلماء والدعاة يطلبنَ أزواجًا، ومنهنَّ مَن ترضى برجل أقل بكثير مما تَمنَّت، قليلِ الْمُروءة عديم الهمَّة، تعلم أنه ما تقدَّم لها إلا طمعًا في مالها ووظيفتها، فترضى به؛ لأنها لم تجد مَن يرضى بها، لذلك على أولياء النساء تسهيل أمور الزواج، والتخفيف من تكاليفه، فمصلحة البنت في زوج يسترها ويعفُّها، وتُرزق منه ولدًا، تُقدَّم على أي مصلحة دنيوية أخرى من دراسة أو وظيفة، أو كون الزوج غنيًّا أو شريفًا يليق بمقامهم، أو إقامة حفل يذكره كلُّ من رآه، وليتباهوا به بين أقربائهم وأقرانهم، فالبنت يُطلَب لها الستر والعفة والراحة، وليس الجاه والسمعة، ومن أقوى الحلول لهذه الشرور فتح أبواب الزواج، وإزالة موانعه، ودعوة الشباب والفتيات إليه، وإلا حلَّ الحرام محلَّ الحلال، وتحوَّل إلى ثقافة وسلوك في الناس، فوقع الشباب والفتيات في الحرام، وأُصيبت الأُسَر بالإثم والعار، وتنزلت العقوبات بسبب فُشوِّ الفواحش في المجتمعات، فمن المهم بث تعظيم أمر الزواج لديهم، فإنه من تعظيم الله تعالى؛ لأنه من شريعته، وبيان خطورة العزوف عنه، أو تعسيره بشروط مثالية اكتسبتها الفتاة من المسلسلات والروايات والأفلام، فعاشت في عالم وردي، ورفضت كل متقدم لها؛ لأنها تريد ما تحلم به، حتى يتقدم بها السن، ويعزف عنها الشباب، فالزواج من نعم الله علينا، فقد قال عنه سبحانه: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ [الروم: 21].
الزواج سبيل إلى الغنى، والله قد وعَد الفقراء خيرًا، فقال تعالى: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 32].
وأما في السنة النبوية، فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الزوجة الصالحة من السعادة، ففي الحديث: ((أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمَسكَن الواسع، والجار الصالح، والمركَب الهنيء، وأربع من الشقاوة: الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيق، والمركب السوء))، فالزواج امتثال لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوَّج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وِجاء))، وفي الحديث عن أبي أيوب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أربع من سنن المرسلين: الحناء، والتعطُّر، والسواك، والنكاح).
وأما الصحابة رضوان الله عليهم، فكانوا يَحثون بعضهم على النكاح خشية الفتنة؛ عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: ((هل تَزوَّجت؟ قلتُ: لا، قال: تزوَّج، فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء)).
ويقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "لو لم يبقَ من أَجَلي إلا عشرة أيام، وأعلم أني أموت في آخرها يومًا، ولي طَوْل على النكاح، لتزوَّجت مخافة الفتنة".
وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: "أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، يُنجِز لكم ما وعدكم من الغنى".
ينتشر الحب والغرام بين الشباب والفتيات بأعمار صغيرة مع تجاوزات غير شرعية وخُلقية، وأغلب الآباء يعيشون كأنهم صمٌّ بكم عمي لا يعقلون شيئًا، والمجتمع يمتلأ بالشرور ولا أحد يهتم، أما لو كان زواجًا، فالأفواه كلها تتكلم بالظلم وقتل الطفولة، رغم أن الشرع لم يحدِّد السن المناسب للزواج، وهذا يعود إلى الفتاة وقدرتها وتقبُّلها، لذا فإن منع مشكلة الحب والغرام يتوقَّف على النكاح، إذ ليس للمتحابين مِثل النكاح؛ كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لم نَرَ للمتحابين مثل النكاح))، وليس ذلك دعوة للحب قبل الزواج، ولكن مُعالَجة لواقع قد يَحصُل، فإذا وقع الحب بالفعل، وتعلَّق كلٌّ من الشاب والشابة أحدهما بالآخر، وكان من نوع الحب الطاهر الشريف، ودلَّت القرائن على أنه لم يكن نزوة طارئة، هنا ينبغي للأهل أن ينظروا في الأمر بعين البصيرة والحكمة.
الأسرة هي اللبنة الأولى في تكوين المجتمع الذي يتكون من مجموعة أُسر ترتبط بعضها ببعض، وتقاس مدى قوته وتماسُكه بتمسُّكهم بشرائع الإسلام التي تحفَظ الحقوق والواجبات حتى بعد الممات، فالحمد لله إن لنا ربًّا لا يظلم أحدًا، وجعل البيوت تُبنى بالمودة والرحمة والعدل والمساواة لكل فردٍ من أفرادها.
لقد وضع الإسلام الحقوق والواجبات للأسرة المسلمة لحمايتها وحفظ حقوق كلِّ فرد فيها، ولتأمين السعادة الداخلية والسلامة من المشكلات التي تعوق رسالتهم في الحياة، وتقام العلاقات بينهم على ثلاث دعائم مهمة: المودة والرحمة والسكن، أما حقوقهم وواجباتهم، فهي تتضمن حقوق المرأة على الزوج، وحقوق الزوج على المرأة، وحقوق الأبناء على الآباء، حقوق الآباء على الأبناء.
حقوق المرأة على الزوج:
• المعاشرة بالمعروف: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].
• النفقة: عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى للمرء الإثم أن يضيع من يقوت"، أوجب الشرع على محارمها النفقة عليها، أمًّا كانت أو زوجة، أو بنتًا أو أختًا، حتى ولو كانت غنية ينفق عليها بقدر سَعته، ولا يكلف على نفسه، وهذا من أبرز مظاهر القوامة.
وعن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه رضي الله عنهما قال، قلت: "يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: يُطعمها إذا طَعِمَ، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يُقبح ولا يهجُر إلا في البيت".
• المحبة والرحمة والمودة: لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم"؛ رواه الإمام الترمذي.
• عدم الإضرار بها وحمايتها والذَّود عنها وقضاء حوائجها.
• تعليمها دينها وإعانتها على طاعة ربِّها.
• على الزوج ألا يهجر مضجع زوجته إلا لعذرٍ شرعي.
• الغيرة المعتدلة عليها.
• وإذا نشزت وكان نشوزها ظاهرًا، فله حقُّ تأديبها بما شرعه الله تعالى وَفق المراحل المعروفة: موعظة حسنة، هجر في المضجع، ضرب غير مبرح "بالمسواك".
• الوفاء لها بالقيام بواجب الميثاق الغليظ: محبتها وعدم خيانتها، فقد قال الله تعالى: ﴿ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ﴾ [المائدة: 5]، والمراد بالإحصان هنا العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما لا يرضي الله تعالى من فاحشة الزنا، ولا يخونون زوجاتهم باتخاذ أخدانٍ، والخدن الصديق يطلق على الذكر والأنثى.
حق الزوج:
• طاعة الزوجة لزوجها في المعروف، فالزوجة إذا أدت حق زوجها كان لها جزاءٌ من الله عظيم أن يخيِّرها من أي أبواب الجنة شاءت، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصَّنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئتِ.
• لا تخرج من البيت إلا بإذنه، وألا تُدخل أحدًا يكرهه إلى بيته؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذَن في بيته إلا بإذنه"؛ رواه الإمام البخاري.
• رعاية شؤون بيتها وتربية أبنائها، وهذا من أجل وأسمى إنجازاتها
• أن تحفظه في غيابه وحضوره وماله.
• صون عرضه بالمحافظة على شرفها وعفتها.
• المحافظة على شعوره: اختيار الألفاظ المحببة لديه، وعونه في مشاكل حياته ومشاركته أفراحه، وعليها أن تُحسن معاملة والدي زوجها وأن تكرمهم.
• الوفاء له ومبادلته الحب، وتقديره واحترامه.
والحقوق المتبادلة بينهم:
-جعل الإسلام على الأب والأم مسؤولية عظيمة في تربية أبنائهم، فعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته.
• استمتاع كل منهما بالآخر: أن يتزيَّن كل منهما للآخر؛ ليكون ذلك أدعى إلى الرغبة وأقوى لتوطيد أواصر المحبة.
• حفظ الأسرار الزوجية: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا).
• التوارث بين الزوجين.
• حق الإنجاب: وهو حق لكل واحد من الزوجين.
حقوق الأبناء:
يقول الله تعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 46].
الأم تختار الأب الصالح لأبنائها والأب يختار الأم الصالحة لهم، والاختيار يكون على أساس الدين والخلق.
إحسان تربيتهم وتعليمهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
• العدل بين الأبناء ذكرانًا وإناثًا؛ لقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلاَدِكُمْ).
حقوق الآباء:
أمرنا الله بطاعة الوالدين والإحسان إليهم، وقرن رضاهم بدخول الجنة وغضبهم بدخول النار في الآخرة والعقوبات المختلفة من الله على العاق في الدنيا - أعاذنا الله منها - والصبر على آذاهم لو وجد والدعاء لهم.
فقال رسولِ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ((رَغِم أنفُه، ثمَّ رغم أنفُه، ثمَّ رغِم أنفُه: مَن أدرك أبويه عند الكِبر أحدَهما أو كليهِما، ثمَّ لم يُدْخِلاه الجنَّة)).
وقرَن الله حقَّهما بِحقِّه - سبحانَه وتعالى - وشُكْرهما بشُكْرِه - جلَّ علاه -: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36]، وقال - جلَّ وعلا -: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14].
برُّ الوالدين زيادةٌ في الرزق، وبركة في العُمر، فعن رسولِ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَن سرَّه أن يُبْسَط عليْه رزقُه ويُنسأ في أثرِه، فلْيَصل رحِمه)).
وكُنْ لأمك وأبيك ذليلًا متواضعًا رحمةً بهما، واطلب من ربك أن يرحمهما برحمته الواسعة أحياءً وأمواتًا، كما صبرَا على تربيتك طفلًا ضعيف الحول والقوة؛ يقول الله جل جلاله: ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24].
وبعد تطبيق القواعد تُحل الأزمات والمشاكل، ويعم الخير والسلام، وتتماسك الأسرة ببعضها وتلتحم، وهذا ما يجعل العدو لأمتنا يتعجب من مدى ترابطنا وقوتنا.
وفي خاتمة ما ورد من بحث الزواج وأهمية الأسرة في الإسلام، نسأل المولى عز وجل أن ينفع به المسلمين كافة، وأن يجعلنا ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنَه.
فإنه ما كان من توفيقٍ، فإنه من فضل ورحمة الخالق جل وعلا، وما كان من تقصير فهو مني ومن الشيطان.