ناصر حسن الجاروف
الإشباع العاطفي والانحرافات الجنسية
2***علاقة الإشباع العاطفي مرتبط بشكل كبير بسلوك الإنسان تجاه الغير إلى أي حدّ يمكن أن يؤثر الإشباع العاطفي أو الحرمان العاطفي على الانحرافات الجنسية؟
يضيف الشيخ حسين المصطفى. بقوله الملاحظ أنّ في حياة أولادنا أكثر من «فراغ عاطفي» أي أنّ هناك هوّة عاطفية تنجم عادة من أجواء أسرية خانقة لا يجد فيها الشاب والفتاة ملاذه الآمن فيحاول أن يبحث عن المعوّضات التي تسدّ له هذا النقص، أو تردم له تلك الهوّة. [1] 
من هنا نلاحظ أنّ ميل بعض أبنائنا إلى العم أو الخال أو الجد والجدة، إنما يكون - أحياناً - بسبب الفراغ العاطفي. وكذلك تعلق بعض الفتيات برجال كبار في السنّ، ربما يكون - في أحد أسبابه - افتقادهم للحنان الأبوي وعثورهم عليه عند غير الأب. وأكدت بعض الدراسات أنّ الإناث في المجتمع قد يقعن تحت ضغوط أسرية من الوالدين ما يعيق استقرارهن الاجتماعي ويشعرن بالحرمان العاطفي.. وأنّه حين تجد الفتاة نفسها في هذا المناخ الأسري الرديء حيث تشعر بالحرمان العاطفي، قد تضطر إلى أن تبتكر وسائل غير مشروعة للبحث عن الحب والحنان كأن ترتكب أفعالاً محرّمة تحقق ذاتها وتعوّض الفشل العاطفي الذي واجهته في حياتها الأسرية [2] . وفي الدراسات والبحوث الجنائية اتضح أنّ أحد أهم عوامل الجنوح إلى الجريمة هو النقص الحاد في التغذية العاطفية للجاني، كما تبين من دراسات اجتماعية ونفسية أخرى أنّ رغبة بعض الطلبة من الشباب والفتيات بالدروس الخصوصية ليس عدم الاستيعاب في غرفة الدرس، وإنما لعوامل غير مباشرة من بينها الظمأ العاطفي الذي يعبّر عن نفسه بأشكال مختلفة.
وما تشدد المربي الإسلامي على احتضان ورعاية وكفالة اليتيم؛ لكي لا يتحسس بوطأة الفقد عليه من خلال الاقتصاد أو التحفظ العاطفي، فكلّها توحي أنّ الفراغ العاطفي أو النفسي الذي يخلّفه اليتم كبير، ولا بد من السعي لإكماله وإتمامه بنحو أو بآخر حتى يتجاوز اليتيم عقبة اليتم ويخرج إلى الحياة معافى من عقدة النقص العاطفي التي لو استشرت لدفعت إلى الجنحة والجريمة والإحساس بالجفاء والجفاف الاجتماعي.
وللإشباع العاطفي صوره المختلفة تبعاً لظروف تطور الطفل في حضن والديه:
منها: أنّ الطفل يلوذ بصدر أمه لا ليرتوي من لبنها فحسب، وإنما بحثاً عن «الأمان» الذي ينشده في أحضانها.
ومنها: قبلات الوالدين لأولادهما هو عبارة عن شحن عاطفي لا يستغنون عنه كما لا يستغنون عن غذائهم وشرابهم، وكم استغرب النبي  من الأقرع بن حابس؛ الذي رأى النبي  يقبل الحسن والحسين  فقال له: لي عشرة أولاد لم أقبّل أحداً منهم، فقال له النبي  : «انك رجل نزعت الرحمة من قلبه»!
ومنها: كلمات اللطف والحنان من الأبوين، وكذلك العاطفة الرقيقة التي يعبّر عنها بنبرة الصوت، والدفء الغامر،... لها من القوة المنشطة ما لا يجده الشباب في أقوى المنشطات المتوفرة في الصيدليات على الإطلاق.
ومنها: احتضان الخطأ الذي يقع فيه أبناؤنا برفق، وتقدير مشاعرهم، والانتباه إلى ما يجرحهم من كلمات أو أفعال، وإشعارهم أنّ البيت هو الملجأ، وأنّ صدر الأم لا يعوض، وأنّ كتف الأب لا يستبدل. هي أمصال وقاية من الانهيار النفسي الذي يتعرّض له شبابنا من «الفراغ العاطفي».
ومن هنا لا بد من الالتفات إلى بديهة ضائعة بيننا وهي: «ما لا أجده في بيتي وبين أسرتي، سأبحث عنه خارجها»، وهذه بداية التصدع الأسري من الداخل حتى وان بقيت الروابط الشكلية بين أفراد الأسرة قائمة.
إنّ الدراسات تصرح إلى أنّ كثيراً من المثليين كانوا يتميزون بالبراءة والعذرية الشديدة في تعاملهم مع الفتيات في الصغر، بينما يعيشون حالة من الفجور مع الأولاد؛ بسبب شعورهم بالهزيمة وقبولهم الفشل والاغتراب النفسي، والتواصل الاجتماعي والنفسي المشوه مع الآخرين الناتج عن إحساسه بالنبذ والرفض، وإهمال الوالدين له، وعدم الإشباع العاطفي. إذن هو تشوه في التكوين النفسي والجنسي للطفل منذ مراحل نموه المبكرة نتج عنه استعداد نفسي لهذا الانحراف ساعد عليه ضعف في تكوين «الأنا» في مواجهة الإحباطات المختلفة وعجز النسق القيمي الداخلي عن مواصلة عمله نتيجة غياب النموذج الأخلاقي الأول. [3]
وثبت أنّ أحد أسباب الانحراف الجنسي هو التربية الخاطئة قبل البلوغ، أو الجهل بالمسائل الجنسية والتساهل في ترك الصبيان والصبايا يمارسان الأعمال المنافية للعفّة والمخلّة بالطهارة. فمن الضروري أن يتلقّى الشاب والفتاة المراهقان ثقافة التوازن، فلا تكون الغريزة طاغية على أبعاد شخصيتهم الأخرى، فللغريزة الجنسية كما لأيّة غريزة أخرى حدّ معلوم، ولا يصحّ أن يشتغل التفكير بها والتنفيس عنها الوقت كلّه والاهتمام كلّه
وإذا ما قيمنا ظاهرة «الشذوذ» و«الانحراف» نراهما ينطلقان من تربية معينة «كأن يُربى الولد بطريقة يتقمص فيها شخصية الأنثى أو أن تتربى الأنثى بطريقة تتقمص فيها شخصية الذكر» أو من حالات طارئة [4]  وربما يخضع لبعض الأوضاع النفسية التي تجعله يتعقّد من المرأة إذا كان ذكراً أو من الرجل إذا كانت أنثى.
يجيب الأستاذ أسعد بقوله علينا أولاً أن نفرق بين الحاجة لعاطفة الحب والحاجة للإشباع الجنسي. فقد يسعى فرد في علاقاته مع آخرين بطريقة شاذة إلى الإشباع الجنسي وليس لحاجته للحب. وقد يخطئ أحدهم حينما يتصرف بطريقة شاذة في علاقاته مع الآخر حينما يعتبر أن علاقته هذه هي علاقة حب. نعم، قد ينحرف موضوع الحب لدى بعض الحالات فيتحول الحب من مساره السوي إلى الأسوأ. مثلاً، قد يحب الذكر ذكراً آخر، أو تحب الأنثى أنثى أخرى مع وجود رغبة جنسية. إن الرغبة الجنسية يرتبط إشباعها بالموضوع الجنسي «ذكر - أنثى - حيوان».
أما الحرمان من الحب فيجعل صاحبه قابلاً للوقوع في شباك الخطيئة. فمثلاً، الصبية التي لم تتلقى حباً في أسرتها قد تكون قابلة للوقوع في حبال الكلام الغرامي إما عبر الهاتف أو الماسنجر أو عن أي طريقة ووسيلة اتصال إلكترونية أو غير إلكترونية. لأن الحرمان من الحب يدفع المتضرر إلى سد الفراغ العاطفي بطريقة ما وإن كانت أحياناً بممارسة الجنس. على اعتبار أن البعض يعتقد - وهذا خطأ أحياناً - أن ممارسة الجنس تعني تطبيق الحب بمعناه الرومانسي والشاعري والإنساني.
أما الأستاذ عبد القادر فهو يرى بأن كل الدراسات السيكولوجية تؤكد هذه العلاقة، فالإشباع حاجة سيكولوجية وإذا كانت خارجة عن المعايير البيولوجية والثقافية يمكن أن تشكل نموذجا للانحراف الجنسي. أما الحرمان العاطفي فهو مظهر من مظاهر نقص في النمو لدى الطفل، فينعكس في نوع من التوقف في النمو على المستوى العاطفي ولذلك يبحث المحروم عن موضوع للإشباع من اجل التخلص من الحرمان ألطفلي.
ويقول الشيخ مجيد العاطفة في حد ذاتها قد لا تؤدي إلى علاقة جنسية إذا ما كانت في إطار مشروع، لكن التخوف من تأثيرات الحرمان العاطفي أو الانجذاب العاطفي حين تكون العلاقة في إطار سري. لان الانجذاب العاطفي من الجنسين يتحول في حالة الخفية إلى انجذاب جنسي يصعب على الطرفين السيطرة عليه.
يؤكد الأستاذ أحمد ابن عابد بقوله بالفعل يلعب الحرمان العاطفي للطفل دورا أساسيا في انحرافاته المستقبلية. فإشباع حاجاته الأساسية النفسية منها والانفعالية «العاطفية» كالحب والحنان والأمن والاهتمام يعطي للطفل الحصانة من الانحرافات.
وتعلق الأستاذة افتخار بقولها إن الإشباع العاطفي بمثابة المصل الدوائي الذي يحتاجه المريض لكي يتعافى من آلامه وتعبه، وكما يعد مضادا يضمن لنا سلامة العواطف، ولكن من المؤسف والمؤلم إن الحرمان العاطفي يؤدي إلى انقلاب الصورة وتوظيف المشاعر في غير مواضعها الطبيعية فتتهيأ الأرضية الغير صالحة المحاطة بسياج التغرير والخداع فينجذب الفرد نحو الانحراف الجنسي فيسجل على نفسه بصمة العار التي لا تفارقه حتى يصبح أسيرا لشهواته وغرائزه.
الأستاذ الشيوخ يرى بأن العديد من الدراسات الاجتماعية التي حاولت أن تسلط الضوء على أسباب الانحراف الجنسي لدى الجنسين أو احدهما توصلت إلى أن الحرمان العاطفي هو احد الأسباب الرئيسية في العديد من الحالات إن لم يكن هو في أولوية الأسباب. ولكن لابد من التنويه هنا إلى مسألتين
الأولى: أن الحرمان أو الفتور العاطفي ليس بالضرورة هو العامل الأساس والرئيس الذي يقف خلف كل حالات الانحراف الجنسي، لذا من الأهمية بمكان دراسة كل حالة على حدا للوقوف على أسبابها ومسبباتها اذ ليس بالضرورة أن يكون هناك تشابه وتماثل في الحالات.
والمسالة الثانية: حين الحديث عن الحرمان العاطفي ينبغي النظر إلى كل مصادر الإشباع أو الحرمان كالزوج والزوجة والأم والأب والأسرة ككل إذ لا ينبغي اقتصار مصدر الإشباع أو الحرمان على طرف واحد كالزوج مثلا ومن ثم إغفال بقية المصادر، فربما الحرمان العاطفي الذي مصدره الأسرة يكون سببا للانحراف في حالات معينة في حين ان الحرمان العاطفي الذي مصدره الزوجة يكون هو سبب انحراف العديد من الأزواج في حالات أخرى والعكس صحيح.
أما الأخت أم أحمد فتقول بأن الحرمان والإشباع العاطفي ثنائي العلاقة بين السلب والإيجاب من حيث انعكاسه على السلوك الإنساني ونمط تفكيره وحياته وخاصة الاجتماعية منها فالدلال الزائد والإشباع العاطفي من حيث العبارات العاطفية أو الملامسة الجسدية وتوفير كل ما يريدون وليس ما يحتاجون فعند انخفاض منسوب تلك الحالة داخل الأسرة أو تبدل الأحوال تحول دون الحصول على ما يريدون فأن المتلقي يبحث عنها خارج نطاق الأسرة والعكس صحيح فأن الحرمان العاطفي أو التصحر العاطفي يدفع البعض إلى السعي لطلب الإشباع أو الارتواء من خارج نطاق الأسرة وخاصة إذا قلنا أن من المسلمات أن العاطفة حاجة يجب إشباعها لذلك فأن الإنسان الذي يفقد تلك الحاجة يفقد توازنه ويسعى لإشباعها لإعادة توازنه وأن كان بطريقة غير صحيحة
يعد الحرمان العاطفي من وجهة نظر الشيخ عبد الله اليوسف أحد الأسباب الرئيسة في الانحرافات الجنسية، وقد أشارت الكثير من الدراسات إلى هذه الحقيقة، فشعور الأبناء أو الفتيات بالنقص العاطفي يدفع بهم للبحث عنه من خلال إقامة علاقات غير شرعية تستطيع توفيره لهم.
وللأسف الشديد فإن بعض الآباء لا يدركون أهمية الإشباع العاطفي لأولادهم، وأنه حاجة ضرورية كحاجة الإنسان للأكل والشرب، فالإنسان كما يحتاج لإشباع حاجاته المادية، يحتاج كذلك لإشباع حاجاته المعنوية، ومنها الإشباع العاطفي.
إن معاملة الأولاد وخصوصاً الفتيات بالقسوة والعنف بمختلف أشكاله لا يحميهم من الوقوع في الانحرافات الجنسية كما قد يتصور بعض الآباء، بل العكس هو الصحيح، فمثل تلك المعاملة الخالية من أي رحمة وحنان يؤدي إلى وقوعهم في انحرافات جنسية خطيرة، وأن أفضل حماية لهم من الوقوع في أية انحرافات جنسية أو غيرها هو معاملتهم بلطف وحنان وعطف، وإشباع حاجاتهم المعنوية والعاطفية.
وتقول الدكتورة سمية خير الأمور الوسط فالحرمان أو الإفراط يؤدي إلى نتائج سلبية، والبحث والخروج من المنطقة للبحث عن الذات مما يؤدي إلى إيذاء النفس من خلال علاقات غير سوية أو علاقات محرمة
أما الأستاذ الحاج علي أمان فيرى بأن الإشباع أو الحرمان العاطفي هما مسألتان تقف كلٌ منهما على ضفة النهر، واعتقد أن النفس البشرية - بحسب بعض الدراسات النفسية والاجتماعية الحديثة - غير ثابتة على موقف معين وبمؤشر ثابت، بل يصعد ويهبط وفقاً للعلاقة وحساسيتها والظروف والمكانة الاجتماعية وأماكن العمل والمصالح المتبادلة والعمر..
وقد روي عن الرسول الأكرم  أن " أعدى أعداء الإنسان نفسه التي بين جنبيه" واعتقد أن ليس هناك مبرر يشرع للإنسان الذي أخفق عاطفياً وسلوكياً أن يشرعن لنفسه إقامة مثل هذه العلاقات والانحرافات الجنسية تحت مبرر الحرمان أو النقص العاطفي الناتج عن ظروف قهرية أو اختيارية كظروفه المتقلبة مع شريك حياته أو خلافه مع الأولاد أو عدم استقرار علاقته مع أبويه.. الخ، فيكون التعويض بخلق البديل بطرق غير واضحة، ولأن مجتمعنا تحيطه الخصوصية والانغلاق، وعدم وجود ثقافة واضحة وحاكمة قادرة على محاكاة الواقع والاعتراف بما فيه من مشاكل وعدم النظرة المناقبية إليه. يلجأ كل من له رغبة في التعويض أو الترميم لحالته العاطفية بممارساته السرية، وتفويت فرصة التعاطي السليم ضمن الحقوق والواجبات، والاستفادة من أشعة الشمس نهاراً لا ليلاً كما يقول الحكماء، ولكن في وقت محدد حتى لا يتضرر الانسان منهما.
والسلوك السليم هو انعكاس طبيعي للحالة النفسية، وإذا صح البناء النفسي الذي يبدأ بطبيعة علاقة الأبوين والأخوة والأخوات والأرحام والجيران، إضافة إلى برامج التوجيه المجتمعي القادرة على خلق صوابية العاطفة الموجهة من خلال العقل المؤدي إلى سلوك سليم، وليس لانحرافات أخلاقية وإن شئت فقل جنسية.


JoomShaper