التداخل بين الحياة الأسرية والمهنية طريق التفكك العائلي
* جورج فهيم/
صدق من قال إنّ الأشخاص ظل لوظائفهم، لأنّها لا تحدد فقط من يكونون، ومن هم الأصدقاء والزملاء، وإنما تتحكم أيضاً في طريقة تفكيرهم وتقاليدهم، ومنظومة الخطأ والصواب في علاقاتهم، ومثلما يمكن أن تكون الوظيفة سلماً للصعود إلى قمة النجاح، يمكن أن تكون أيضاً هوة سحيقة للسقوط في براثن الفشل، عندما تتعارض متطلبات الحياة المهنية مع متطلبات الحياة الأسرية، وعندما تتقاطع الإلتزامات الوظيفية مع الوجبات العائلية.
الآن أكثر من أي وقت مضى تتعالى صرخات مئات الألوف من الزوجات والأزواج من أن وظائفهم على وشك أن تخرب بيوتهم وتفرق شمل أسرهم، بسبب تعارض متطلبات الحياة الوظيفية مع متطلبات الحياة الأسرية، وعجزهم المتزايد عن التوفيق وتحقيق التوازن بين عالمين لا يلتقيان، هما عالم الوظيفة وعالم الأسرة، يفصلهما شلال متدفق من التحديات المعيشية التي تفرضها المجتمعات العصرية التي لا تنام 24 ساعة، سبعة أيام في الأسبوع.
تأثير مهنة الزوج والزوجة في الحياة الأسرية ونمط العلاقات السائد فيها والمشكلات والتحديات التي تواجهها كان موضوعاً لمئات الدراسات والأبحاث العلمية في عدد من أعرق الجامعات العالمية. ووفقاً لدراسة أجرتها جامعة "أوهايو" الأمريكية، التي اعتمدت على تحليل بيانات 3000 زوج وزوجة خلال الفترة بين عامي 1987 و2002، فإنّ الوضع الوظيفي لكل من الزوج والزوجة يمكن أن يؤثر في كل منهما بالتفكير في الطلاق، وإن اختلفت طريقة التأثير من الرجل إلى المرأة.
وتشير الدراسة، التي نشرت في دورية "أمريكان جورنال أوف سوسيولوجي" (American Journal of Sociology)، إلى أنّ الضغوط الإجتماعية التي تحول دون خروج النساء إلى العمل تراجعت، في حين أنّ الضغوط على الرجال لكسب لقمة العيش مازالت كما هي.
تقول البروفيسورة ليان ساير، المشرفة على الدراسة، إنّ الوضع الوظيفي للزوجة ليس له تأثير في قرار زوجها بالتفكير في طلاقها إذا فقدت وظيفتها.
وتشير ليان إلى أن نتائج الدراسة أظهرت أنّ المرأة العاملة أكثر إحتمالاً مقارنة بالمرأة غير العاملة، لأن تقدم على طلب الطلاق من زوجها، ولكنها لا تقدم على مثل هذه الخطوة إلا عندما يطفح الكيل بها وتسد أمامها كل الطرق لإصلاح الزواج الفاشل.
ولكن المفاجأة التي كشفت عنها الدراسة هي أنّ الوضع الوظيفي للزوج قد يكون حافزاً له على التفكير في الطلاق، وبحسب الدراسة فإن فقدان الزوج لوظيفته لا يرفع فقط من إحتمالات أن تقدم زوجته على طلب الطلاق، وإنما أيضاً أن يبادر هو ذاته لتطليقها، ويستوي في ذلك الأزواج السعداء والتعساء في حياتهم الزوجية.
وترجع البروفيسورة ليان الإختلاف في تأثير فقدان الوظيفة في قرار كل من الزوج والزوجة بطلب الطلاق إلى التغييرات غير المتماثلة التي طرأت على الأدوار غير التقليدية لكل من الزوج والزوجة، مشيرة إلى أن إحتمال إقدام الرجل العاطل عن العمل على طلب الطلاق يكشف أنّ الزواج الذي يفقد فيه الزوج وظيفته لا يتطابق مع الصورة التي في مخيلة الرجال عما يجب أن يكون عليه الزواج.
وتضيف أن عمل المرأة النقيض من ذلك لا يشجع على الطلاق الذي يبادر إليه الزوج، وهذا يشير إلى أن قرار الزوجة بالدخول إلى سوق العمل لا ينتهك أياً من عادات الزواج، ولكنه يعني من ناحية أخرى توفير ضمانة مالية تمكن الزوجة من مغادرة الزواج عندما تستنفد كل الخيارات المتاحة أمامها لإستمراره.
وترى ليان أنّ هذا التباين يرجع إلى التغييرات التي طرأت على الأدوار التقليدية لكل من الرجل والمرأة في المجتمع، نتيجة شيوع عمل المرأة والقبول به إجتماعياً من ناحية، وعدم القبول إجتماعياً بأن يكون الزوج عاطلاً وعالة على زوجته من ناحية أخرى.
- زواج المهنة:
الحصول على وظيفة أو فقدانها ليس هو الطريقة الوحيدة التي تؤثر بها الحياة المهنية في الحياة الأسرية، وإنّما نوعية الوظيفة يمكن أن تلعب دوراً حاسماً في تحديد طريقة التأثير وعمق التأثيرات.
وتقول البروفيسورة ليزلوت دربي، إختصاصية الرعاية في كلية طب "مايو كلينيك" الأساسية، إن بعض المهن دون غيرها تجبر أصحابها على الإخلال بالتوازن بين حياتهم الأسرية وحياتهم المهنية، مثل الجراحين ورجال الشرطة والإطفائيين والطيارين والمضيفين، مشيرة إلى أن عمق تأثير نوعية الوظيفة يكون أكبر في حالة المرأة بالمقارنة مع الرجل.
وتشير ليزلوت إلى أن عدم التماثل في طبيعة العمل بين الزوج والزوجة أصبح الآن من أهم المعايير التي ينظر إليها أغلب المقدمين على الزواج لتفادي التعارض المهني.
وتضيف أن نتائج الدراسات العلمية التي أجريت في هذا المجال تشير إلى أنّ الأشخاص الذين يعملون في وظائف تتمتع بقدر كبير من الإستقلال والتحكم في مواعيد عملهم هم أكثر الناس جلباً لمهام عملهم إلى المنزل.
وتلفت إلى أن إحدى الدراسات التي تضمنت إستطلاع رأي 2600 موظف وموظفة أشارت إلى أنّ الإستقلال الوظيفي والقدرة على التحكم في مواعيد بداية ونهاية الدوام من أكثر العناصر التي تؤدي إلى زوال الحدود الفاصلة بين الحياة الأسرية والحياة المهنية.
وتوضح ليزلوت أن تقدير حجم التداخل بين الحياة المهنية والأسرية لا يتحدد فقط بعدد الإتصالات المرتبطة بالعمل التي يتلقاها الفرد خارج ساعات الدوام الرسمية، وإنّما أيضاً بعدد المرات التي يقوم فيها بجلب واجباته المهنية لإنهائها في المنزل.
- وسائل الإتصال:
من المفارقات الشديدة أن تكنولوجيا الإتصالات التي ينظر إليها على أنها وسيلة لتحقيق التواصل بين الأفراد وأعمالهم وحل لمشكلات عدم التوازن بين الحياة الأسرية والمهنية هي ذاتها مصدر هذه المشكلات.
ووفقاً لدراسة أجرتها جامعة "تورنتو" الكندية فإن إستخدام تقنيات الإتصال ينطوي على جانب مظلم، ولكن عمق تأثيرها يختلف من الزوج إلى الزوجة.
واعتمدت الدراسة المنشورة في دورية "هيلث آند سوشيال بيهيفيور" (Journal of Health and Social Behavior) على إستطلاع رأي 7000 من العاملين في مختلف الوظائف والقطاعات حول متوسط عدد الإتصالات المتعلقة بالعمل التي يتلقونها في غير أوقات الدوام الرسمية، وعندما يكونون مع أسرهم، سواء عن طريق الهاتف أو الرسائل النصّية أو البريد الإلكتروني.
ووفقاً للدراسة فإنّ النساء العاملات اللاتي يتلقين إتصالات من رؤسائهنّ وزملائهنّ وعملائهنّ وهنّ في المنزل وخارج ساعات العمل الرسمية يعانين ضغوطاً نفسية، مقارنة مع الرجال الذين يتلقون الكم نفسه من الإتصالات خارج ساعات الدوام الرسمية.
ويقول البروفيسور بول جلفين، أستاذ علم الإجتماع بجامعة تورنتو والمشرف على الدراسة، إنّ الإعتقاد الشائع هو أن إتصالات العمل المتكررة للمرأة العاملة في منزلها تسبب لها مزيداً من الضغوط لأنّها تعطل قيامها بإلتزاماتها الأسرية، ولكن هذا الإعتقاد ليس صحيحاً لأنّ النساء قادرات مثل الرجال تماماً على تحقيق التوازن بين حياتهنّ المهنية والأسرية، ولكن الضغوط النفسية التي تشعر بها المرأة مرجعها إحساسها بالذنب حتى ولو لم تقصر في واجباتها الأسرية، بينما لا يعاني الرجال إحساساً مماثلاً بالشعور بالذنب.
ويشير البروفيسور بول إلى أنّ هناك إختلافاً في سقف التوقعات بين الرجل والمرأة حول الحدود الفاصلة بين الحياة المهنية والأسرية، وهذا الإختلاف في سقف التوقعات يترك بصماته على الإنفعالات والضغوط النفسية.
ويرى أنّه في الوقت الذي تتزايد فيه الضغوط على المرأة للخروج إلى مقر العمل للمساهمة في كسب الرزق ومواجهة تحديات العيش، فإنّ الثقافة المجتمعية حول الإلتزامات والمسؤوليات الأسرية وحدود الممنوع والمسموح مازالت جامدة وعاجزة عن مواكبة التغير الذي طرأ على دور المرأة.
- مواعيد عمل المرأة تترك بصمات قوية على الحياة الزوجية:
على الرغم من عدم وجود فروق تذكر بين الزوج والزوجة فيما يتعلق بدرجة الإستقلال الوظيفي والتحكم في بداية الدوام، فإن تأثر الزوجات يكون أكبر نتيجة الإضطرار إلى العمل لساعات متأخرة ليلاً، تبعاً لجدول نوبات عمل متغير من يوم لآخر. ووفقاً لدراسة أجرتها جامعة سينسيناتي وأشرف عليها البروفيسور ديفيد ميوم أستاذ علم الإجتماع بالجامعة، فإنّ التقلبات في مواعيد عمل المرأة تترك بصمات قوية على نوعية ومستوى الحياة الزوجية التي تنعم بها. ويرى البروفيسور ديفيد أن تأثر الحياة الزوجية للمرأة نتيجة العمل وفقاً لجدول نوبات متغير أكبر بالمقارنة مع تأثر حياتها الزوجية نتيجة العمل لساعة متأخرة في الليل، لأنّ التقلب يحد من قدرتها على القيام بواجباتها الأسرية والتواصل مع كافة أفراد الأسرة. ويقول إنّ ظروف عمل الزوجين وبصفة خاصة الزوجة يمكن أن يكون لها تأثير عميق في نظام الأسرة الغذائي وحالة أفرادها الصحية، مشيراً إلى أنّه كلما كانت ظروف عمل الزوجين أفضل، زادت إحتمالات حصولهما على وجبات صحية في المنزل، وزادت إحتمالات مشاركتهما معاً في إعداد الطعام وتناوله، وكانت الأسرة أكثر إنتظاماً في مواعيد تناول الوجبات، وأقل إحتمالاً لعدم حصولها على إحدى الوجبات.
أزواج وزوجات يصرخون: وظائفنا خربت بيوتنا!
- التفاصيل