ساقني القدر إلى المحكمة الشرعيّة لزيارة قاضٍ صديق واستشارته بأمر خاص.. دخلت مكتبه مخترقةً جمعٌ غفير من الناس في غرفة الإنتظار وسيلٌ من المحامين والمحاميات في لباسهم الأسود وكم كان يليق هذا اللون على الوضع المأساوي الذي شهدت في تلك الغرفة!
سلّمت على القاضي وطلب مني الجلوس على أريكة سوداء أيضاً ريثما ينتهي من الجلسات المُجدولة عنده فجلست مع رغبة جامحة لمعرفة ماذا يحصل في المحاكم.. وكان أول اندهاش لي أنّ الجلسات لا تكون في قاعةٍ كبيرة كما نرى  في الأفلام وإنما في مكتب القاضي ولا يكون فيها إلا المحامي وطرفَي النزاع للحفاظ على الخصوصيّة وهذا أمر جيّد ولا شك..


ساعةٌ كاملة قضيتها وأنا أنظر بعين الدهشة لما هو حاصل في هذا المكتب، ولم أستطع بعدها أن أكبت الأنين الذي استصرخني فانفجرتُ سائلة القاضي حين تبدّد الجمع: “كلها حالات طلاق؟!” ليردّ عليّ بغصّة مماثلة: “للأسف! تغيّرت المفاهيم.. وأغلب الأسباب هي ماديّة وأخلاقيّة وعدم وعي من الطرفين!”.. استَشَرتُ القاضي بما أتيتُ لأجله ثم قفلتُ عائدة إلى البيت.. ولم يغب عن بالي ما رأيتُ هناك لأيامٍ متتالية..

ساعة واحدة شيّبتني.. كان هناك أكثر من خمس حالات طلاق بالإضافة إلى حالتَي خلع ومناقشات في تحضير لقضايا طلاق قادمة وتحديد مواعيد جلسات والتأكد من وجود كل الأوراق اللازمة لتلك الجلسات الخاصة بالطلاق أيضاً..

كنتث قد قرأتُ سابقاً أن نسب الطلاق تعدّت الخمسين بالمئة في أغلب الدول العربيّة وأقول العربيّة لأنها تدين بالدين الإسلامي والفئة العظمى من شعبها يعرف التشريع الربّاني فأين الإلتزام به خاصة في قضايا الأُسرة والأخلاق والآداب.. والدين المعاملة!!

وبعد ما رأيت في ذلك اليوم في المحكمة تأكدتُ أن نسب الطلاق في لبنان أكثر بكثير وقد تتعدى السبعين بالمئة إن لم يكن أكثر..

لفتتني حالة خلع كانت المحامية هي التي تردِّد الكلمات التي يمليها عليها القاضي لأن موكلتها لم تستطع مواجهة الموقف.. وبعد الانتهاء من الجلسة خرج الرجل وعلى وجهه ابتسامة عريضة كأنه أحرز انتصاراً في إعفائها إياه من حقوقها مقابل حريتها!

وفي جلسةٍ أُخرى توافَق الطرفان على الطلاق على أن تبريه من حقوقها مقابل حضانتها للأطفال.. وتوقيع الزوج على ورقة تفيد أنه متنازلٌ عن الحضانة.. ليصرخ القاضي هنا أن هذه الورقة غير معتبرة وحين بلوغهم السنّ القانوني (سبع سنوات للذكر وتسع سنوات للفتاة) فإنّ الرجل يحق له الحضانة ويستطيع أن يأخذهم متى شاء وبذلك تكون المرأة قد تنازلت عن حقوقها مقابل لا شيء!

وجلسةٌ ثالثة لشاب وفتاة لا يتعدّيان الثلاثين.. هذه هي الطلقة الثالثة! طلاق بائن لا رجوع بعده!! يسألهم القاضي: هل أنتم واعون لِما تفعلون؟ إنه طلاق بائن وبينكما طفل! يجيبان بكل بساطة أن الموضوع منتهي وقد طلقها الطلقة الثالثة منذ أسبوع والآن يثبّتان الطلاق.. وابنهما عُمَر! سيبقى بين بين.. وأيّ جيلٍ سيأتي من رحم الطلاقات؟!!

ورجلٌ تبدو على وجهه أمارات الحزن والحسرة.. محاميه يناقش القاضي.. موكلي مستعد لكل ما تطلبه طليقته وولدَيه.. ستبقى هي في البيت وهو يدفع الإيجار وتم تحديد النفقة الشهريّة وأبدى استعداده الكامل لتحمل مصاريف الطبابة والدراسة وكل شيء.. وخرج تفيض الدموع من عينيه جارّاً أذيال الخيبة وراءه!

أيّ بلاءٍ هذا الذي عمّ وطمّ مجتمعاتنا الإسلاميّة؟! وأي تطوّر وازدهار وطمأنينة نريد لتلك المجتمعات وبيوتنا منخورة وحصوننا مهدّدة من الداخل!!

إنّ هذا الواقع المُبكي لأُسَرِنا يضعنا جميعاً - مهما اختلفَت وظائفنا -  في قلب المسؤوليّة لمحاولة تحسين الوضع العائلي في مجتمعاتنا والعمل على تخفيف نسب الطلاق لأنه سهمٌ لا يصيب إلا كبد الأبناء كما تم توصيفه.. وأيّ إنتاجٍ نرجو من امرأةٍ عضّها ناب الطلاق.. وأيّ خيرٍ نرتجي من جيل عاش التفكك الأسريّ.. وأيّ رقيٍّ نبغي لأُمّةٍ يقتات الطلاق لُبناتها ويرميها على قارعة اليأس؟!

ومن هنا يتّضِح حجم المسؤوليّة المُلقاة على عاتقنا جميعاً مهما كان موقعنا في المجتمع ودورنا فيه.. وطبعاً المسؤوليّة مشتركة بيننا ابتداءاً من الدولة ووزاراتها كالإعلام والتربية مروراً بالمؤسسات والجمعيّات الأهليّة والمجتمع المدني خاصة تلك التي تُعنى بالأُسرة وتقديم الإستشارات الأُسريّة.. وانتهاءاً بالزوجين في الأُسرة وكيفيّة تربيتهما للأبناء وتوعيتهم منذ الصِغر.. ولعلّ الدور الأخطر هنا هو الذي يجب أن يلعبه رجال الدين وأئمّة المساجد ودور الفتوى إذ عليهم مسؤوليّة تصحيح المفاهيم الدينيّة ونشر القِيَم والسلوكيات الشرعيّة وتبيان أهميّة الإلتزام بشرع الله جل وعلا.. وكذلك تعرية المحاولات الخسيسة للنيل من الشريعة وأحكامها عن طريق الإعلام والغزو الفكري والثقافي وغسل الأدمغة العربيّة للتفلّت من الدِّين والشريعة.. وتوجيه الناس إلى المعاني الشرعيّة الحقيقيّة للقوامة والتعدّد والطلاق وغيرها..

ويمكن سرد هذه الخطوات التي إن فُعِّلَت فسنكون قد قطعنا مرحلة كبيرة في الحفاظ على الأسرة من التفكك والحدّ من نسب الطلاق العالية.. وكخطوة أولى وأساسيّة يجب إجراء دراسة شاملة عن نسب الطلاق والبحث عن أهم الأسباب التي تؤدّي إليه.. ثم اعتماد آلية محدّدة ومدروسة لعلاج هذه الظاهرة.. ومن ضمن الخطوات العلاجية التي يمكن اعتمادها نذكر الآتي:

-          نشر مفهوم الزواج وغايته ومقوِّمات نجاحه

-          إنشاء مراكز للإستشارات الأسريّة في كل منطقة

-          عقد دورات تأهيل للمقبلين على الزواج وللمتزوجين حول كيفيّة إسعاد الشريك وضمان استقرار الأسرة  على أن تضمّ هذه الدورات مواضيع حيويّة مثل: كيفيّة اختيار الشريك، تنمية الحب بين الزوجين، أصول العلاقة الحميميّة، أولويات الحياة الزوجيّة، المصارحة، التفاهم، فهم النفسيات، ميزانية العائلة، كيفيّة حل المشاكل، أهميّة الإشباع العاطفي بين الزوجين، الحقوق والواجبات لكلا الزوجين، إلخ.

-          عقد ندوات ومحاضرات وحلقات نقاش وورش عمل حول متطلبات تأسيس علاقة زوجيّة ناجحة

-          نشر  سيرة الحبيب عليه الصلاة والسلام كزوج للإقتداء به

-          اعتماد وزارة التريبة مشروع تدريس مادة تُعنى بالحياة الأُسريّة وماهية الحب والزواج على أن تُثبَّت في مناهج الصفوف الثانويّة والجامعات

-          تكثيف البرامج الأُسريّة في الفضائيات وتقديم الإستشارات لمعالجة الخلافات بين الزوجين وبيان خطر التفكك الأسَري

-          المساندة النفسيّة للمطلقين والمطلقات لإعادة اندماجهم في المجتمع والاستفادة من حالاتهم بعد دراستها لتجنب الأخطاء التي أدّت لإنهاء الزواج عندهم وتعميم هذه الأسباب على المهتمين

-          نشر ثقافة الفروق بين الرجل والمرأة والتخفيف من التوقعات غير الواقعيّة من الزواج

-          تسخير جهود دار الفتوى والدعاة لتوعية المسلمين والحرص على توزيع المطويات والتكثيف من المحاضرات والندوات التوعويّة

-          الحثّ على: دعم الزواج المتكافئ، عدم التزويج بالإكراه، نشر الفضائل الأخلاقيّة، محاولة ربط الطرفين بالله جل وعلا، ..

-          التوعية بمخاطر الطلاق على الزوجين والأبناء والأُسرة والمجتمع على حدٍّ سواء.. والتحذير من مغبّة اللجوء إلى الطلاق بدون أسباب جوهريّة..

-          نشر ثقافة الحوار بين الزوجين والتأكيد على أنّ المادّة هي وسيلة في الحياة وليست غاية بحدّ ذاتها وبث روح القناعة والرضا بالرزق..

-          التركيز على الدعوة أنّ الشكل ليس محوراً أساسياً للسعادة الزوجيّة وضرورة غض البصر عن ما حرّمه الله جلّ وعلا وعدم المقارنة بين الزوجة وما يراه الزوج في الفضائيات أو على الطرقات!..

-          البدء في تربية النشء منذ الصِغر على مفاهيم راقية مفيدة في الحياة كالحوار وإبداء المشاعر وتحمل المسؤوليّة وغيرها

-          أسلمة العادات والتقاليد! نعم.. أسلمتها ولو كان التعبير غريباً.. ثم قبول الحلول الشرعيّة ولو كانت مخالِفة للأهواء والنفوس.. فوالله لا يصلح أمر هذه الأمّة إلا بما صلح به أوّلها!

حقيقةً هناك أمور كثيرة يجب التركيز عليها ولكن أهمها كما أسلفت هي الدورات التوعويّة للمقبلين على الزواج حول الحياة الزوجيّة وكيفيّة إسعاد الشريك خاصة أن أكثر معدّلات الطلاق تكون في السنة الأولى للزواج لعدم فهم وإدراك الزوجين بمقوِّمات النجاح في الحياة الزوجيّة.. وهذه الدورات اعتمدتها ماليزيا كخطوة أولى لكل خاطبين ولا يتم عقد القران بدون أن يبرز الطرفان للقاضي – مع الأوراق المطلوبة الأُخرى – شهادة حضور هذه الدورات الإجباريّة ما جعل نسب الطلاق عندهم تنخفض إلى معدل قليل جداً قد لا يتعدّى العشرة بالمئة!

وهذه الدورات هي الخطوة الأولى على الطريق الصحيح وعلى الدول الأُخرى أن تحذو حذو ماليزيا للتخفيف من نسب الطلاق ومن كوارث نتائجه على الأُسرة والمجتمع والأُمّة جمعاء.. فحين تستقر العائلة يمكننا يومها أن نحلم بإعادة مجدنا التليد!

 

 

سحر المصري

المصريون

JoomShaper