العجب العجاب أن تغدق بعض الأسر على أبنائها بكل المستلزمات المادية والمعيشية، وتحرمهم من اهتمام الأب وعطف الأم، بسبب انشغالاتهم الدنيوية التي لا تنتهي، لم لا يتيقن هؤلاء أن الأسرة لها الدور الأساسي في عملية صقل شخصية الأبناء وإشباعهم ماديا ومعنويا، أم أن حنان الأم، وشفقة الأب باتا جرعات يستطيع الأبناء شراءها من الصيدلية التي يحددها طبيب الأسرة! «الحواس الخمس» يسلط الضوء على مجموعة من الشباب والشابات يعانون من ألم الاغتراب الوجداني والعاطفي بينهم وبين آبائهم والذي سكب في إناء العزلة والغربة ومشاعر الفقد والحرمان، فالنقطة الساخنة هنا تضعنا أمام معضلة نفسية واجتماعية لها أسبابها ومفاهيمها.

بين الدراسة الجامعية والصديقات
تقول فاطمة محمد، طالبة جامعية: لا أبالغ إن قلت إن المنزل بات بالنسبة لي فندقا أنام وأستريح فيه، فأغلب نهاري أمضيه في الجامـعة، وعلى الرغم أن محاضراتي تنتهي مبكرا في بعض الأيام، إلا أني أفضل البقاء في الجامـعة، حيث أعتبر ذلك فرصة لتمضية الوقت مع الصديقات، وخصوصا اللاتي يقطن في السكن الجامعي فنتبادل الأحاديث ونتناول الوجبات ونعد المقالب لبعضنا بعضا. أما قبيل حلول المساء فأتجه غالبا لمكتبة الجامعة لإعداد البحوث وكتابة الواجبات معتمدة على المصادر والمراجع التي توفرها لنا المكتبة. مضيفة: وبمجرد عودتي للمنزل، أتأهب لليوم التالي، من خلال تجهيز ملابسي، وكتبي، وبعدها أنام. تعودت عدم سؤال والدي عني، لأنه بمجرد دخولي الجامعة، تغير نظام حياتي، فكنت أتأخر لحضور المحاضرات المسائية، وبهذا عذرني أبي ولكني للأسف استغليت عذره لي وثقته بي، فأنا أتأخر في الجامعة لأكون مع الصديقات لا غير. ففي المنزل أشعر بالممل والضيق، وعدم تحمل المشاحنات التي تقع أحيانا بين إخوتي، والأدهى عدم سؤال أبي أو أمي عني، لذا صارت لي حياتي الخاصة، التي أكرسها فقط للدراسة والتواصل مع الصديقات.
للغربة أسباب
سكينة أحمد، موظفة، تقول: ظهرت غربة الأبناء في المنزل بسبب تطور الوسائل التكنولوجية والتقنية، والذي أدى إلى ظهور نمط عجيب في تصرفاتهم وسلوكياتهم، خاصة في فئة المراهقين منهم، فنراهم منهمكين بمتابعة ما تعرضه وسائل الإعلام أو متابعة مواقع الإنترنت، فأصبح لكل منهم عالمه الخاص لا يلتفت إلى أي شيء سواه، مضيفة: وبالتالي نجد الآباء في البيت لا يوجهون أبناءهم نحو السلوكيات الصحيحة، فنجد أن الأبناء قد أهملوا دراستهم، واهتموا بتوافه الأمور، وحتى إن وجههم الآباء فقلما يلتفت إلى نصحهم الأبناء، فيجب أن يحرص الآباء على توجيه أبنائهم باستمرار بالنصح والإرشاد.
غربة الصغار
أما إبراهيم المازم، الطالب في المرحلة الجامعية: نعم.. يعاني الشباب الغربة في منازلهم، ويجب أن نصرح أيضا أنه حتى الأبناء الصغار يعانون الغربة، فهناك العديد من الأسر المسلمة تحتوي بداخلها مجموعة من الغرباء، الغرباء في العقيدة، والأخلاق، والمبادئ. وغرباء في اللغة والمنطق والتفكير. وبذلك ينشأ أطفالنا غرباء عن لغتهم اللغة العربية الأصيلة وعن دينهم الحنيف، وهم يعيشون بين آبائهم وأمهاتهم. ويزيد انشغال غربة الأبناء المساكين انشغال الآباء والأمهات، والاعتماد على الأجانب في احتضان الصغار.
وجهة نظر
زبيدة الحجي، موظفة تبدي رأيها في الموضوع قائلة: إن التفرقة بين الإخوة الذكور والإناث، والتي تجعل الذكور يتصورون أنهم أعلى وأفضل من الإناث، وأنهم لهم الحق في التحكم فيهن، ما يوغر صدور الإناث، وتزداد مشاعر الغربة لدى الطرفين. ويزيد هذا الأمر تراجع دور الدين في التربية، فقديما كانت الأم تربي أبناءها تربية دينية، أما الآن فالأمر يختلف تماما، وذلك لأن الأبناء أصبحوا سلعة للمنافسة والتباهي بين الأسر، فالأم مثلا حينما تتكلم عن ابنها تقول: إنه التحق بكلية الطيران، وذلك من باب التفاخر لا غير، وهذا بالطبع بعيد كل البعد عن التنشئة السليمة القائمة على الدين.
وتردف: بما أن شبح البطالة يهدد الشباب، فهذه البطالة تخلق نوعاً من الحساسية في التعامل بين الآباء والأبناء، فالشاب عندما لا يجد فرصة عمل مناسبة يشعر أن والديه يتعاملان معه على أنه ضيف ثقيل، فينعزل ويكتئب ويغترب.
المنزل الفندق
ويوضح حامد المنصوري، طالب جامعي، أن الشباب الآن لا يشعرون بالانتماء إلى أسرهم، بسبب فقد الأسرة العربية لمعاني الحب والتفاهم والتضامن. فأصبح المنزل لبعض الشباب بمثابة المطعم والفندق، وهذا هو الاغتراب الذي يرجع في الأساس إلى أسباب عديدة من أبرزها: ارتفاع شأن الفردية على الجماعة، حيث أصبح الجميع الآن يعمل من أجل مصلحته الشخصية، ولا يهمه الآخر، وهذا بالطبع يؤدي إلى سيادة الأنانية، وحب الذات. ويضيف: ولا ننسى دور وسائل الإعلام، وخصوصا الإعلام المرئي الذي أصبح المصدر الوحيد للمعرفة لدى الشباب، والذي يقدم لهم واقعا مختلفا عن واقعهم ما يؤدي إلى انفصالهم عن واقعهم الحقيقي، وهذا حتما يؤدي إلى شعورهم بالاغتراب. كما أن الأسرة لم تعد تنشئ أبناءها التنشئة السليمة، بسبب انشغال كل من الوالدين بأعمالهما. فتكون العلاقة بين الوالدين وأبنائهم فاترة وجامدة.

 

JoomShaper